الكرنفال لمحمد الباردي: وصفة حداثيّة لتعلّم النسيان

“احكي تسترحي. ما بقي لنا إلاّ الحكي. و لا بدّ لهذه الحكاية أن تنتهي لتبدأ حكاية أخرى. حياتنا حكايات تتناسل الواحدة من الأخرى. تلتقي أحيانا و تتضارب و لكنّها حكايات نارها من تجاربنا.”( الكرنفال:12).

ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ ثالوث من الأسئلة يمكن أن يُردّ إليه مقول المرويّ له في رواية الكرنفال يفتح نافذة على خصوصيّة الكتابة فيها بوصفها نصّا مكمّلا لنصوص أخرى للمؤلّف نفسه(على نار هادئة، جارتي تسحب ستارتها، وحوش خريف) عُدّ من علامات الكتابة الروائيّة الحداثيّة في تونس(1)، يقطع به محمد الباردي مع نصوص المرحلة الأولى ذات المنحى التقليديّ( الملاح والسفينة، و مدينة الشموس الدافئة، و قمح إفريقا).

“ماذا” في علاقة الرواية بالمرجع أو ما يمكن أن يُعبّر عنه بالتشخيص. و”كيف” في ما يتعلّق بالبناء المتوخّى لإخراج هذا النصّ. و”لماذا” في ما يتعلّق بوظيفة فعل الحكي في زمن العولمة.

التشخيص:

تتضافر أنواع عديدة من التشخيص في رسم حدود هذا النصّ الكرنفال في علاقته بالمرجع من حيث أحداثه، و شخصيّاته و الزمن فيه و المكان. منه ماهو حقائقيّ مجتزأ من خزينة الذاكرة التاريخيّة لتونس ما قبل الاستقلال و ما بعده ممثّلا في تلك النتف من الأخبار التي نعثر عليها هنا وهناك في هذه الرواية ممّا يتعلّق بالرئيس بورقيبة و أحمد بن صالح و صالح بن يوسف و الوزير محمود المسعدي، والحبيب ثامر و غيرهم. وقد تفيض هذه الذاكرة بين الحين و الآخر لتنفتح على أخبار شخصيّات سياسيّة عربيّة و عالميّة : ( يوسف بشارة، كرلوس، جوزيف سترادا، عبد العزيز بو تفليقة، بيل كلينتون… أو مجتزأ من خزانة الذاكرة الثقافيّة الفكريّة ( ميشيل فوكو، سارتر…) والأدبيّة( محمد الباردي، كامو، شوقي بزيع، و الفنيّة بمختلف توجّهاتها و مشاربها( فيروز، صليحة، أمينة فاخت، فاطمة بوساحة، فريد الأطرش، إلهام شاهين، شوبان، فاردي…).

تحتضن هذه الأحداث و الأخبار أمكنة هي الأخرى ذات بعد حقائقي تبدأ من قابس مدينة المؤلّف بما يؤثّثها من أمكنة: أسواق وشوارع و مقاه (مقهى ريجينة ). وتتّسع دائرتها لتشمل بيروت و فلسطين و إيطاليا و باريس وغيرها من الأماكن الواقعيّة. و يحكمها سقف زمنيّ ممتدّ من أحداث أفريل 1938 إلى حرب الخليج الثالثة و سقوط بغداد. وهو زمن منه ما يتعلّق بسيرة المؤلّف( دخوله المدرسة الابتدائيّة، المرحلة الجامعيّة…). ومنه ما يتعلّق بالتاريخ التونسيّ (عودة بورقيبة من المنفى…) أو بالتاريخ العربيّ( اجتياح بيروت و انتفاضة الأقصى).

لم يكن هذا التشخيص الحقائقيّ معوّلا عليه في هذا النصّ و إنّما كان يُشار إليه غمزا و تلميحا يُضمّن في أقوال الشخصيّات المشاكلة للواقع . وهي في هذه الرواية كثيرة ، و مع ذلك تشترك في

سمات أهمّها:

-أنّ أسماءها إذا لم تكن متطابقة( عبد العزيز المعلّمِ و عبد العزيز حارس البنك)(ياسمين التي تروي حكاية سليم و ياسمين زوجة عبد الستار …) فهي متشابهة (سليم، سليمان، سلمى/ عبد الرزاق، عبد العزيز، عبد الحميد …) أو متغيّرة.

-أنّها شخصيّات ليس لها هويّات اجتماعيّة واضحة، و ليس لها عمق نفسيّ، تقوم كلّها بأفعال متشابهة تتّصل بالعاديّ والمألوف (الزواج، و الإنجاب، الطلاق، و الخيانة، والمضاجعة، و الجلوس في المقهى) تبلغ حدّ المبتذل “وعندما تخرج من دورة المياه تجد الكنة قد فرشت لها السجادة” (الرواية:45)

-أنّها باستثناء شخصيّة سليم النجار اللّغز تشترك جميعا في فعل الحكي تعترف بما اقترفته أو تشهد بما رأته.

-أن أغلبها يصير إلى الموت فالرواية تنفتح به و عليه تنغلق. وما نجا منه إلاّ القليل.

و إضافة إلى هذه الضروب من التشخيص المرجعيّ( الحقائقيّ و المشاكل ) لم تعدم الرواية أن تلتفت إلى التشخيص ذي المنحى الذاتيّ. منه الغريب مثل دجاجات حارس الكنيسة التي تبيض في النهار و زهرة التي ما خطبها رجل إلاّ وهلك، والمشاهد العنيفة مع هذه الشابة. و منه الخارق ممّا ذُكر موصولا بالأولياء في علاقتهم بالسلطة ممثلة في والي المدينة.

و مع حضور هذا التشخيص المفارق للواقع بشذوذه و غرابته المدهشة بقوّة في الرواية، فإنّه كان هو الآخر خلفيّة للمشهد الأساس في هذا النص الذي هو حكاية الراوي مع المرويّ له وهو يسعى جاهدا في سباق مع زمنه إلى لمّ شتات أخباره و حكاياته. ممّا دفعه إلى توريط شخصيّاته لتحكي عن نفسها أو تحكي عن غيرها. وهذا الذي صيّر التشخيص في هذه الرواية من قالبه التقليديّ إلى قالب حداثيّ أصبحت معه في كليّتها حكاية أقوال من أوّلها إلى آخرها وفق ما يشبه الاعترافات والتقارير و إن كانت هده المرّة شفويّة. وما وظيفة المؤلّف هنا إلاّ أن ينقلها إلى المكتوب. و هو ينسف الحدود بينه و بين أعوان السرد الآخرين؛ يحضر إلى جانبهم( أو بعبارته و هو ينحشر بينهم) يستدرجهم ليرووا ما به يشكّل هذه المدينة الفضائحيّة. و هو لا يني يكشف طريقة تعامله معهم و معها؛ يكشف كيفيّة تشكّل هذا النصّ. وهذا ما يمكن أن يُعبّر عنه بالتشخيص النصّيّ. معه تصبح الرواية نصّا لازما تكفّ عن أن تحيل إلى خارجها وتكتفي بحدودها لا تتجاوزها. و إن لامسنا بعضا من حضور هذا الخارج فهو ليس سوى مجشب يعلّق عليه النصّ حكاياته. هكذا تصبح المدينة المتحدّث عنها في هذا النصّ في الأخير الرواية ذاتها و ليس شيئا آخر غيرها: “تكاد تقنعك أن خيوط هذه المدينة كلّها في يدها ” “لا أحد منا يصنع الحكاية فنحن لا نراها، ليس أكثر من العشب ينمو، فيكفي أن تكون راوي هذه الحكايات. ثم أين البطولة في هذه المدينة؟” (الرواية:112-50).

فإدا كان وجود الرواية الجنس الأدبيّ مشروط بعدم امّحاء ظلال الواقع منها، فإنّ الصنعة في هذا الكرنفال قضت أن تسيّر حكاية الواقع و حكاية النصّ جنبا إلى جنب؛ تحكي حكاية الواقع و هي في الوقت نفسه تحكي حكايتها هي ضمن ما يُسمّى بالميتا- روائي . ليس على الطريقة المعروفة التي يسمّيها فيليب هامون بالترقيع(2) حيث يتوقّف السرد ليدمج السرد على السرد في الخطاب، ثمّ تستأنف بعدئذ الحكاية ممّا يحدث خلخلة في بنائها ويدفع بها إلى التشظّي الذي لم تخل هذه الرواية منه، و الذي كان مأتاه من علل أخرى أساسها تهشيم الزمن و كسر خطيّته. و ليس أدلّ من التشخيص النصيّ من خاتمة الرواية المشكّلة من موت “محمد بن الصادق بن الطاهر الباردي” الذي هو في النهاية موت المؤلّف الذي قتلته النظريّة. ورآه هو مصيرا لا بدّ منه بعد انتهائه في هذه الرواية و خروجه منها. و تبنّاه دون مقاومة أو ردّة فعل تذكر و أغفل أن حضور المؤلّف في النص و وجوده فيه واحدا من بين الشخصيّات هو موقف من هذا الإقصاء و مقاومة له. بحيث إنّه كلّما أوغلت النظريّة في قتل المؤلّف وتجاهل حضوره أوغل هو في متن نصوصه، فحضر فيه حضورا صريحا معلنا. مثلما فعل محمد الباردي نفسه. و قطع على الممارسة النقديّة طريقها بإيضاح اللّعبة الفنيّة التي يمارسها في نصّه. و هذا أمر ملاحظ بقوّة في الرواية الحديثة بصفة عامّة.

تحوير مفهوم البطولة:

يصرّح المرويّ له/المؤلف في هذا النصّ الروائيّ أنّ هذه الرواية قتلت أبطالها، أو أنّ أبطالها هم روّاتها. و ليس هذا إلاّ كلاما “خادعا” و فخّا من جملة فخاخ نُصبت للقارئ مثلما نُصبت للروّاة “المساكين” في هذه الرواية. فنعومة الانزلاق وراء هذا المؤلّف و صراحته سهلة، و التورّط في حباله يسير.

من الصعب- إذا لم يكن من المستحيل –أن تتخلّى الرواية عن مفهوم البطولة. فإذا لم نجد البطل فيها صنعناه نحن على حدّ تعبير فيليب هامون(3). و إذا انتفى من النصّ السرديّ بصفة عامّة وجود بطل واحد موحّد للأثر، كان لكلّ مقطع بطله بحسب تعبير رولان بارت(4). إلاّ أنّ رواية الكرنفال لم تكن لا هذا أعطته مكانة جديدة و موقعا مستحدثا. فهو في هذه الرواية ليس سوى هذا المؤلّف يأخذ من مفهوم البطولة التقليديّة ما به يكون بطلا و يهجره ليمنح هذا المفهوم مظهرا متفرّدا. فهو و إن وُجد في المواقع الإستراتيجيّة من هده الرواية (البداية و النهاية، و بداية كلّ جزء و نهايته)، فإنّ وجوده لم يتعدّ أن يكون مشاهدا ممتازا أو حارسا خيالا كما يقول جيرار جينات. حسبه أن يكون مرويّا له مكمّلا للمقامات السرديّة . يسمع و ينسحب و يمضي. و ليس له أيّ فعل آخر في هذا النصّ. و إذا ما أسند إليه فعل فيها فهو الكتابة و استدراج الرواة لمساعدته. وهو وإن تلقّى المساعدة فذلك ليس لإنجاز فعل قيميّ يعيد التدهور إلى إصلاح و إنّما للمّ شتات هذا الآثر الكرنفال و إتمام حكاياته. و بهذا يتحوّل موضوع الرواية من رواية الواقع إلى واقع الرواية ذاتها، و تصبح معادلة الكتابة ليس فضح الواقع يقدر ما هي “فضح” واقع فعل تشكّل النصّ. و ما هذا البطل إلاّ ناقل جيّد لما يقال له و مخادع جيّد لروّاته لإنجاز مهمّته تلك. وما عدا ذلك فهو مراقب جيّد لما يحدث من وراء “بلور مقهى ريجينة ” ينتظر الأخبار. فهو و إن وحّد بين أجزاء النتف من الحكايات المتناثرة و ضمن لحمتها و شدّ خيوطها على تشعّبها، فإنّه خرج على أن يكون فاعلا، و كان ابنا لهذا الزمن الذي أوغل في الأشكال و بالغ في القشور و ابنا لهذه المدينة التي قتلت أبطالها ونكحت رجالها. فكان عليه أن يكون بطل قول ممتاز.

الراوي الشاهد:

توخّت الكرنفال الرواية بضمير المخاطب. و هو أسلوب نادر في الرواية بصفة عامّة. اعتمده الباردي في روايته قمح إفريقيا، وأعاد استخدامه في هذه الرواية. وإن كان لضمير المتكلّم أوالغائب حضور فهو مؤطّر دائما بهذا الضمير و محكوم به. دلك أنّ السرد بهذين الضميرين مضمّن دائما في السرد بضمير المخاطب .

و الراوي في النصّ راو خارجيّ يروي من خارخ الحكاية. حسبه أن ينقل ما يسمعه من أخبار. و قد استتبع هذا النوع من حضور الراوي في هذه الرواية أن يكون التبئير المعتمد فيها تبئيرا خارجيّا ينهض على حاسّة السمع. و هذه القناة في هده الرواية متحكّمة في جميع طرق الإدراك الأخرى وكيفيّاتها، ذلك أنّها كلّها ناشئة عن أفعال القول (قالوا –قلت –قالت –حكى –حكت –يتحدّث –تحدّث –سأل …). و قد أسهم هذا الفعل في تغيّر مستويات التبئير، و تجاوز الرؤية القائمة على النظر عمدة التبئير في الرواية الواقعيّة، كما أسهم في تعدّد المقامات السرديّة و طبقات السرد وداخل بين أصوات الشخصيّات حتّى لكأنّ الرواية كلّها خطاب منقول .

و إذا ما أضيفت هذه الرؤية الحياديّة للأشياء و الشخصيّات إلى نسف الحبكة في هذه الرواية وإهمال الوصف و تغيّر المواقع و الأدوار و تهشيم السرد و المداخلة بين الحكايات و المجاورة فيما بينها وتسطيح الشخصيّات و تطابق أسمائها أو تشابهها أو تغيّرها (سليم النجار، يوسف بشارة، ياسمينة، ياسمين، جنات، ريجينة….)، و تكرار الأفعال، وترك فراغات كثيرة ملغزة أربكت القراءة وتأخرت عن تجاري نسق الكتابة وتخلخل التواصل بين أطراف السرد؛ الراوي و المروي له، رغم الحرص الظاهر على عقد ميثاق بينهما من خلال عناصر عديدة كالتعريف ببعض الشخصيّات والأحداث باعتماد الومضات الاسترجاعيّة و التذكر والتلخيص و الإحالة على النصوص و توخّي طريقة التهميش لتفسير بعض الكلمات وإسناد النصوص إلى أصحابها و توضيح مفهوم الحكي و الحكاية والحرص على ذكر مصادر الرواية و التصريح بالغاية منها .

لماذا الكرنفال ؟:

” احك تنس “-” لا شيء يشفي إلاّ الحكي “(الرواية:40-104) شعار ردّدته الرواية كثيرا ورآه مؤلّفها مخرجا مناسبا من عالم ” من يدخله لن يخرج منه إلا ميتا أو مجنونا ” (الرواية:68). و يوضّح من خلاله معادلة فعل الحكي و وظيفته في هذا الزمن. و قد أعدّ هذا المؤلّف –لذلك- كرنفالا أشرك فيه الجميع طوعا و كراهيّة (حتّى القارئ لم يتركه خارج اللّعبة ) طلبا لتعلّم النسيان، و تأجيلا لما قد تأتي به رياح العولمة . لأنّ أسلحة المعاني حسب تعبيره ما عادت تجدي، و ما على إنسان هذا العصر إلاّ أن ينخرط في هذا المشروع. فهو لا محالة متورّط في ” عيد المساخر ” هذا . ولكن هل يضمن له هذا المخرج الشافي؟!.

قديما قدرت شهرزاد على أن تؤجّل حكم الموت فيها و أن تكسر سنة شهريار “العظيم” بقوّة القصّ و إن تطلّب منها ذلك ألف ليلة و تزيد . و لكن هل استطاع ” محمد بن الصادق بن الطاهر الباردي ” أن يؤجّل فعل الموت أو الجنون عن شخصيّاته وهل استطاع أن يدفعهما فقط عن نفسه ؟!.

يبدو أنّ ذلك الزمن هو غير زمننا و ذاك الجنون هو غير جنوننا و ذلك الموت هو غير الموت عندنا .

خاتمة:

إنّ التشخيص في هذه الرواية الكرنفال يتجاوز ما اعتمدته الرواية العربيّة الحديثة في مسارها التجريبيّ التحديثيّ و الذي يقوم على التصريح المباشر بما يتعلّق بالخطاب على الخطاب، حيث كانت تعلّق فعل السرد فبيها و تؤجّله لتدرج ما يتعلّق بحكاية كتابتها.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد