عميد الجغرافيين سليمان حزين (1909ـ 1999)

ولد رحمه الله في الرابع والعشرين من شهر مايو عام ألف وتسعمئة وتسعة على ضفاف النيل في مدينة وادي حلفا حيث كان والدهُ يعمل في حقل التعليم ولم يلبث الأبُ أن عاد إلى قريتهِ (الوفائية) مسقطِ رأسه في محافَظة البحيرة ومعه الصبيُّ سليمان لينشأ في ريف مصر يتفيأ ظلالَه ويعيش بين مروجه الخضراء ويتنفس عطرَه وأريجَه – ثم يلتحقُ بكُتاب القرية ويحفظُ على يد الشيخ عبد الله شيحه ما تيسر من القرآن الكريم ويتعلمُ مبادئ علم الحساب وقواعدَ اللغة العربية وكان اتجاهُ الأسرة وقد لمستْ في ابنها النجابةَ وبدت عليه مخايلُ الذكاء أن يسلك طريقَ الأزهر ليكون بين علمائه في قابل الأيام – ولكن الفتى آثر التعليمَ العام، فيلتحقُ بالمدرسة الابتدائية وتتفتحُ ملكاتُه ويحصلُ على الشهادة الابتدائية بتفوق ثم يمضي إلى مدرسة طنطا الثانوية ليلتقيَ بأساتذةٍ في اللغة علماء بينهم الشيخُ محمد هاشم عطية والشيخُ أحمد خاطر فيزدادُ شغفًا بلغة القرآن ويُقبلُ على آدابها شعرًا ونثرًا ليحفظَ منه الكثيرَ ويحاولُ في هذه السن الباكرة أن يكون شاعرًا – ولكنه انصرف إلى دراسته وحصل على شهادة البكالوريا عام خمسة وعشرين وتسعمئة وألف (1925) وكانت الجامعةُ المصريةُ في صورتها الجديدة (الحكومية) قد أنشئت، وفتحت كليةُ الآداب بها بابَ القبول لأول دفعة من الطلاب فيعزفون عنها فمستقبلُ خريجيها مجهول، ولكن سليمان يكون ثانيَ اثنين يغامران بالالتحاق بها فقد تحركت فيه روحُ الشاعر القديم التي تتطلع دائمًا إلى ما وراء الأفق وتبعه بعد ذلك فئةٌ أخرى من الطلاب.
كان عاشقًا للغته العربية ومداومًا على إثبات ذلك العشق يومًا بعد يوم طوال حياته المديدة حتى على مستوى الحديث الأسري اليومي مع الأبناء، وعلى الرغم من سيطرته التامة على لغات أجنبية متعددة.
تعلم تلامذته منه الاعتزاز بالكرامة دون مبالغة والتواضع دون مذلة .. حتى يكون الإنسان مقبولاً عند الله وعند الناس.. كما تعلموا على يديه الجدية في العمل والإخلاص فيه والتفاني في طلب العلم والتركيز على تسخيره لخدمة الإنسان و البشرية.. وتعلموا أن حل المشكلات يأتي بالتعاطف والحب والتفاهم والموعظة الحسنة .. وليس بالغلظة والاحتداد.
حياته العلمية بالجامعة وريادته للثقافة العربية
يتابع الفقيدُ حياتَه العلمية بكلية الآداب بجامعة القاهرة في قسمين من أقسامها هما قسم الجغرافيا (والعلوم السياسية) وقسم الاجتماع (والدراسة الفلسفية ) وأتم دراستَه بالقسمين في آن واحد وحصل على ليسانس الآداب في الجغرافيا في يوليه 1929 وليسانس الآداب في الاجتماع في سبتمبر من العام نفسه وكلاهما بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وفي أثناء دراستِه كان كثير التردد على قسم اللغة العربية – اللغةِ التي يعشقها – وتنشأ بينه وبين عميدِ الأدب العربي مودةٌ ويصبح من مريديه والمقربين إليه وبعد تخرجه توفده جامعة القاهرة في بعثةٍ علميةٍ إلى إنجلترا في يوليه 1930 حيث حصل على درجة الماجستير من جامعة ليفربول عام 1933 وعلى درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 1935 ومن هذه الجامعة حصل على جائزة ومنحة لانجتون لدراسات ما بعد الدكتوراه. وكان المصريَّ الوحيدَ الذي يحصل على هذه الجائزةِ والمنحة المتميزةِ وقدرُها ألفُ (1000) جنيهٍ استرليني سنويًّا لمدة ثلاث سنوات . واستمرت دراستُه في البعثة العلمية خمسةَ أعوام ونصف العام في جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وتوطدت صلاتُه العلميةُ مع عدد من العلماء في هذه الجامعات .
وما أن عاد إلى أرض الوطن حتى عين مدرسًا بكلية الآداب جامعة القاهرة ، وحين أنشئت جامعةُ الإسكندرية وقع عليه الاختيارُ لإنشاء قسم الجغرافيا بها وكان أولَ رئيسٍ له وبعد ثلاث سنوات في عام 1950يعين مديرًا عامًّا ثم وكيلَ وزارة للثقافة بوزارة المعارف فينهضُ بإدارتها نهضةً شاملة ويوطد علاقات مصر الثقافية بالبلاد العربية والعالم الخارجي بفضل ما عُرف عنه من سعةِ الأفق وعمقٍ في الفكر وسدادٍ في الرأي.
ويكونُ من حظ التعليم الجامعي أن يعود الدكتور حزين إلى ميدانه مرةً أخرى حين يُعهد إليه بإنشاء جامعة أسيوط ويعينُ مديرًا لها عام 1955 وظل بها عشر سنوات متصلةٍ ينميها ويطورُها بعد أن بدأت الدراسةُ بها عام 1956 حتى استقرت وتبوأت مكانتَها بين زميلتيها بالقاهرة والإسكندرية حاملةً مشعلَ العلم والثقافة في صعيد مصر .
كما تعددت أعمالُه الإنشائيةُ العلميةُ والثقافيةُ الرائدة على الصعيدين القومي والدولي، ومنها:
ـ أنشأ المركزَ الثقافيَّ المصري في بريطانيا وكان أولَ مديرٍ له عام 1943 بلندن
ـ شارك في الدراسات الخاصة بإنشاء هيئة اليونسكو والتي عقدت في لندن، وباريس عام 1944
ـ إنشاءِ المركز المصري للثقافة العربية والإسلامية بمدريد عام 1950
ـ في عام 1947 كان مؤسسًا مشاركًا لكل من متحفِ الحضارةِ المصري بالقاهرة ومعهدِ الدراسات السودانية (حاليا معهد الدراسات الأفريقية ) بجامعة القاهرة .
ـ قام على شؤون التعاونِ الثقافي بين مصر والدول العربية وفي مقدمتها المملكةُ العربيةُ السعودية والكويتُ وله دورٌ تاريخي في بناء الثقافةِ العربيةِ
ـ في عام 1965 يختارُ وزيرًا للثقافة فيسوس أمورَها في مكنة واقتدار ويضفي عليها الكثير من خبرته الواسعة .
ـ لا يكاد الدكتور حزين يتركُ الوزارة حتى تسعى إليه هيئةُ الأمم عرفانًا بفضله وغزير علمه فتسند إليه إدارة المركز الديموجرافي بالقاهرة (1968 – 1980 ) وهو المركزُ المتخصصُ في بحوث ودراسات السكان في دول أفريقيا والشرق الأوسط.
نشاطه في الجمعيات والهيئات العلمية
امتد نشاط الدكتور حزين إلى العديد من الهيئات والجمعيات العلمية التي سعدت برئاسته مثل المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية (1954) والاتحاد الأفروأسيوى للجغرافيين (1956) والاتحاد الجغرافي العربي (1962) واللجنة الدائمة للشؤون الاجتماعية بجامعة الدول العربية لمدة (20) عشرين عامًا متصلة (1956-1976) أو سعدت بعضويته مثل مجمع البحوث الإسلامية منذ إنشائه (1961) والمجلس الأعلى للثقافة .
وجدير بالذكر أن الدكتور حزين تبرع بمكتبته للجمعية الجغرافية أقدم الجمعيات العلمية في مصر (1875) بعد المجمع العلمي المصري ورأسها سنوات طويلةً ونهض برسالتها العلمية والثقافية. حتى غدت صرحا شامخًا للدراسات والبحوث الجغرافية.
كما رأس المجمع العلمي المصري أقدم المجامع العلمية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية (1798) وامتدت رئاستُه لهذا الصرح العلمي العريق خمسةً وثلاثين (35) عامًا حتى يوم رحيله وقد عمل رحمه الله على رفعته وتطويره وتحسين مبناه وتجديد مرافقه وتوثيق مكتبته الضخمة بالحاسب الآلي، وأضفى عليه من شخصيتهِ الفذةِ المعطاءة وعلمِه الغزير وثقافتِه الواسعة ما جعله اليومَ درةً لامعة بين المجامع والجمعيات العلمية والثقافية في مصر ينشر نورَ العلم ويعلى منارَه منذ نشأته حتى اليوم؛ وذلك بفضل جهوده وجهود أعضائه من علماء مصر الأعلام .
وهناك هيئتان كبيرتان كان فيهما قطبًا وفارسَ ميدان هما مجمعُ اللغة العربية (1) والمجالسُ القومية المتخصصة – ففي مجمع الخالدين كان مقررًا للجنة مصطلحات الجغرافيا ومقررًا للجنة التربية وعلم النفس، وقد أشرف فيهما على دراسةِ الآلاف من المصطلحات ووضعِ المقابلات العربيةِ لها وشروحِها – وتجلت قدرتُه في صوغِ المصطلح العلمي صوغًا دقيقًا ساعده في ذلك حصيلتُه الفائقة من اللغات العربية والإنجليزيةِ والفرنسية.
وفي المجالس القومية كان مقررَ المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي منذ نشأته عام 1974 ورئيسًا لشعبة الثقافة بالمجلس القومي للثقافة وقد أدى فيهما أجلَّ الخِدمات بعلمه وريادته وقد ترك بصماتٍ واضحةً ومؤثرةً في تأصيلِ وتطويرِ التوجيه العلمي الإستراتيجي في مصر وكان يقودُ كافَة أعمالِ تلك النخبةِ المتميزةِ من علماء مصر وأساتذتها أعضاء المجلس وشُعبِه المختلفة.
بحوثه ومؤلفاته ومدرسته العلمية
وقد أثرى الدكتور حزين المكتبةَ العلمية بالعديد من المؤلفات التي زادت على مئة مؤلفٍ علمي باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية منشورةً في العديد من المجلات والدوريات والمؤتمرات العلمية الدولية في مصر والخارج والتي بلغت نحو مئة مؤتمر – ودلت هذه البحوث والمؤلفات على المدى الذي ذهب إليه رحمه الله في خدمة العلم وطلابه وقدم من خلالها ربطًا فريدًا بين الدراسات الجغرافية الطبيعية والدراساتِ الجغرافية البشرية وحقق بأسلوبه هذا تكاملا علميًّا وبروزًا حضاريًّا وخدماتٍ مثلى للدارسين – وهو صاحبُ مدرسةٍ في البحوث والدراسات الجغرافية بدأ نشرها منذ عام 1936 وعلى مدى ستين عامًا. هذا عدا المئات من الأحاديث والمقالات والمحاضرات التي نشرها أو ألقاها وأثرى بها حياتَنا الفكرية وعالج فيها الكثيَر من مشكلاتنا القومية وقضايانا العلمية والاجتماعية والثقافية. عالجها بحكمته البالغة وفكره المستنير.
ومن أبرز مؤلفاته:
(1) نشأةُ الحضارة في مصر (1939).
(2) مكانة مصر في حضارات عصر ما قبل التاريخ (1941) وهو مؤلف ضخم يقع في 500 صفحة ويعد من كتب العيون بالنسبة للباحثين والدارسين، وكان لهذا الكتاب أثرهُ الواضحُ في أن يحتل صاحبُه مكانتَه البارزةَ بين علماء ما قبل التاريخ وكان الفقيد قد ضمّن هذا المؤلفَ ما توصل إليه من نتائج عندما قام بحفائرِ للكشف عن آثار ما قبل التاريخ في الفيوم (1937 : 1939).
(3) بحثٌ عن تطورات المناخ في شبه جزيرة سيناء.
(4) بحثٌ عن نهر النيل وتطوره الفيزيوغرافي – ذلك النهر الخالد الذي عشقه وكتب عنه الكثير وعن أثرِه في الحضارة المصرية -.
(5) حضارة مصر – أرض الكنانة ويقع في 327 صفحة (1991).
(6) أرض العروبة : رؤيةٌ تاريخيةٌ في الزمان والمكان ويقع في402 صفحة (1993)، ومؤلفٌ آخر ضخم عن مستقبل الثقافةِ في مصر العربية ويقع في 532 صفحة (1994)
هذا عدا العديد من مؤلفات وبحوث أخرى جغرافيةٍ وتاريخيةٍ لها قيمتُها العلميةُ البالغة أورد منها سبعة وعشرين مؤلفًا في سيرتِه الذاتية العطرة .
ولبحوثه وإنجازاته الرائدة ولمكانته العلمية البارزة نال العديدَ من الجوائز أبرزُها جائزةُ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1971وعلى أوسمةٍ من مصر والأردن وسوريا والعراق وفرنسا إذ تجاوز في آثاره ونظرياته الجديدة نطاقَ وطنهِ فنال تقديرَ الهيئات العلمية العالمية وارتفع بعلمه إلى مصاف العلماء الأفذاذ.

————————————-

1- أصبح الدكتور سليمان حزين عضوا بالمجمع في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ زكي المهندس عام 1976م، ثم شغل الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور سليمان حزين.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد