د. محمد مبارك البندارى: جامعة أم القرى
ارتبط شهر رمضان بنزول القرآن الكريم ” شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن ” الذى ينظّم لنا الحياة كما تنظم إشارات المرور المرور، نزل القرآن في ليلةِ القدر ليقول الله تعالى للعالمين: ” يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” ( سورة الحجرات /13 )، ومن الطبعى أن تواجه هذه الدعوة من المستبدين والطغاة ومن الذين سرقوا الإنسان من نفسهِ فأذلّوه وامتهنوا كرامته، وكانت مقاومتهم مقاومة ضَارية ومستميتة دفاعًا عمَّا سرقوه واغتصبوهُ من حقوقِ الإنسانِ، فكانتْ الثورةُ الكبرى في تاريخ الإنسانيةِ بنزولِ القرآن، وبدأت المواجهاتُ المباشرة بين الحقِّ والباطلِ من أوّلِ عامٍ فُرض فيه الصيام سنة 2هـ غزوة بدر الكبرى، ولم تتوقف هذه المواجهات إلى عصرنا الحاضر.
ويَجيءُ حديثنا عن الماضى لإحساسنَا أن الحاضرَ ابن الماضى، ودراستنا للماضى انطلاقة لإِضافةِ الحاضر الجديد إليه ليُصبِحَ غدًا وبعد غدٍ ماضياً جديداً ، وتَنطلقُ دراستنا لأهم الأحداث التاريخية في شهر رمضان في عالمٍ معاصرٍ حافلٍ بالتحدياتِ الدَّاخليةِ والخارجيةِ، وبدَا فيه ألاَّ مكان للضعيفِ، لذَا كان لِزامًا علينَا وحتمًا مقضياًّ أنْ نتدارسَ هذه الأحداثِ.
وقبل أن نشرع في سرد هذه الانتصارات التى كان النصرُ فيها حليف المسلمين دائمًا، وكانوا غالبًا أقل عددًا وعدَّةً، نتساءل كيف يكونُ النصر حليفهم في هذا شهر الصوم، والمقاتل يحتاج إلى طعامٍ وشرابٍ يَصنعُ له القوة ويُوفِّر الطَّاقة ؟ نجيبُ: لعلَّ الله – عز وجل – أبدلهم قوةً روحيَّة جعلتْ أهلَ الكفرِ يخرُّون صَرعَى بين يدى الصَّائمين، وهذَا سِرٌّ من أسرارِ هذا الشهرِ، ونتيجةٌ من نتائجِ التقوى التى هى غَايةُ الصَّومِ.
وَأُولَى هذه المعارك غزوة بدر الكبرى في السَّابع عشر من رمضان للسنة الثانية من هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم – ، وهى قمةُ المعارك العسكرية، وانتصار المسلمين فيها يعنى تثبيتَ أقدامهم، وقيام دولتهم الفتيَّة القويَّة، أما احتمال الهزيمة فقد عبَّر عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله مناجيًا ربَّهُ والمعركةُ تدورُ: ” يَا رَبّ إنْ تَهلِك هَذِه الطَّائفة فلنْ تُعبدَ في الْأَرضِ “.
فهذه المناجاة توضحُ أن الهزيمةَ تعنى النِّهايةُ والفناءُ.
ودَوَّى نَصْرُ المسلمينَ في هذه المعركةِ إِيذانًا بميلادِ قوةٍ عسكريَّةٍ جديدةٍ في شبه الجزيرة العربية
فقتلوا سبعين رجلاً من صَناديدِ قريش، وأَسرُوا سبعين آخرين، فحق أن يسمى بيوم الفرقان .
– ثانياً: غزوة الخندق، في الثالث عشر من شهر رمضان المعظم وفى السنة الخامسة للهجرة بدأ المسلمون وهم صائمون في حفر الخندق، استعدادًا لهذا الهجوم والتحالف الذى قادته قريش لاستئصال المسلمين في دارهم، وحدثت أحداثًا كثيرة عند حفر الخندق منها إخبارٌ بالغيب، وقد حدثتْ الغزوة في شهر شوال من نفس العام، وهى من أخطر الغزوات لتجمّع قريش وغطفان وأشجع واليهود، وكانت مواجهة هذه الأحزاب صعب جدًّا، فاقترح سلمان الفارسى – رضى الله عنه – حفر الخندق في المناطق التى يتوقَّع أن يأتى الأحزاب منها وهى الشمالية والغربية. ووقف المسلمون خلف الخندق والأحزاب في الجانب الآخر حتى أرسل الله عليهم ريحًا شديدًا فتركُوا أماكنهم منهزمينَ فارّين إلى ديارهم.
– ثالثا ً: فتح مكة، في العشرين من شهر رمضان المعظم وفى السنة الثامنة للهجرة امْتَنَّ اللهُ على رسوله بالفتح المبين، فدخلتْ الجيوش المسلمة مكة من جهاتٍ أَربع وعددها عشرة آلاف محارب وكان النبىُّ – صلى الله عليه وسلم – حريصًا أَلا تراق الدّماء، لذا فقد اعتمد – صلى الله عليه وسلم – على التخويفِ والرهبةِ فرفَع الآذان من فوق الكعبة وأُزيلت الأَصنام من حولها وعادتْ عاصمة الشّرك إلى الموحدين في شهر رمضان.
– رابعًا غزوة تبوك ضد الروم ، وهى آخر غزوة غزاها النبى – صلى الله عليه وسلم – في السنة التاسعة للهجرة، وقد ذكر ابن اسحاق أن رجوعه صلى الله عليه وسلم – كان في رمضان ، وأَنها استغرقتْ خمسين يومًا أقام منها عشرين يومًا في تبوك، وهذا يقتضى أَنه خرج – صلى الله عليه وسلم – في الخميس الثانى من شهر رجب ( على أصح الأقوال ) ، وقد سمَّاها القرآن ” غزوة العسرة “، وكانت هذه الغزوة لظروفها الخاصة بها اختبارًا شديدًا من الله امتاز به المؤمنون من غيرهم ، كما هى سنته سبحانه في مثل هذه المواطن ؛ حيث يقول سبحانه: ” ما كان الله ليذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ” ( سورة: آل عمران/ 179 )، وقد تخلَّف عن هذه الغزوة المنافقون وعددهم بضعة وثمانون رجلًا إلا ثلاثة من المؤمنين الصادقين ، سَجَّلَ الله توبتهم في سورة التوبةِ ( كعب بن مالك – مرارة بن الربيع – هلال بن أمية ) ، وقد تحولت القبائل التى تخضع لنفوذ الروم الى الخضوع للمسلمين ، وتوسعت حدود الدولة الإسلامية دون قتال يذكر ، وتبين للناس أنه ليس لأى قوةٍ من القوات أن تعيش في الجزيرة العربية سوى قوة الإسلام، بل إن زحف المسلمين إلى تبوك كان له أثره فيما بعد في المعارك التى فتحت الشام ومصر والشمال الأفريقى، لأنّ الروم تحصَّنوا في حصونهم خوفًا من المسلمين مما أَدى لخضوع هذه القبائل لسلطانِ الدولةِ الإسلاميةِ.
– خامسا ً: موقعة البويب ضد الفرس في سنة ثلاث عشرة للهجرة، وجاءت هذه المعركة بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر وقتل قائدهم أبوعبيد بن مسعود، لذا فإن قائد المعركة المثنى بن حارثة أراد أن يثأر للشهداء في هذه المعركة الفاصلة أمام قوة لا يستهان بها، فلم يعبر نهر الفرات ونادى في قائدهم ” مهران ” أنِ اعبرُوا أنتم ! وحَمَل ” المثنى” على ” مهران” فقتله ، وأجْهزَ عليه غلام نصرانىّ من نصارى العرب الذين قاتلوا مع المثنى وامتطى فرسه، وفَنى جيش الفرس بين قتيلٍ وجريحٍ، وقوامه قرابة مائة ألف في شهر رمضان، وهكذا أذَلَّتْ هذه المعركة رقابَ الفرس، يقول ابن كثير: ” لقد ذلت بهذه المعركة رقاب الفرس، وهى بالعراق نظير اليرموك بالشامِ ” ( البداية والنهاية 7 /231)
– وفى هذه الموقعة يقول الشاعر الأعور العبدلى مادحاً المثنى:
– سما لمهران والجيش الذى معه. ……… حتى أبادهم مثنى ووحداناً
وكانت هذه المعركة التى حدثت في رمضان فاتحة خير لانتصارات أخرى ضد الفرس كالقادسية ونهاوند.
– سادساً: فتح المسلمين للأندلس، ففى الخامس من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة، بدأ طارق بن زياد زحفه للأندلس، وفى الخامس والعشرين سنة اثنتين وتسعين للهجرة أكمل موسى بن نصير الفتح، ويُعدُّ هذا الفتحُ اقتحام لأوربا التى كانت تعيش في حروب شبه متصلة بسبب نظام الإقطاع بها ، وتعدُّ هذه الخطوة التى قادها ثلاثة من المسلمين طريف بن مالك وطارق بن زياد وموسى بن نصير بمثابة الزحف على هذه القارة التى تحتضن المسيحية منذ أن ظهرت.
– وطريف هو أَول قائد عبر المضيق على رأْس خمسمائة من الخيالة والرجالة تحملهم أَربع سفن من سفن ” جوليان ” حاكم ” سبته ” التابعة لإسبانيا ؛ لأنَّه على خلافٍ مع حاكمها ” لذريق ” الذى يقال: إنه اغتصب الحكم وكذا اغتصب ابنة جوليان، وسميت الجزيرة التى نزل عليها في رمضان 91هـ باسمه وما زالتْ تحمل نفس الاسم إِلى يومنا هذا، وعاد بغنائم كثيرة مما شَجَّع موسى على أمير القيروان على التقدم. ثم اختار موسى بن نصير القائد طارق بن زياد واستطاع مع سبعة آلاف من المسلمين أَن يعبر المضيق حول هالة من القصص والروايات التى تدور بين الصحة والخيال، وفتح غرناطة وقرطبة وطليطلة عاصمة حكم ” القوط ” آنذاك، وكان ذلك في رمضان 92هـ .
سابعاً: موقعة عين جالوت بين المصريين والمغول في 15 رمضان سنة 658هـ حيث استطاع المصريون بقيادة ” قطز” في شهر رمضان المبارك أن يهزموا هذه القبائل الهمجية التى لم يقف أمامها أحد، ويكفى أن نذكر نصّ رسالة هولاكو لقطز سلطان مصر لنرى مدى عنجهية هذه القبائل وقوتها، إذ جاء فيها: ” سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وقتلنا معظم العباد ، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب ولكن أىّ أرض تؤويكم، وأى بلاد تحميكم ؟ خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال “.
ولو استسلم حاكم مصر لهذه الرسالة لضاع العالم الإسلامى كله، ولكن صدرت الأوامر بقتل سفراء المغول الذين حمَلوا هذه الرسالة، وكان ذلك إيذاناً بقيام الحرب، وخرج الجيش المصرى بقيادة ” قطز” ومساعدة ” بيبرس ” إلى غزة ثم إلى عين جالوت بين بيسان ونابلس ، وأبْلَى بلاءً حسناً وهو يصرخ واإسلاماه ! ، واستطاع أن يهزم المغول في معركة شرسة يقال استمرت من مطلع الفجر إلى منتصف النهار، وأسر قائد المغول وتفوه بالسباب والتهديد أمام قطز فأمر بقتله، واستمرت هزائم المغول أمام الجيوش المصرية بعد عين جالوت، وكانوا يعللون ذلك بأن المصريين معهم سيف الرسول – صلى الله عليه وسلم – .
ثامناً: استرداد أنطاكية من الصليبين في 4 رمضان سنة 666ه بقيادة القائد المظفر ” الظاهر بيبرس “، وكانت إمارة الشام من أقوى الإمارات الصليبية الباقية في الشام ؛ لأنها كانت تتلقى إمدادات من أوربا، واستطاع بيبرس أن يدمّر نفسية قائدها فأرعبه نفسيًّا وكتبَ ” لبوهيمند” أمير أنطاكية كتابًا جاء فيه: ” نزلنا أَنطاكية في مستهل رمضان ، وخرج عساكرك للمبارزة فكُسروا وتناصروا فما نصروا ، وفتحناها في الرابع من رمضان ، وقتلنا كل من اخترته لحفظها والدفاع عنها، فلو رأَيت خيالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول وديارك والنهاية تصول وأموالك وهى توزن بالقنطار، وجواريك وكل أربع منهنَّ تبعنَ بدينار ، ولو رأيت كنائسك وصلبانها، وقد كسرت وقبور البطارقة وقد بعثرت ؛ لتيقنت أنَّ قوة الله أعادت أنطاكية إلى أهلها إلى الأبد وتركتك بدون عون ومدد ” .
تاسعاً: حرب العاشر من رمضان بين المصريين والصهاينة في رمضان سنة 1393هـ = السادس من أكتوبر 1973م، فقد جاء هذا النصر بعد هزيمة مدوّية للدول العربية واحتلال أجزاء كثيرة من أراضيها في 1976م، ومنها شبه جزيرة سيناء، وقامت بعمل نقاط حصينة يصعب تدميرها واختراقها، وقام ” بارليف ” قائد الأركان بعمل الساتر الترابى الذى عرف باسمه على طول الجبهة، إضافة إلى النابالم. … وقالوا إن اجتياح هذا الساتر التّرابى يحتاج إلى مهندسى الروس والأمريكان معًا، واستطاع الجنود المصريون أن يكسروا أسطورة الجيش الذى لا يقهر في العاشر من رمضان، مما حدَا برئيسة الوزاء ” جولدا مائير ” أن تستغيث بالرئيس الأمريكى ” ريتشارد نيكسون ” برسالة قصيرة: أنقذنا. .. الزلزال !!، واستجابة أمريكا للاستغاثة بإنشاء جسر جوى إلى إسرائيل يحمل الدبابات والطائرات وقطع الغيار. ..
المهم أنهم في هذا اليوم المبارك الأسود على الصهاينة فاقت خسائر إسرائيل كل تقدير، وقالت رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك : ” إنّ خسائرَ بلادها تفوق خسائر الولايات المتحدة في حروب الهند والصين التى استمرت عشر سنوات “.
وأطلق ” مناحم بيجين ” على هذه الحرب ” حرب الأبناء ” ؛ لأن القتلى جُلُّهم من الشبان الذين لم يتجاوز الواحد منهم الرابعة والعشرين من العمر.
وهذه الحرب من مفاخر العرب في العصر الحديث ؛ إذ تعاون العرب جميعاً في هذه الحرب وأبْلَى قادة الأمة آنذاك بلاءً حسناً، يُضرب به المثل، وما أحوجنا إلأى مثل هذا التعاون الآن.
وبعد. .. فليس آخراً العاشر من رمضان، ولعل الله يرزقنا نصرًا مؤزرًا في هذا الشهر الكريم على أعدائنَا.
اترك رد