البحث العلمي في وسائل الإعلام والاتصال ضمان استمرارية الأمة وبقائها

أصبح الانفجار المعلوماتي الذي يشهده عالمنا المعاصر واقعا يرتبط بالثورة التكنولوجية التي أفرزت مجتمعا معلوماتيا، تعادل قوة سرعته وتدفقه سرعة وتدفق تكنولوجيا الاتصال، وخاصة في مجال الأقمار الصناعية واستخداماتها الواسعة، ما جعل البشرية تقف على عتبة تحديات خطيرة ترتبط في المقام الأول، بالذات الإنسانية، سيما بعد تشكل مجتمعات افتراضية لا وجود فيها للمرجعيات التي أفرزت خلال التاريخ القديم والمعاصر، النزاعات والحروب بين الأمم والشعوب..

هذا الواقع، بات يفرض الضرورة القصوى لرسم خطط واستراتيجيات وطنية تروم الاستثمار في نوع جديد من الصناعة، تماما كما تولد الإيمان الراسخ بضرورة الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة والسياسة المائية، باعتبار تحول المجالين مستقبلا، إلى سلاحين أساسيين في أي نوع من المواجهة..

نحن إذن بصدد الحديث، عن صناعة الإعلام و الاتصال .

في زمننا المعاصر، لا مجال للتواصل مع ما يعرف بالمجتمعات المتقدمة، غير ما تروجه من أخبار تنتجها أو تمتلكها، وتصرفها عبر وسائل الإعلام والاتصال. و بذلك، فنحن متتبعون بشكل غير حكيم لمشاهد تروج للجوانب الحسنة بهذه المجتمعات، التي تقدم وسائل إعلامها أخبارا ومعلومات ليس أمامنا كمتلقين غير مدركين لتقنيات صناعة وإنتاج المعنى، سوى تقبلها. و لذلك، يمكن القول، إن الشعوب التي لم تبادر بعد نحو الاستثمار في هذه الصناعة، مرشحة أكثر من غيرها، لتحديات ضروسة ستفرض عليها – حتى لا أقول، إنها مرشحة للإندثار وأن تعوض بشعوب ومجتمعات جديدة – .

لقد دفع هذا الأمر، منذ عشرات السنين، العديد من الحكومات إلى الاقتناع والإيمان بهذه الصناعة، بعدما تبين لها مدى الأدوار التي يمكن أن تلعبها. و اتضح أنها أصبحت تحتل مراتب عليا تفوق بكثير الممارسة الديمقراطية، ما جعلها تستحوذ على مساحة شاسعة من تفكير واهتمامات القيمين على مواقع القرار سواء أكانت سياسية، اقتصادية أو حتى اجتماعية. و بذلك؛ لم يعد الهاجس الديمقراطي يشكل لهذه الحكومات الأهمية، ما جعلها تبادر نحو تدشين مجموعة من الأوراش ذات الصلة والارتباط بمستقبل وكينونة هذه الصناعة .

وبما أن هذه الحكومات آمنت منذ البدأ، بأن البحث العلمي عملية سابقة على طفرة التكنولوجيا وتقدم ظاهرة العولمة المتكرسة، فقد جعلتها كأي نوع من الصناعات الأخرى، ترتكز أساسا على إفرازات البحث العلمي سواء تعلق الأمر بالبحوث حول المبادلات أو نظم الاتصالات ووسائط الإعلام، أو ببروتوكولات التحويل أو غيرها.

هذا الواقع، أفرز نظاما إعلاميا واتصالاتيا سهل حركية فاعلي العولمة، ومكن من توسيع فضاء البحوث العلمية. ما أفرز نوعا جديدا من البحث العلمي تمكنت معه الحكومات المعنية من وضع عجلة تقدمها على سكة الفضاء العلمي الافتراضي، من خلال الانتقال من البحث العلمي المادي الميداني، إلى بحث علمي يتم فيه تداول المعلومات العلمية عن بعد.

يحدث هذا، في وقت لا يزال فيه القيمون على مواقع القرار، غير آبهين ليس فحسب؛ بأهمية البحث العلمي، وإنما بصناعة الإعلام وبالبحث العلمي في وسائط الإعلام والاتصال.

و لذلك، فما يعرفه مجتمع الإعلام والاتصال، اليوم، من طفرة مهولة على المستوى الافتراضي بهذه الدول، مرده بالأساس إلى استثمارها الجيد في مجال البحث العلمي الذي أصبح يقدم لها الحلول لمختلف الإشكالات التي تعيق تطور صناعاتها الوطنية، ومن ضمنها صناعة الإعلام والاتصال. وباتت بذلك، تستحوذ بامتياز على مولود جديد يمثله “البحث العلمي الشبكي” الذي لا يتطلب من الباحثين التواجد في مكان محدد، وجعلته في خدمة منظومتها الإعلامية و الاتصالاتية الافتراضية والمادية / الميدانية، باعتبارها صناعة وطنية .

إن إشكالية “البحث العلمي في وسائل الإعلام و الاتصال” هي مشروع بحث بكل المقاييس، لأن إدراك محدداتها الرئيسية و الفرعية، من شأنه يكشف الآفاق ويحدد لنا ملامح الحاضر والمستقبل أيضا. و بذلك، فالشعوب والأمم التي تحلم بالريادة في المستقبل، وبضمان بقائها على الأقل، عليها ان تستوعب جيدا أن القرن الحالي، هو بمثابة موسم لزرع مختلف البذور في مجال البحث العلمي. علينا أن نشمر على سواعدنا لنزرع للأجيال القادمة بذور بحث علمي مثين لتتمكن من قطف ثمار التكنلوجيا المتقدمة بمختلف المجالات الصناعية، وفي مقدمتها صناعة الإعلام والاتصال، باعتبار أن المتمكن منها، سيقود العالم وسيضمن بقاء كينونته، وسيحافظ على إرثه التاريخي ومكوناته الحضارية والثقافية .

و معنى ذلك، أن القرن الحالي سيكون لا محالة قرن بحث علمي بامتياز. سيكون قرن التكنولوجيا بكل فروعها، وسيكون قرن التكريس المؤكد لمنطق العولمة بصرف النظر عن الموقف من ظاهرة العولمة أو تمثلنا لصيرورتها وفعلها في الاقتصاد والثقافة والمجتمع. وهو قبل ذلك كله، قرن الإعلام ووسائط الاتصال و مجتمع المعرفة، الذي يشكل البحث العلمي أبهى صوره. و بذلك، فهو يشكل خيارا استراتيجيا لا محيد عنه، وبالتالي وجب وضعه على رأس قائمة الأوراش التي تتطلب التعبئة القصوى على كافة المستويات والأصعدة، بما في ذلك الرفع من ميزانيته، باعتباره تحديا مصيريا لا صوت يعلو فوق صوته . وهو إلى جانب ذلك كله، ضمان استمرارية الأمة وبقائها ولا أحد يمكنه أن يزايد بشأنه، بدليل أن وسائط الإعلام والاتصال تمكنت من وضع اليد على كل دروبه ودروب التطور التكنلوجي .

(*) : مدير المركز المغربي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية في وسائل الإعلام والاتصال / باحث في التواصل بين الثقافات- المغرب


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ ليليا

    صحيح استادي الفاضل فالبحث العلمي هو نبراس العلم و منهجيته هي البداية في البحث الصحيح لكن استادي ما اثار انتباهي في مقالك هو انك باحث في الهويات الثقافية مثلي ارجو ان نتواصل في هذا الميدان

    1. الصورة الرمزية لـ عبد السلام
      عبد السلام

      مرحبا : [email protected]

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: