نحو منهج في عرض الترجمة القرآنية

مخاطر الترجمة غير المضبوطة علميا على العقيدة والفكر

“نحو منهج في عرض الترجمة القرآنية “

-دراسة تحليلية استشرافية-

تمهيد:

تفاعلت البشرية مع القرآن الكريم كرسالة مقدسة من الله تعالى، و تنوعت اتجاهاتها و مواقفها منه وتعددت اهتماماتها حفظا وتلاوة؛ تفسيرا و تأويلا؛ تدبرا و تمعنا؛ فهما و تنزيلا؛ نشرا و توزيعا؛ إعجازا و ترجمة.

ذلك لخصوصية القرآن التي اقرها الله منها أن القرآن ذاته كتاب هدى ودلالة على الحق ودعوة إليه، قال تعالى: }إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم … {( الإسراء : 9 ).

وقال تعالى مخبراً عن الجن لما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم:}قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم{( الأحقاف : 30 ).

حيث تضافرت الجهود الخيرة من أفراد ومؤسسات في خدمة القرآن الكريم، و تنوعت إبداعاتها في هذا المجال و أخذت أشكالا كثيرة من تلوين و ترقيم و تجزيء و تفسير و ترجمة إلى اعتماد الوسائط المتعددة التي تتخذ من البرمجة الرقمية وسيلة.

ومن مظاهر هذه الخدمة :

الترجمة القرآنية-أو ما تسمى ترجمة معاني القرآن- التي تعتبر استجابة موضوعية وواقعية لاحتياجات الساحة الإسلامية و تلبية لانتشار الإسلام في بقاع الدنيا ،ورغبة المستشرقين في دراسة الظاهرة القرآنية.[1]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ([2]) رحمه الله :

“ولهذا دخل في الإسلام جميع أصناف العجم من الفرس والترك والهند والصقالبة والبربر ومن هؤلاء من يعلم اللسان العربي, ومنهم من يعلم ما فرض الله عليه بالترجمة وقد قدمنا أنه يجوز ترجمة القرآن في غير الصلاة والتعبير؛ كما يجوز تفسيره باتفاق المسلمين”.

و تعتبر الترجمة القرآنية منطلقا مهما في انتشار دعوة القرآن إلى الآفاق-و إن كانت لغة القرآن العربية لها سحر عند عموم البشر- من جهة و اهتمام الباحثين من المسلمين وغيرهم به و اعتماده كمصدر في البحوث الأكاديمية و العلمية من جهة أخرى.

و القرآن الكريم يتضمن محاور و مواضيع اتفق علماء التفسير الموضوعي على تصنيفها، ومن أهمها موضوع التوحيد و العقيدة.

و قد شكلت مسائل العقيدة وموضوعاتها في التاريخ الإسلامي إشكالا منهجيا و تضاربا موضوعيا و اختلافا واقعيا كانت لها الأثر في تمزيق الأمة و اختلافها إلى ملل و فرق.

و المتصفح لحقيقة الخلاف بنظرة واعية دقيقة بعيدة عن الاعتبارات المذهبية و التأثيرات النفسية والضغوط الواقعية يدرك إن هذا الاختلاف في معظمه وهمي، و في الكثير من الأحيان استغله الحكام والساسة و أصحاب النفوذ و المصالح و الأهواء لتبرير مواقفهم و الاستفادة من هذا التمزق سياسيا و اقتصاديا و إيديولوجيا.

ومن هذه المسائل العقدية التي أخذت حيزا في الفكر الإسلامي، مسألة الصفات و آياتها في القرآن الكريم،التي اختلفت الأمة حولها و تعددت المدارس في فهمها و ألفت الكتب و الردود و أنجزت الرسائل و البحوث، و للأسف إن كل هذا الجهد يدخل في إطار دراسة الأعراض لا الجواهر، النتائج لا المسببات.

لان الخلاف – في نظري- بين السلفية و الاشعرية و الماتريدية …. مثلا هو اختلاف في مناهج عرض العقيدة لا في موضوعها القرآني الواحد.[3]

فإذا كان هذا شأن أصحاب اللسان العربي مع آيات القرآن العربي في آيات الصفات، فما هو شأن الأعاجم مع هذه الآيات؟؟!

فكانتا هذه الدراسة المتواضعة لبحث آيات الصفات المترجمة إلى لغات أخرى و تتبعها ،خاصة و عند اطلاعي على النسخة الفرنسية و الانجليزية لترجمة معاني القرآن ،وتوقفت عند آيات الصفات فأحسست بخوف من سوء فهم جديد و ربما ظهور فرق جديدة لكن هذه المرة بطريقة مؤسفة ،قد يكون لها الأثر السيئ على العقيدة و الفكر الإسلامي.

أولا: مفهوم الترجمة القرآنية:

أ: مفهوم الترجمة:

جاء في بعض كتب اللغة :

” الترجمان: المفسر للسان؛ وفي حديث هرقل: قال لترجمانه.

الترجمان بالضم والفتح هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى لغة أخرى والجمع التراجم والتاء والنون زائدتان وقد ترجمه , وترجم عنه ” ([4]).

” والترجمان: المفسر “([5]) .

” وترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان وجمعه تراجم ” ([6])

” وترجم فلان كلامه إذا بيَّنه وأوضحه”

وترجم كلام غيره إذا عبر عنه بلغة غير لغة المتكلم، واسم الفاعل ترجمان : وفيه لغات أجودها: فتح التاء وضم الجيم, والثانية ضمهما معا بجعل التاء تابعة للجيم, والثالثة فتحهما بجعل الجيم تابعة للتاء والجمع تراجم, والتاء والميم أصليتان فوزن ترجم:فعلل مثل دحرج”([7]).

والترجمة عملية لتحويل نص أصلي مكتوب (ويسمى النص المصدر) من اللغة المصدر إلى نص مكتوب (النص الهدف) في اللغة الهدف. فتعد الترجمة نقل للحضارة الثقافة والفكر واللغة.[8]

و المقصود هنا الجهد اللغوي لتحويل المادة من أصلها اللغوي إلى لغة أخرى لهدف معين و بمنهجية معينة ووفق شروط معينة.

وعليه فإن النظر في كتب اللغة يقودنا إلى أن لفظة الترجمة مفردة جاءت بمعنى:
التبيين, والتوضيح، والتفسير, وذلك باللغة نفسها أو بلغة أخرى.وترجم لفلان أو عنه: بين تاريخه وسيرته.و ترجم للكتاب أو الباب أي عرفه أو عرف به.

وترجمة القرآن: أي تفسيره وبيان معانيه.

وترجمان القرآن: أي تفسيره، وقد سمى به السيوطي تفسيرا مطولاً اختصره في الدر المنثور([9]).

وترجمان القرآن: أي مفسره, وربما البارع في تفسيره وتأويله, وقد اشتهر به ابن عباس رضي لله عنهما؛ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “نعم ترجمان القرآن ابن عباس” ([10]).

ومن هنا ندرك أن المقصد من الترجمة لغة هو التبيان و التوضيح للكلام حتى لا يصبح فيه شبهة تأويل أو قراءة خاطئة عند المخاطب به أو تحتمل أوجه عديدة.

ب : مفهوم الترجمة القرآنية و تاريخها:

و الترجمة القرآنية تحقق المعني اللغوي من التبيان و التفسير للنص القرآني إلى لغات أخرى قصد تقريب المعنى و تبسيطه وبيانه ،و تمثل هذه التجربة محاولة ترجمة المعاني ،ولهذا تعارف الناس على أنها ترجمة لمعاني القرآن،وهي مقاربة توفيقية للمعنى القرآني.

وفي ذلك يقول النووي في المجموع ([11]) : “ترجمة القرآن ليست قرآناً بإجماع المسلمين، ومحاولة الدليل لهذا تكلف, فليس أحد يخالف في أن من تكلم بمعنى القرآن بالهندية ليست قرآناً، وليس ما لفظ به قرآناً, ومن خالف في هذا كان مراغماً جاحداً، وتفسير شعر امرئ القيس ليس شعره، فكيف يكون تفسير القرآن قرآناً ؟ .

وقد سلموا أن الجنب لا يحرم عليه ذكر معنى القرآن، والـمُحْدِث لا يمنع من حمل كتاب فيه معنى القرآن وترجمته , فعلم أن ما جاء به ليس قرآناً، ولا خلاف أن القرآن معجز وليست الترجمة معجزة، والقرآن هو الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم العرب ووصفه الله تعالى بكونه عربياً “.

فالترجمة القرآنية لا ينطبق عليها ما ينطبق على القرآن من أحكام تعبدية أو أدبية[1] ،لأنها اجتهاد بشري في فهم النص القرآني .

و قد احدث هذه الاجتهاد جدلا في الفكر الإسلامي بين ناكر و مجيز ومتخوف كعادة النوازل في المجتمعات الإسلامية ،لكن الضرورة الواقعية فرضتها بشروط،فقد قال ابن تيمية([12]) :” وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه…ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة “.

هذا الاختيار التي اتبعه ابن تيمية كون الترجمة فرع و ليست أصلا و نحتاج إليها بقدر الضرورة و الضرورة تقدر بقدرها ، يمثل مبدءا أساسيا و منهجا معتبرا في عملية الترجمة القرآنية ،وهي عملية استثنائية تدخل في فروض الكفاية.

وتوالت الجهود في خدمة القرآن ترجمة من أفراد و مؤسسات و تعددت النيات في ذلك فقد:”جاء في بعض الدراسات أن ترجمة سيل -وهي أشهر ترجمة لمعاني القرآن بالإنجليزية حتى اليوم- التي أصدرها جورج سيل George Saleعام 1734م وسماها ” قرآن محمد ” سادت أوروبا وأمريكا قرابة قرنين من الزمان، وقد اعتمد في ترجمته على ترجمة ماراكسي Marracci التي صدرت عام 1698م وارتكزت على أن القرآن من وضع محمد عليه الصلاة والسلام، وأن هدفه هو إخضاع الناس بالسيف, ولسوئها -رغم انتشارها وقبول الكثيرين لها- عارضها بعض المؤرخين الفرنسيين بزعامة المؤرخ الفرنسي الكونت هنري دو بولنفيلييه، لكنه هوجم واتهم بأنه نصب نفسه مدافعاً عن الإسلام من أجل تحطيم خير الكاثوليكية ([13])!.

و اعتقد أن هذا الاعتبار التاريخي بمثل احد المخاوف و المخاطر مستقبلا و إخراج القرآن من قدسيته و إلحاقه بكلام البشر و الحكماء.

وأتت ترجمة جورج سيل مثل ترجمة ماراكسي متعصبة منكرة للقرآن , وقد طبعت أكثر من ثلاثين مرة , وتمت ترجمتها من الإنجليزية إلى اللغات: الدانمركية عام 1742م, والفرنسية عام 1750م, والألمانية عام 1764م, والروسية عام 1792م, والسويدية عام 1814م, والبلغارية عام 1902م.ثم توالت ترجمات أخرى بالإنجليزية اعتمدت على هذه الترجمة السيئة ([14]).

و بالرغم من هذا التجربة المغرضة و العدائية و باعتبار التكفل الالهي بحفظ القرآن ظهرت الكثير من التجارب الناجحة و الواعدة من افراد و مؤسسات ،و تطور اداء هذه المؤسسات الاسلامية اعلاميا و تكنولوجيا و اكاديميا ، فظهرت دور النشر المتخصصة

و المراكز الخاصة بخدمة القرآن.

وكان لمحمع الملك فهد بالمدينة المنورة الدور الاساس في انتشار القرآن و ترجمات معانية الى لغات الدنيا من طبعاته المختلفة و ندواته المتعددة التي ساعدت في تطوير الترجمة القرآنية.

ثانيا:نماذج من آيات الصفات في النسخة الفرنسية و الانكليزية .

  1. 1. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة 29

-بالفرنسية:[2]

C’est Lui qui a créé pour vous tout ce qui est

sur la terre, puis Il a orienté Sa volonté vers le

ciel et en fit sept cieux. Et Il est Omniscient.

-بالانكليزية[3]:

It is He Who hath created for you all things that are on earth; Moreover His design comprehended the heavens, for He gave order and perfection to the seven firmaments; and of all things He hath perfect knowledge.

2- إن رَبَّكُمُ اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استويٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الاعراف 54

-الفرنسية:

Votre Seigneur, c’est Allah, qui a créé les cieux et la terre en six jours, puis S’est établi «’istawâ» sur le Trône. Il couvre le jour de la nuit qui poursuit celui-ci sans arrêt. (Il a créé) le soleil, la lune et les étoiles, soumis à Son commandement. La création et le commandement n’appartiennent qu’à Lui. Toute gloire à Allah, Seigneur de l’Univers!

– الانكليزية:

Your Guardian-Lord is Allah, Who created the heavens and the earth in six days, and is firmly established on the throne (of authority): He draweth the night as a veil o’er the day, each seeking the other in rapid succession: He created the sun, the moon, and the stars, (all) governed by laws under His command. Is it not His to create and to govern? Blessed be Allah, the Cherisher and Sustainer of the worlds!

3- وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ هود 37

-الفرنسية:

Et construis l’arche sous Nos yeux et d’après Notre révélation. Et ne M’interpelle plus au sujet des injustes, car ils vont être noyés».

-الانجليزية:

But construct an Ark under Our eyesand Our inspiration, and address Me no (further) on behalf of those who are in sin: for they are about to be overwhelmed (in the Flood).”

4- وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ الزمر 67 .

-الفرنسة:

Ils n’ont pas estimé Allah comme Il devrait l’être alors qu’au Jour de la Résurrection, Il fera de la terre entière une poignée, et les cieux seront pliés dans Sa [main] droite. Gloire à Lui! Il est au-dessus de ce qu’ils Lui associent.

الانجليزية:

No just estimate have they made of Allah, such as is due to Him: On the Day of Judgment the whole of the earth will be but His handful, and the heavens will be rolled up in His right hand: Glory to Him! High is He above the Partners they attribute to Him!

5 إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا الفتح 10

الفرنسية:

Ceux qui te prêtent serment d’allégeance ne font que prêter serment à Allah: la main d’Allah est au-dessus de leurs mains. Quiconque viole le serment ne le viole qu’à son propre détriment; et quiconque remplit son engagement envers Allah, Il lui apportera bientôt une énorme récompense.

الانجليزية:

Verily those who plight their fealty to thee do no less than plight their fealty to Allah: the Hand of Allah is over their hands: then any one who violates his oath, does so to the harm of his own soul, and any one who fulfils what he has covenanted with Allah,- Allah will soon grant him a great Reward.

6-. مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّـهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿البقرة: ١٠٥﴾

-الفرنسية:

Ni les mécréants parmi les gens du Livre, ni les Associateurs n’aiment qu’on fasse descendre sur vous un bienfait de la part de votre Seigneur, alors qu’Allah réserve à qui Il veut sa Miséricorde. Et c’est Allah le Détenteur de l’abondante grâce.

-الانجليزية:

It is never the wish of those without Faith among the People of the Book, nor of the Pagans, that anything good should come down to you from your Lord. But Allah will choose for His special Mercy whom He will – for Allah is Lord of grace abounding.

ثالثا: مخاطر الترجمة غير المضبوطة علميا على الفكر والعقيدة:

و بانتشار الإسلام و دعوته اقتضى الحال إيجاد فضاءات جديدة ومحاولات مبتكرة لخدمة كتاب الله تتفق مع متطلبات الدعوة و مقتضياتها الحديثة، فمن الجهود المعتبرة و المتميزة في هذا المجال الترجمة القرآنية.

و لخصوصية كلام الله و كتابه من حيث المبنى و المعنى، كانت المهمة صعبة و شاقة، و قد تكفل بها جيل من الصادقين من دعاة الإسلام وكذلك الكثير من المحققين المستشرقين.

و لكن للأسف وقعت الترجمة القرآنية –في بعض الأحيان- في العمل العشوائي و أصبح كل واحد يريد أن يتعامل مع المسألة القرآنية دون منهج علمي واضح و دون ضوابط و قواعد تحكم الترجمة.

ولهذا” عرفت ترجمات عديدة للقرآن الكريم إلى لغات شتى من أهمها : الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والتركية والأردية والهندية والفارسية والبشتو وغيرها؛ مليئة بالأغلاط والأخطاء الفاحشة” ([15]

و سبب هذه الأغلاط و الأخطاء في المجالات التالية:

  • سوء فهم النص العربي القرآني في سياقه.
  • اقتحام ميدان الترجمة من غير المتخصصين و العارفين بعلوم القرآن.
  • سوء فهم حال المخاطبين و مستوياتهم .

و في هذا المجال يقرر ابن تيمية رحمه الله ([16]):”الترادف في اللغة قليل , وأما في ألفاظ القرآن إما نادر وإما معدوم([17]), وقلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه, بل يكون فيه تقريب لمعناه, وهذا من أسباب إعجاز القرآن“.

و مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم لا تنطبق على اللغات الأخرى ،لخصوصية اللغة العربية من حيث بديعها و بيانها و حقيقتها و مجازها….

ولذلك يرد النقد أحياناً على نشر ترجمة ما في بيئة غير إسلامية , على الرغم من جودتها وسلامة وجهتها، لكنها مناسبة للمسلمين أكثر من غيرهم، وبذلك تقل الاستفادة منها في غيرهم , بل قد تكون سبباً في صد غير المسلمين ([18]).

و الواجب هنا اعتماد مترجمين علماء بلغة القوم ،ليتم اختيار الفظة المناسبة و التركيب الصحيح.

ومن خلال النصوص السابقة و ترجماتها – الامثلة الانموذجية – و هي متعلقة في الاصل بما يسمى في علم العقيدة بآيات الصفات ،كانت و مازالت محل جدال و نقاش في الساحة الاسلامية نشير الى محاذير منهجية و التباسات موضوعية و مخاوف واقعية :

أ‌- تجسيد الذات الالهية:

فاذا كان العرب يفهمون هذه المصطلحات من خلال فطرتهم السليمة و لغتعهم بابعادها الحقيقية و المجازية،فما هو شأن بالاعاجم؟ و خاصة ان المترجم في الكثير من الاحيان ليس من اصل المخاطبين.

و يزداد هذا الاتجاه اتضاحا خاصة ان البيئة الاوروبية تحكمها التصورات المادية الحسية.هذا من جهة ومن جهة اخرى التواحد الفعال لليهود و عقيدتهم التجسيدية.

ف “يميني” ليست بالضرورة “ma main droite – او my right hand”،

و هل يفهم من ذلك استلزام لفظة “شمالي ؟؟؟

فمن الواجب هنا اما:

– اعتماد هذه الترجمة مع مقدمة في اصول العقائد.

-او اختيار اللفظ المناسبة من ثقافة المخاطبين .

ب‌- سوء فهم التوحيد :

فمن خلال عدم التحكم في الترجمات و انتشارها دون ضابط علمي و بانتشار الكثير من الافكار الجديدة التى توهم انها تخدم الاديان السماوية، كفكرة الابراهيمية التى تدعو الى أن أصل الاديان واحد .

فاذا كان بعض المفسرين العرب قد اتهموا بوجدة الوجود[4] من سوء فهم التفسير العربي لبعض الأيات المتعلقة بالصفات ،فكيف سيكون حال هؤلاء المترجمين للنص القرآني من حيث المعنى.

واذا كان مفهوم الاستواء قد احدث ضجة في الفكر الاسلامي ، فترجمة هذا المصطلح “استوي – S’est établi او established ” قد تثير اشكالات جديدة [5] على مستوى التنظير لعلم العقيدة الموجه للاعاجم.

ج- محاولة التشكيك في القرآن :

اشرنا الى المحاولات الاولى للترجمة و كانت غير علمية و مغرضة ،كان منطلقها ان القرآن هو كلام محمد ، و مبعثه كذلك التناقضات التي تعيشها النسخ المتعددة للتوراة و الانجيل.

فوجود محاولات للترجمة القرآنية عير المضبوظة علميا و منهجيا قد تثير الكثير من الاشكالات منها اخضاع النص القرآني للمعايير البشرية او ادخاله فيما يسمى بتاريخية النص القرآني.

د- تأثير هذا الفهم على العمل و السلوك:

اعتقد ان الحكم على الشيء جزء من تصوره ومن ثم يكون العمل و السلوك وفق التصورات،فتصور الصحابة الصحيح لمسائل العقيدة و اعتماد المنهج العملي للعقيدة هو الذي جعلهم يتفاعلون معها فكانت كل سلوكاتهم موافقة لحقيقة التوحيد دون الوقوع في المجادلات النظرية.

رابعا:: منطلقات لازمة لمنهج الترجمة القرآنية (رؤية استشرافية):

تعثير الترجمة القرآنية ضرورة موضوعية و مقتضى دعوي و اعتبارا واقعيا و بعدا حضاريا إنسانيا ،تدخل في إطار مقتضيات الدعوة الإسلامية و تطلعاتها في العصر الحديث،خاصة

و أن العالم قرية صغيرة تحكمها الشبكات الاجتماعية الرقمية و الاقنية الفضائية.

قال تعالى }هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب{ (إبراهيم:52).

قال الزركشي في البرهان([19]): ” فائدة : قال الحافظ أبو طاهر السلفي : سمعت أبا الكرم النحوي ببغداد وسئل:كل كتاب له ترجمة , فما ترجمة كتاب الله.فقال : }هذا بلاغ للناس ولينذروا به{.

إن القيام بالترجمة الصحيحة لمعاني القرآن الكريم وفق منهج مبني على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفهم صحابته رضوان الله عليهم، يقطع الطريق على أهل الأهواء والبدع واجتهادات غير المؤهلين, وكم نشر من ترجمات تحمل ضلالات تسيء إلى الإسلام , وكانت سبباً في البعد عنه وردِّ دعوته، سواء أكان من ذلك بقصد الإساءة والتضليل…….. ([20])

ذلك أن الجهد الدعوي و البحث العلمي و اهتمام الناس كافة بالقرآن جعل للترجمة أهمية في عرض القرآن الكريم و لتفادى المخاطر و المزالق على مستوى الفكر و العقيدة و الاستفادة منها ايجابيا ،اقترح هذه المبادئ:

أ‌- طبع القرآن باللغة العربية مع كل نسخة مترجمة.

فالذين يذهبون إلى ضرورة وجود النص القرآني مع الترجمة أو وجود أصل التفسير باللغة العربية مع ترجمته لهم مقصد حسن يتمثل في تأكيد أن الترجمة ليست قرآناً, وأنها عمل بشري قابل للنقص والخطأ, ويريدون بذلك دفع التوهم بهذا الضابط, ولقد ورد ذلك صراحة في بعض الفتاوى والشروط التي أعقبت جدلاً كبيراً حول حكم الترجمة ([21]).

ذلك أن القرآن العربي الخالد يمتاز بالإعجاز،فشاءت إرادة الله أن ينزله بلغة العرب لحكمة تتعلق بانسجام البشر جميعا مع اللفظ القرآني العربي.

وذلك أن اللسان الذي اختاره الله -عز وجل- لسان العرب لحكمة يريدها وارتضاها فأنزل به كتابه الخالد وجعله لسان نبيه الخالد برسالته محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها؛ لأنها اللسان الأولى، و العربية تنسجم مع الفطرة البشرية.

ب‌- اعتماد الجهد الجماعي المؤسسي في ترجمة القرآن:

و ذلك باختيار فريق واسع من المتخصصين في المجالات الشرعية و الانتروبولوجية…

وأن يكون المترجم عالما في المسائل التي يقوم بترجمتها ،قال مجاهد([22]): “لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إن لم يكن عالماً بلغات العرب”.

فمن باب الأولى أن يكون المترجم عالما بلغات و لهجات الأقوام التي توجه إليهم الترجمة.

ج-طبع التفسير الموضوعي – خاصة موضوع العقيدة – مع النسخة المترجمة.

وهذا المسلك مهم و له دلالة و قيمة يسهل الولوج إلى معاني القرآن و التفاعل معها دون أي شبهة تأويل خاطئ أو تعطيل .

وهذا الأسلوب يمكن أن يرتكز فيه على ما يعرفه المتخصصون في مجال التفسير ويصطلحون عليه أحيانا بالتفسير الموضوعي سواء كان ذلك بحسب الموضوع أم بحسب السورة([23]),

مما يجعلنا مطمئنين أن جمهور المخاطبين بالترجمة القرآنية أكثر وعيا و اداركا لمحاور القرآن،”لذلك كان لا بد من الاتجاه إلى كتابة تفسير باللغة العربية، ثم نقله إلى اللغات الأوروبية وإلى لغات المسلمين على اختلافها ليعرفوا معاني القرآن الذي يحفظه الكثيرون منهم ولا يدركون معناه.([24])

قال الزرقاني في مناهل العرفان ([25]) :

” وإذا كان تفسير القرآن بياناً لمراد الله بقدر الطاقة البشرية؛ فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب, وما ليس بلغة العرب؛ لأن كلا منهما مقدور للبشر وكلا منهما يحتاج إليه البشر, بيد أنه لا بد من أمرين:

أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير؛ باعتبار أنه تفسير.

وأن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربي بلغة غير عربية “.

ت‌- الإشارة إلى آيات الصفات و كيف نفهما في مقدمة النسخة أو مقدمة السورة :

وذلك باعتماد منهج التنزيه و التفويض و التسليم وذلك أن مجموع آيات التنزيه للذات الإلهية عامة و شاملة وواسعة من آيات المتشابهات،و قرر الله ذلك في ذكر الآيات المحكمات و الآيات المتشابهات.

وأصل ذلك قوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11] ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل : 74] ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص : 4].

كون العبارة مختصرة وسهلة مع بيان معاني الألفاظ الغريبة أثناء التفسير([26]).

و قطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات. يدل عليه قوله تعالى :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه :110]. فلو سأل سائل عن كيفية صفة من صفات الله سبحانه وتعالى كأن يقول : كيف يسمع ؟ أو كيف يبصر ؟ أو كيف استوي ؟ أو كيف ينزل ؟ أو كيف يضحك أو كيف يغضب أو كيف يده ؟ أو ما أشبه ذلك من الأسئلة

ث‌- اعتماد رجع الصدى FEEDBACK :

من خلال البحوث الاستقرائية و الاستشرافية لمعرفة الأخطاء و سوء الفهم ومن ثم تفاديها مستقبلا في النسخة القادمة.

و يمكن اعتماد استبيان في كل نسخة لملإها و إرجاعها إلى دار النشر ومن ثم الاستفادة من ملاحظات و تعقيبات الجمهور.

و في هذا الصدد قمت بتوزيع استبيان شبه مغلق على عينة مقصودة حول فهم النص المترجم للقرآن الكريم[6].

إن الترجمة القرآنية من اجل الأعمال الدعوية التي نتقرب بها إلى الله ، و شرط الأعمال في الإسلام : الإخلاص و الصواب، ومن الصواب اعتماد المنهج العلمي و الخبرة الصحيحة التي تهدف إلى الإحسان و الإتقان المطلوبين شرعا. وخاصة أن هذا العمل يتعلق بكتاب الله.

فمن الواجب وضع إستراتيجية موحدة و رؤية متفق عليها و تصور جامع بين كل العاملين في حقل الترجمة القرآنية، لتفادي الأخطاء و الالتباسات حول كتاب الله. من ثم عرض القرآن و مواضيعه في أحسن حلة تحقق أهداف دعوة الإسلام.

  • توصيات:

– تكوين رابطة عالمية للمهتمين بالترجمة القرآنية.

و الله الموفق.

الهوامش:


[1] اقصد هنا الاعجاز البياني مثلا.

[2] ترحمة حميد الله .

[3] ترجمة يوسف علي.

[4] كصاحب الظلال سيد قطب رحمه الله.

[5] –مع ان ترجمة حميد الله وضعت لفضة استوى بالابجدية الفرنسية «’istawâ»-

[6] راجع الملحق



[1] أبدع الأستاذ مالك بن نبي باعتبارها ظاهرة في كتابة المشهور “الظاهرة القرآنية “للاعتبارات التي ذكرتها.

([2]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام : 2 /67 .

[3] راجع مقال بدرالدين زواقة :المنهج في عرض موضوعات الدعوة عرض العقيدة أنموذجا –مجلة المعيار-كلية الشريعة و أصول الدين و الحضارة الإسلامية-جامعة الأمير

عبد القادر-الجزائر-عدد20-فيفري 2010.ص 139.

([4]) لسان العرب : مادة ( ترجم ) : 12 / 66.

([5]) المرجع السابق : مادة ( رجم ) : 12 / 229

([6]) مختار الصحاح : مادة ( رج م ) : 236 .

([7]) المصباح المنير : ( ترج ) : 1 / 29 .

[8] مندي، جرمي. مدخل إلى دراسات الترجمة: نظريات وتطبيقات.ص18. ترجمة هشام علي جواد؛ مراجعة عدنان خالد عبد الله. أبو ظبي

([9]) انظر : الدر المنثور 1 / 9 .

([10]) انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 1 / 3.

ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 13 / 365.

([11]) المجموع، للنووي : 3 / 342

([12]) درء تعارض العقل والنقل : 1 / 43

([13]) انظر المستشرقون وترجمة القرآن الكريم للدكتور محمد صالح البنداق ص 106 .

([14]) انظر: نظرات في قضية ترجمة معاني القرآن الكريم للدكتور فهد بن محمد المالك، مجلة البيان العدد 94ص 46 , 47 .

([15]) انظر : هدى الفرقان في علوم القرآن، د. غازي عناية ص 217

([16]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 13 / 341 , 342

([17]) هناك دراسة دقيقة متخصصة , عنوانها : ( الترادف في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق ) لمحمد نور الدين المنجد , خلص الباحث فيها إلى خلو القرآن الكريم من الترادف وهو جانب من جوانب الإعجاز اللغوي في مفرداته , انظر ص 256 .

([18]) انظر عناية المملكة العربية السعودية بتفسير القرآن وترجمة معانيه للدكتور مانع الجهني ص 13 .

([19]) البرهان في علوم القرآن 1 / 282 .

([20]) انظر : ترجمة القرآن، د. عبد الله شحاتة ص 11

ودراسات حول القرآن، د. بدران أبو العينين بدران ص 23

([21]) انظر لغة القرآن الكريم للدكتور عبد الجليل عبد الرحيم ص 537 . وترجمة القرآن للدكتور عبدالله شحاتة , ص 33 – 37 .وهدى الفرقان في علوم القرآن , د. غازي عناية : 3 / 239 .

([22]) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 292

([23]) انظر : مباحث في التفسير الموضوعي للدكتور مصطفى مسلم , ص 37 – 46.

([24]) انظر : ترجمة القرآن للدكتور عبد الله شحاتة ص 13 – 19 , ومقدمة المنتخب في التفسير.

([25]) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2 / 95 و 96 .

([26]) انظر عناية المملكة العربية السعودية بتفسير القرآن وترجمة معانيه , بحث للدكتور مانع بن حماد الجهني ص 6 , 7 , علما أن الدكتور مانع أحد أعضاء لجنة الترجمة بوزارة الشؤون الإسلامية .

* الدكتور بدرالدين زواقة – جامعة باتنة –الجزائر

أستاذ الدعوة و الإعلام و الاتصال

[email protected]


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد