العولمة وتمرد الثقافات

في البدء لابد من الاعتراف أن هناك ثقافة غربية سائدة في معظم المجتمعات الإنسانية سلماً أو فرض ولكن هناك ثقافات تحاول أن تتعايش مع الوافد أو أن تقاوم الوافد الثقافي إليها عبر ما يسمى اليوم بالعولمة الثقافية، والرهان لا يزال قائماً في ما إذا كانت ثقافة البعد الواحد النافذة من خلال العولمة هي المسيطرة على ثقافات بقية المجتمعات.

نقول ذلك لغياب التفسير المنهجي لحالات عدم الاستقرار الثقافي في معظم شعوب العالم وازدياد حده الصراع والمواجهة بين ألثقافات وداخل الثقافة الواحدة والتي تشهد صور كثيرة من ألرفض وعدم القبول حتى من البيئات التي ترعرعت فيها تلك ألثقافات وبالتالي فان حالات الاضطراب والتضامن العالمي التي تعيشها ألعولمة وبأدواتها التعسفية هي مؤشر لحالة جديدة، والتي يمكن وصفها بالعولمة وتمرد الثقافات، فكيف تكون العولمة بداية ثقافية لتمرد الثقافات؟ وما هي معالم تمرد الثقافات في عالم اليوم في ظل محاولات فرض ثقافة البعد الواحد المعولم؟

وقبل الاستمرار في استجلاء الإجابات، لابد لنا من التمييز بين التمرد الثقافي وتمرد ألثقافات فالأول صفة وموصوف ولا يخدم وسيلة الإجابة على أسئلتنا، أما الثاني فهو فعل وفاعل وهو الذي يعنينا، والمطلوب، والذي يمكن وصفه في عالم ثقافة اليوم بتمرد ألثقافات وليس بالتمرد الثقافي لان التمرد في حد ذاته نوع من أنواع الثقافات، والتي قد تكون في صالح عملية التطور والتنمية الثقافية الإنسانية.

ثقافة الحداثة السياسية ومحاولاتها التنظيرية في مجال الثقافة العالمية من خلال شذرات العولمة الثقافية هي المسبب الأساسي في ظاهرة تمرد الثقافات، والتي سوف تأخذ ردحاً من الزمن حتى تختفي عوامل التعسف الثقافي على ثقافات الآخر. لقد فشلت في أن تقدم نموذجاً ثقافياً إنسانياً قاعدته العدل، لأنها تريد تغيير التاريخ في غير اتجاهه، وتريد أيضاً أن تقلب حقيقة التحول الثقافي لدى الشعوب، وكذلك استبدال ظاهرة تمرد الثقافات بمصطلحات صراع الحضارات، والصراع الديني، والتخلف والتنمية والفاشية والديمقراطية، وكل ما يخالف قاموس ذلك التفكير يوصف في عداد الإرهاب الثقافي، في حين هو نوع من أنواع التمرد الثقافي.

وحتى في البيئات التي راجت فيها ثقافة البعد الواحد المعلوم تشهد تمرداً ثقافياً، فهناك تمرد شبه يومي على نوعية الثقافة السياسية المقدمة، والتي تفرض فرضاً بوسائط الإعلام القوية في المجتمعات الغريبة. فالمظاهرات التي تجوب شوارع أسبوعيا ضد شوارع مشاريع العولمة الاقتصادية والثقافية ومواقف منظمات المجتمع المدني الدولي الرافضة لاستنساخ الشعوب والثقافات، كلها مظاهر تمرد ثقافي في تلك المجتمعات ضد ثقافتها السياسية المفروضة عليها.

ظاهرة الصراع الديني في المجتمعات الغربية، خصوصا بين الكاثوليك، والبروتستانت والارذودوكس، والصراع الدائر بين الكنائس وكذلك الابرشيات، وما تمرد معظم كنائس العالم المسيحي على قوانين وتشريعات الحضر البابوي في روما؛ انما هو تمرد ضد الثقافة الدينية على تلك المجتمعات.

تلك هي أنواع تمرد الثقافات داخل نفسها، بمعنى تعيش مجتمعات الغرب من فترة إلى أخرى حالات تمرد على ذاتها الثقافية، رفضا لثقافة البعد الواحد المعولم، لكنها لا تعمل على تصديرها إلى الخارج خوفاً من انهيار البناء الثقافي فيها.

فتمرد المجتمعات في كثير من بقاع العالم على أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية هو مؤشر آخر على تمرد تلك المجمعات على ثقافة أوضاعها، منها السياسة والثقافية والاقتصادية، تلك الحالات تظهر على هيئة حالات عدم الاستقرار، وتعدد الانقلابات، وتعدد حالات نزع الثقة في الحكومات، وتعدد الانتخابات في السنة الواحدة، كحالة ايطالية وتركيا مثلاُ، وكذلك بؤر التوتر التي يشهدها العالم والتي في ظاهرها سياسي، ولكنه تمرد على الثقافة المراد فرضها عليها من خلال خطاب العولمة الثقافية.

هنا لا يغيب عن الانظار والأذهان أن ثورات الربيع العربي، لسنة 2011، في كل من ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن، تعبير عملى فريد ومعاصر لظاهرة التمرد الثقافى كأسباب وعوامل يسجلها التاريخ لأول مرة لثقافة هذه الدول.

مظاهر الازدياد في تعميق الهوية الثقافية للشعوب والأمم وبخطوات مضادة للتفريغ الثقافي من المحتوى ملامح الأخرى، إنما هى تمرد ثقافي يعمل على تقوية أسباب وعوامل هوية الشعوب الثقافية. فالارتقاء بالتنمية الثقافية والتعليم في كثير من شعوب العالم إنما هو إحدى تقنيات التمرد الثقافي لدى هذه الشعوب للتصدي للمسخ والاستلاب والهيمنة والاختراق والإرهاب الثقافي من طرف البعد الواحد، والتمرد الثقافي لدى هذه الشعوب، إنما هو حماية الخصوصية الثقافية لهويتها أو وعيها.

وتمرد الثقافات ضد ثقافة العولمة التي تحاول أن تمارس قدراً غير عادي من اختزال ثقافات الآخر، من خلال ما تملكه من إمكانيات معرفية وتقنية وقدرات اقتصادية وسياسية تجعل منها ثقافة مركزية تفرض من خلالها منطق شروطها من موقع الهيمنة والقوة، والتي عملت على إعطاء الرأسمالية الغربية وجهاً مادياً آخر، إنها نبذ ونفي ثقافة الآخر، والذي ليس له إلا التمرد عليه.

تمرد الثقافة ضد العولمة لا يعني بالضرورة إعلان القطيعة مع الغرب ومصادره الفكرية، والتي قد تحمل قدراً من المقولات المعرفية التي قد تتناقض مع مسلمات تمرد الثقافات، بل التعلم الثقافي هو المطلوب من دروس وتجارب ثقافة البعد الواحد في جزئياتها الميكانيكية والآلية.

والتمرد الثقافي لا يحدث إلا عند الثقافات ذات المرجعية المتجانسة، والتي تشعر بان هويتها ووعيها يستهدف من قبل ثقافة البعد الواحد، ومن هنا تصنع ثقافة التمرد على هيئة حالة وعي شامل وكامل. فالمساس بالمسلمات المعرفية الصانعة للهوية والوعي يستدعي تمرد ثقافي كقانون يحمي الذاتية والخصوصية الثقافية للأمة.

فاستمرار آليات تمرد الثقافات في ظل العولمة الثقافية نعتقد أنها مستمرة. فالصراع اللغوي من خلال محافظة كل امة على لغتها، واعتبار لغتها لغة رسمية للدولة، وفي المحافل الدولية دليل على فشل استعمال لغة العولمة الثقافية، وإبراز الأمم لذاتها والبحث فيها وتقديمها بلغاتها، إنما هو تمرد تراثي نتيجة لرصد تراث العولمة الثقافية، وعدم الاعتراف بها. وما مظاهر تمسك الأمم بفنونها وآدابها وانسجامها معه إلا عدم قدرة ثقافية العولمة على إنتاج فنون وآداب تلبي أذواق الأمم الأخرى.

وظهور حركات التحرر والثورات الاجتماعية في العالم العربي، خصوصا في العقد الاول من الالفية الثالثة من هذا القرن هي تعبير عن التمرد الثقافي، ورفضاٍ للنموذج الثقافي المهني الوافد. فاستمر نضالها حتى تحصلت على استقلال مورثوها الثقافي قبل انشطاره. فالاستعمار كان يمثل الثقافة المركزية الفارضة لشروطها بالقوة والاحتلال والإحلال الثقافي والبشري، وكانت حركات التحرير آنذاك تمثل أعلى درجات التمرد الثقافي.

ولقد بشرت ثقافية العولمة بأن العالم قرية صغيرة ذو كيان ثقافي واحد بثقافة البعد الواحد، إلا إن التمرد الثقافي استمر ليطعن في مصداقية القرية الصغيرة، ويبشر العالم كل صباح بانفصال دول كثيرة عن بعضها، وما حصل في القوقاز والاتحاد السوفيتي سابقاً وارتفاع عدد الدول الجديدة العضوية لدى الأمم المتحدة، إلا تعبير من هذه الدول من خلال لغة التمرد الثقافي باستقلال هويتها وذاتيتها، وانتصار العامل القومي المحرك لتاريخها.

وبهذه المشاهد الأنفة الذكر والتذكير، فإننا نعتقد أن عالم اليوم يعيش ثقافة التمرد من خلال تمرد ثقافات الأمم والشعوب، ولا يعيش العولمة، والتي قد تكون غير موجودة أصلاً، فالعولمة لا تزال تبدو أنها في الظاهر دين جديد، ولكنه بدون رسول، وتبدو في الظاهر أنها ثقافة جديدة ولكنها بدون دين، بمعنى بدون مرجعية متجانسة.

فأصبحت العولمة الثقافية بذلك نسج من خيالات الرأسمالية، إلا أنها تمارس بالقوة، وكانت في مواجهة تمرد الثقافات، وتحولت بوابة العولمة إلى المزيد من تمرد الثقافات على ثقافة العولمة، وتكون معيار جديد لطبيعة الصراع الذي يعيشه عالم اليوم، وهو تمرد الثقافات بديلاً لصراع وحوار الحضارات ومكافحة الإرهاب الذرعي التعبير العملي والنظري للعولمة.

* مركز البحوث والاستشارات والتدريب، جامعة بنغازي، ليبيا


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد