التداخلية بين العلوم في التراث العربي الإسلامي: الأسئلة والمفاهيم والدواعي

أصبحت فكرة التكامل بين المعارف والعلوم, في السنوات الأخيرة من أكثر المواضيع اهتماما في الأوساط العلمية والأكاديمية. وطالت مجالات متعددة منها العلوم الإنسانية والاقتصادية و البحتة و علوم الإدارة و التسيير و التربية وغيرها, تهدف هذه المقاربة إلى انفتاح العلوم على بعضها البعض، وتناصها وتناظره..

-التداخلية بين العلوم في التراث العربي الإسلامي: الأسئلة والمفاهيم والدواعي:

-اشكالات واسئلة اولية:
من الظواهر الثقافية والفكرية التي تستوقف الدارس والباحث والمتابع لمسار التراث العربي الإسلامي في تطوره التاريخي، هو ذلك التداخل القائم بين العلوم التي نشأت في هذه التراث… حيث إن العلاقة التداخلية والتكاملية كانت هي السمة البارزة والغالبة على جميع العلوم التي نشأت، وتطورت في أحضان الثقافة العربية الإسلامية…… (1).
وهذا التداخل بين العلوم، استوقف كثيرا من الدارسين ،وأثار عددا من الباحثين وهو ما جعل الباحثون يتوجهون نحو البحث عن الأسباب ،و ينقبون عن الدواعي ويرصدون النتائج، والآثار التي كانت من وراء هذا التداخل والتكامل القائم بين العلوم التي نشأت في التراث العربي الإسلامي. والذي كان حاضرا بقوة وقائما بشكل ملفت للانتباه بين عدد من العلوم.
وكان من أثار هذه المتابعة أن تمت مجاوزة الطروحات والتوجهات والرؤى، والاختيارات التي ناصرها، ودافع عنها البعض ،والتي تنزع نحو مناصرة التوجه والموقف القائل باستقلالية العلوم في الثقافة العربية الإسلامية، من حيث الموضوع والمنهج، و كذا من حيث الإطار المرجعي . وترتب عن هذه الاستقلالية بالنسبة للقائلين والمناصرين لها . التنصيص على استقلالية المفاهيم المتداولة، والمصطلحات المشكلة والمتداولة في جميع الحقول المعرفية التي نشأت، وتطورت في أحضان الحضارة العربية الإسلامية . وهذا يعني أن هذه العلوم رغم طابع التميز، والاستقلالية في كثير من القضايا المشتركة، فإنها مع ذلك ظلت مركبة، ومؤسسة من مجموعة من الثنائيات،المتصارعة أحيانا، والمتعايشة والمتصالحة أحيانا أخرى تبعا للسياقات التاريخية ،والظروف الثقافية والحضارية التي فيها نشأت وتطورت في أحضانها تلك العلوم …. . (2)
و للتصدي ومجاوزة هذه الأطروحات القائلة بالانفصال، والاستقلالية بين هذه العلوم التراثية من لدن المناصرين لفكرة التداخل والتكامل . فقد توجه المناصرون للتداخل بين العلوم إلى تنظيم عدة لقاءات، و إعداد عدة ندوات وانجاز عدة بحوث قصد استحضار وتمثل أهم القضايا والإشكالات ذات الصلة بموضوع تداخل العلوم و من اجل استجلاء المعالم الكبرى وتمثل الدواعي الأساسية التي ساهمت من قريب أو من بعيد في هذا التداخل . ورصد أهم الأسباب والنتائج التي ساهمت في هذا التداخل القائم على أهم انتقال واستجلاء المفاهيم من علم إلى أخر. … . . (3)
من هنا ندرك أن فكرة التداخل والتكامل بين العلوم شكلت احد الأفكار الأساسية والمحاور الكبرى التي لقيت رواجا واسعا، ومناقشة مستفيضة بين الدارسين والباحثين المنشغلين بالدراسات التراثية في الآونة الأخيرة، وهو ما أفضى إلى جعل فكرة التداخل موضع عناية و محور اشتغال ومحل اهتمام بين المشتغلين بالتراث العربي الإسلامي….
و من ابرز الأسباب التي ساهمت في هذا التداخل هو محورية النص القرءاني في الثقافة الإسلامية، وخدمة العلوم بعضها للبعض، وتبعيتها للنص القرءاني، علما أن العلوم الشرعية لم تكن بمنأى عما تعرفه العلوم الأخرى من إشكالات نظرية، وتحولات معرفية، وتساؤلات منهجية ،خاصة في جانب تبادل الوظائف واستعارة المفاهيم. أوفي ما تطرح هذه العلوم من أسئلة نظرية وإشكالات معرفية وصعوبات منهجية خاصة ما كان من قبيل الأسئلة المؤسسة لبنائها المعرفي وجهازها المفاهيمي . أو ما تعلق كذلك بالمرجعية المؤسسة لها . وإنما كانت هذه العلوم منفتحة فيما بينها ومتداخلة في مفاهيمها و متواصلة ومتفاعلة حتى مع العلوم العقلية الدخيلة على الثقافة العربية الإسلامية. (4) خاصة تلك العلوم التي انتقلت من اليونان إلى المسلمين عن طريق الترجمة والمثاقفة الحضارية والمسماة والمنعوتة بالعلوم الدخيلة. وان كان هذا الانتقال مر بمرحلة النقد والمراجعة خاصة في الجانب المتصل بالإشكالات النظرية و الأسئلة المعرفية والأبعاد المرجعية سواء في المناهج أو في المواضيع أو في المفاهيم . هذه المعطيات والإشكالات هي التي جعلت الانفصال والاستقلال غير وارد أو مطروح بين جميع العلوم التي نشأت في أحضان الثقافة العربية الإسلامية بفعل وحدة المرجع ،الذي كان يجمعها وهو النص القرءاني…..
ومما يدل على مبدأ التداخلية القائمة بين العلوم ،هو علم تصنيف العلوم ،ولو لم تكن تلك العلوم متكاملة فيما بينها لما أمكن تصنيفها حسب مرجعياتها من حيث الفائدة والأصل ،فرغم اختلاف معايير التصنيف ،المتسومة بالتنوع والتفرق. فان ذلك يدل بوضوح” النزعة التكاملية التي العلوم التي نشأت في التراث العربي الإسلامي…” (5)
ومن أثار هذا التداخل بين العلوم ،تصنيف العلوم إلى علوم أصلية وعلوم خادمة للأصل. أو علوم مقصودة وعلوم خادمة للعلوم المقصودة. وعلى هذا الاختيار اخذ ابن رشد الحفيد . أو علوم الوسائل وعلوم المقاصد . (6) قال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في صناعة النحو، مشيرا إلى أصناف العلوم من حيث كونها أصلا أو تابعة للأصل :”إن العلوم صنفان : علوم مقصودة لنفسها وعلوم مسددة للإنسان في تعلم (7) العلوم المقصودة في نفسها …” (8) . ومن العلوم المسددة علم النحو وعلم المنطق “فمنزلة النحو كمنزلة المنطق علمان مسددان إلا أن الأول يسدد اللسان والثاني يسدد العقل والفكر.حتى لا يقع غلط فيهما …” وتعد هذه العلوم:علم أصول الفقه وعلم النحو وعلم الكلام من أكثر العلوم تبادلا للمفاهيم، فقد انتقلت مفاهيم الأصوليين إلى النحويين.كما انتقلت مفاهيم اللغويين إلى الأصوليين وكان من أثار هذا الانتقال أن اكتسبت هذه المفاهيم معان جديدة غير المعاني التي كانت عليها في علومه الأصلية وهذا مؤشر على ضرورة التمييز بين هذه المفاهيم في الدلالة والمعنى في حقولها المعرفية الأصلية أو في الحقول المعرفية الأخرى التي انتقلت إليها هذه المفاهيم ….فمفاهيم علماء الأصول اكتسبت دلالات جديدة عند علماء اللغة وهذا أمر طبيعي، لان موضوع العلمين غير متقاربين من حيث الموضوع والمنهج. ذلك أن موضوع علم أصول هوا لاستدلال على الأحكام وضبط النص في فهمه.أما موضوع علم اللغة فهو وضع معايير لضبط التواصل والتخاطب بين المتخاطبين. كما أن الجهاز المفاهيمي عند اللغويين اعتراه نوعا من التحول في الدلالة عند علماء الأصول .وهو المعطى الذي يجب الانتباه إليه لكل من مارس القراءة أو البحث في مسار المفاهيم و تاريخ المصطلحات المتداولة في التراث العربي الإسلامي فالمصطلح الواحد تتنوع دلالته وتتعدد معانيه تبعا للحقل المعرفي المتداول فيه….
وللخروج من هذا الإشكال كان من الضروري انجاز المعجم التاريخي للغة العربية عامة، والمعجم التاريخي لمصطلحات العلوم خاصة .فهذا المشروع هو الكفيل ،بإزالة الإبهام و الفصل بين المفاهيم المتداولة تبعا لحقولها الأصلية…..
ومما اتصفت بالحقول المعرفية في الثقافة العربية الإسلامية هو التعدد في حقولها المعرفية والتنوع في معجمها المفاهيمي، بسبب وحدة الهدف وتعدد الغاية وهوا لمحدد خدمتها للنص . وهذا المعطى يشعر بأن التعدد والتنوع في الثقافة الإسلامية كان من ابرز مكونات وخصائص هذه الثقافة ،واحد مستويات قوة هذه الحضارة، خاصة ما تعلق بالحقول المعرفية ذات الصلة بالمرجعية المباشرة في النص القرءاني. مع العلم إن هذا التعدد إنما كان في الموضوع و المنهج. ولم يكن في التصور ولا في الرؤية ولا في الإطار أوفي المرجع الموجه والجامع لهذه الحقول المعرفية….
ومما ساعد على هذا التكامل والتواصل بين هذه العلوم بجميع فروعها وأقسامها،أصلية كانت أو خادمة للأصل نقليه كانت أم عقلية، مسددة أو غير مسددة، محلية أو منقولة من حضارات، وثقافات أخرى . هو وحدة الإطار و توحد المرجع الذي يجمع هذه العلوم. إذ التحمت هذه العلوم في مجملها ،و في نسق واحد من اجل خدمتها للقران الكريم توثيقا واستمدادا وبيانا. فقد اتجهت كل العلوم نحو القرءان الكريم بيانا واستنباطا واستمدادا وتفسيرا وتأويلا وتوثيقا وتحقيقا وقراءة… (9) . ذلك آن القرءان –كما قال ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسير التسهيل -كان هو المقصود بذاته وسائر العلوم أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع عنه….” (10) .
إذ شكل القرءان الكريم النص المؤسس للحضارة الإسلامية ،والمحور المشيد للمعارف والعلوم والمنطلق المشترك والجامع لكل الجهود الفكرية والعلمية في الثقافة العربية الإسلامية. فقد دارت حوله مختلف العلوم والدراسات رغم اختلاف مرجعية هذه العلوم وتنوع مواضيعها وتوزع حقولها المعرفية الشيء الذي جعل هذه العلوم منصهرة في بناء واحد…. فهو المرجع والمشترك بين كثير من العلوم التي كانت في الحضارة الإسلامية …..
وبما أن القرءان ظهر في ثقافة تعبر عن نفسها بواسطة اللغة المحمولة في هذا النص، وهو النص القرءاني، فكان من الطبيعي أن يكون القرءان هو المحورالرئيسي الذي التقت، وانصهرت فيه مختلف العلوم خاصة البيانية…
فما من علم كان في التراث العربي الإسلامي، إلا وكان القرءان الكريم هو المحور الذي يتحرك حوله هذا العلم . وهذا الأمر ينطبق على مختلف فروع المعرفة الإنسانية التي ظهرت في الثقافة العربية الإسلامية . فمدار العلوم الإسلامية كلها كان هو النص المؤسس وهو القرءان الكريم مما جعل البحث في أي علم من العلوم الإسلامية من حيث الموضوع أومن حيث المنهج أومن حيث الجهاز المفاهيمي المصطلحي، يشكل ميدانا فسيحا و فضاء متشابكا ومتداخلا بين عدد من العلوم وهو مما انعكس أثره إيجابا على تطور المعرفة في الثقافة الإسلامية .
هذا الأصل المعرفي الثابت هو ما جعل كثيرا من الدارسين يرون أن عطاء الفكر العربي الإسلامي وإبداعه إنما نشا أساسا من خلال تعامله المباشر مع النص القرءاني. وهو الأمر الذي يجعلنا ننعت الثقافة العربية الإسلامية بأنها ثقافة محورها النص….. و هذا يقودنا إلى القول والاعتراف أن هناك خلفية دينية تحكمت في توجيه الدراسات اللغوية والقرءانية. وجعلت العلوم على اختلاف تخصصاتها ومنازعها وتوجهاتها تتجه نحو خدمة النص القرءاني(11) … في جميع مستوياته ومناحيه .
وان كان الجامع المشترك لهذه العلوم هو الاتجاه نحو توثيق النص باعتبار أن الثوتيق والتحقيق يعد مرحلة أولية وأساسية في التعامل مع النص تمهيدا لاستمداد المعنى منه . الذي هو الأساس والقصد، فان هذه العلوم اتجهت كذلك نحو استمداد المعنى من النص وتمثل المستويات الدلالية في النص…..
وهذا مدعاة إلى القول بان جميع العوم التي توجهت نحو البيان والفهم ،كانت تقصد تمثل المعنى المحمول في النص…
وما يقتضيه هذا الموقف أن طلب العلوم التراثية معرفيا ومنهجيا يقتضي من طالبها ومتلقيها، استحضار قبلي وأولي لمجموعة من المعارف والعلوم المركبة لهذا التراث لكون هذه العلوم علوما جامعة ومشتركة في مجموعة من القضايا والمسائل النظرية خاصة ما كان من قبيل المرجعيات والمفاهيم والمصطلحات التي انتقلت من حقولها المعرفية إلى حقول معرفية أخرى مكتسبة بهذا الانتقال والعبور معان ودلالات جديدة. ومتداخلة في الوظائف والمهام والأدوار والقاسم الذي يجمعها هو خدمتها للنص القرءاني توثيقا واستمدادا وبيانا وتفسيرا…..
ومن أثار هذا التداخل انتقال كثيرا من المفاهيم من حقولها المعرفية الأصلية إلى حقول معرفية أخرى مثل مفاهيم الأصوليين التي كانت متداولة بينهم، فقد انتقلت هذه المفاهيم إلى علماء اللغة مثل القياس، والعلة، والنسخ، والاستحسان…وأخذت بهذا الاستعمال الجديد مفهوما خاصا ومتميزا عند النحويين يختلف عن المفهوم الذي كان عليه متداولا ومستعملا في أصله الأول. كما أن بعض مفاهيم اللغويين ومصطلحاهم انتقلت وهجرت أصلها وأخذت في تداول الأصوليين وفي بحوثهم اللغوية مفاهيم جديدة، لم تكن معهودة بينهم مثل :الكلمة، والترادف، والاشتراك، والتباين. والمعنى الأصلي والمعنى التبعي والسياق . وهذا العبور المصطلحي من علم إلى أخر نعته البعض وسماه برحلة المصطلحات والمفاهيم …. (12) .
هذا التوجه في رحلة المفاهيم واكتسابها لمفاهيم جديدة، ينبغي استحضاره في أية مقاربة أو مدارسة لأي حقل معرفي في التراث العربي الإسلامي….فانتقال المفاهيم والمصطلحات من حقولها المعرفية إلى حقول معرفية أخرى من الأساسيات والمميزات التي طبعت التراث الإسلامي.و من ثم لا ينبغي التنكر لهذا العبور أو التغاضي عنه أو إهماله أو إبعاده لكل من توجه أو مقاربة، أو مدراسة، توجهت نحو البحث الأكاديمي في التراث العربي الإسلامي، خاصة ما كان من قبيل البحوث التي اختارت وجهة الدراسة المصطلحية تأصيلا وتنظيرا، وتوصيفا وتحديدا . …….. (13) .
ومما يثير الباحث وهو يستحضر ويتابع أثار هذا التداخل أن كثيرا من العلوم نضجت وتطورت في أحضان علوم أخرى .خاصة العلوم التي يجمعها وحدة الموضوع وتتقاسم وحدة الهدف وتشترك في الغاية والمقصد. فعلم البلاغة وعلم اللغة، وعلم التصريف من العلوم التي نضجت ونمت وتطورت في أحضان كتب التفسير،خاصة الكتب الأمهات. وهو ما تؤكده مدونات ومصنفات المفسرين، .فعلم النحو الذي يتحدد موضوعه في إعراب الكلمات وبيان مواقعها ومراتبها في التركيب، نشا لفهم القرءان الكريم لغاية الوصول إلى المعنى المحمول في نصوص القرءان الكريم، لان المعنى في النص يتحدد أو يتغير تبعا لموقع الكلمة ورتبتها في التركيب.،وعلم البلاغة من العلوم التي نشأت للبحث في جمالية النص القرءاني، وإدراك الفروق البلاغية في هذه الجمل والتراكيب….مع تحكيم السياقات في القول….
ومن ثم فان علم التفسير من العلوم الجامعة لعدد من العلوم، من لغة وبلاغة، وتصريف، وعلم القراءات ،وعلم الدلالة، وعلم أصول الفقه…بحيث اجتمع في هذا العلم-علم التفسير- ما تفرق في غيره. وهو ما يفسر، لنا أن عددا من المفسرين كانوا يشتغلون على اللغة والبلاغة، وعلى علم أصول الفقه في سياق تفسيرهم لكتاب الله .علما أن اغلب المفسرين كانوا علماء لغة وبلاغة، وعلماء أصول. مثل الإمام ابن سلام ت276ه صاحب كتاب التصاريف ، وأبو عبيدة معمر بن المنى ت210ه صاحب كتاب مجاز القرءان والإمام الفراء صاحب معان القرءان،والإمام الراغب الاصفهانيت505ه صاحب كتاب المفردات و الإمام الزمخشري والإمام الراغب الاصفهاني ت500ه، والإمام السمين الحلبي. والإمام الفيروز أبادي، والإمام أبو حيان الأندلسي والإمام القرطبي والإمام جلال الدين السيوطي ت911ه…… (14) .
كما أن علم أصول الفقه من العلوم التي حملت في مباحثها كثيرا من العلوم خاصة: علوم اللغة، وعلوم المنطق، وعلم الدلالة . لان هذا العلم أراد له مؤسسه الإمام الشافعي ت204ه أن يكون علما ضابطا للفهم، وضابطا للاستدلال، ومسددا للاستنباط . لان موضوع هذا العلم هو الاستدلال على الأحكام الشرعية ،والأساس في الاستدلال على الأحكام الشرعية هو فهم النص، وهذه القاعدة تكاد تشكل منطلقا منهجيا عاما عند جميع الأصوليين بمختلف مدارسهم، ومنازعهم ومناهجهم ، بحيث لا ينضبط الاستدلال على الأحكام الشرعية ،إلا بالتمكن من اللغة العربية، كما صرح بذلك اغلب علماء الأصول، وعلماء اللغة . إذ صرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات أن” الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة حق الفهم لأنهما سيان في النمط ….” (15) ..
على هذا الاعتبار فان علماء الأصول كانوا من أوائل من احتضن البحوث والدراسات الدلالية واللغوية، خاصة ما كان من قبيل الدراسات حول الألفاظ في علاقتها بالمعاني بجميع مستوياتها .بحيث لا نجد أثرا أصوليا، اوكتابا من المصنفات الاصولية إلا ونجد فيه مجموعة من البحوث اللغوية، والدلالية التي كانت تدور في محور فهم النص … (16) .
وهذا الترابط الوثيق بين اللغة العربية والاستدلال، يعود إلى إن النص القرءاني ظهر في ثقافة تعبر عن نفسها بواسطة لغة هي اللغة العربية، فلا سبيل الى الفهم الا باللغة العربية .من هنا لا بد في التفسير لهذا النص من الانضباط بضوابط اللغة العربية، وقواعدها، وسسنها وقوانينها في التعبير والأداء. وهذا الحضور اللغوي القوي في كتب الأصول. هو ما حاولت الكشف عنه البحوث والدراسات الكثيرة، حيث توخت استنطاق ومقاربة الدرس اللغوي عند الأصوليين في احد جوانبه ومستوياته، و هذه البحوث حققت تراكما كميا في الآونة الأخيرة …. (17) .
لقد اهتم علماء الأصول باللغة اهتماما كبيرا.وأدركوا أهميتها وطبيعتها في إدراك القصد من نصوص الكتاب والسنة…..وتتبعوا مستوياتها ومكوناتها وتراكيبها ،كما تعقبوا سننها في التخاطب ومنطقها في الأداء… (18)
ومن ابرز المحاور اللغوية التي كانت موضوع دراسة الأصوليين محور الألفاظ في علاقتها بالمعاني، حيث راكم الأصوليون مادة لغوية واسعة في هذا المحور(19) . بل لا نبالغ إذا قلنا بأنه هو المحور اللغوي الغالب و المتعلق بمحور الألفاظ في علاقته بالمعاني، كان هو المحور الغالب والمهيمن على بحوث الأصوليين ودراساتهم للألفاظ في علاقتهما بالمعاني……
ومما يميز الخطاب الأصولي حول اللغة هو قيامه على مجموعة من الثنائيات.مثل : الحقيقة والمجاز.والواضح والخفي.والمفيد والمهمل .والمعنى الأصلي والمعنى التبعي.والكلي والجزئي.والمنطوق والمفهوم، والصريح والمضمر…..
تبعا لما سبق ندرك أن علم أصول الفقه يعد من ابرز العلوم التي شكلت نقطة تقاطع، و محور التقاء، وتقاطع لمجموعة من العلوم ،حيث وظفت فيه عدة معارف و أدخلت فيه عدة علوم، واستثمرت فيه عدة مفاهيم، مما أهله لان يكون علما جامعا بين مجموعة من العلوم :العلوم النقلية و العلوم العقلية وبين علوم الفهم وعلوم الاستدلال.
والذي زاد هذا العلم ثراء واتساعا، هو تعدد الروافد، وتنوع الأنساق، التي تركت بصماتها وأثرها في مسار هذا العلم وتطوره ،خاصة علم المنطق الذي أثرى هذا العلم، ووسع من مساحته في باب اللغويات، وباب الاستدلال، وباب القواعد وباب التحديدات …. (20) .
لان المباحث المنطقية ساعدت الأصوليين بشكل كبير، على التحلي بوصف الدقة والضبط في تشييد استدلالاتهم وبناء مفاهيمهم بناء منطقيا…..
تجليات التداخل بين العلوم:
من ابرز العلوم التي جسدت هذا التداخل،علم أصول الفقه،وعلم الكلام ،وعلم التفسير، وعلم النحو…
فهذه العلوم، تعد من ابرز العلوم التي جسدت مبدأ التداخل القائم بين العلوم التي نشأت في الحضارة العربية الإسلامية…..
فعلم أصول الفقه يتأسس في الجزء الأكبر على اللغة ،لان المعرفة باللغة العربية شرط في معرفة كلام العرب، الذي هو المدخل لفهم النص القرءاني ،قال ابن قتيبة الدينوري في كتابه تأويل مشكل القرءان :” وإنما يعرف فضل القران من كثر نظره واتساع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب “. (21) .
والناظر في كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري وهو من الكتب الأمهات، يلاحظ مدى حضور اللغة في كتب الأصول، بل إنها نتشكل ثلث الكتاب بكامله…..
ومما يدل على مدى هذا الترابط الوثيق ببين علم أصول الفقه وعلم اللغة،هذا التعريف الذي اختاره الإمام القرافي في الفروق لعلم أصول الفقه، ونصه:”فان علم أصول الفقه،يهتم بقواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية ،وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، نحو الأمر للوجوب،والنهي للتحريم…” (22) ..
ومما قرره الأصوليون و اللغويون، أن سبب الخطأ في تفسير القرءان الكريم، وعدم تمثل المعنى المحمول في النص القرءاني ،وعدم إدراك معاني الوحي، وعدم تمثل القصد إنما يرجع إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية ،والقصور في علومها، والضعف عن امتلاك ناصيتها……
علم التفسير : إن هذا العلم هو الأخر جسد مبدأ التداخل القائم بين العلوم التي كانت خاصرة في التراث العربي الإسلامي ،ويظهر هذا التداخل في التعريفات التي أعطيت لعم التفسير وهي تعريفات تراهن على مبدأ اتداخلية القامة بين علم التفسير وغيره من العلوم العلوم…
إذا كان القرآن الكريم قد أسسس للممارسات الأدبية واللغوية العربية، وأسهم في تفعيل آليات التفكير والتنظير في الأدب واللغة عند العرب فاستوت به الأسالي.
فقد ذكر أبو حيان الأندلسي ت745ه في مقدمة تفسيره البحران علم التفسير “:”: علمٌ يُبحثُ فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامِها الإفرازية والتركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمل ُ عليها حالَ التركيبِ، وتتمان ذلك.. (23) .
وهذا التعريف يدل على مدى شمولية هذا العلم، في حمله لكثير من العلوم المساعدة على الفهم والتفسير….
-علم النحو، فهذا العلم حمل في أحشائه كثبر من العلوم خاصة علم أصول النحو، وعلم المنطق……..
-أثار التداخلية بين العلوم
الهوامش :

1-يراجع : منهجية التكامل المعرفي:مقدمات في المنهجية الإسلامية للدكتور حسن ملكاوي.منشوران المعهد العالمي للفكر الإسلامي: “2012.
2-من الباحتين الذين اخذوا بهذا الموقف الدكتور محمد عابد الجابري في كتابيه : تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي.
3-من قبيل هذه الندوات ندوة دار الحديث الحسنية في موضوع :التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية.11و120فبراير :2010.
4-إشكالية مفهوم التداخل في الإسلام :بنيتها وتجلياتها .للدكتور عبد المجيد الصغير ::.ضمن أعمال ندوة دار الحديث الحسنية:2010.
5-علاقة علم اصول الفقه بعلم الكلام لمحمد علي الجيالي :47.
6-على هذا الاختيار .جرى اختيار الدكتور طه عبد الرحمان في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث:23
7- الضروري في صناعة النحو لابن رشد الحفيد :2
8-يراجع كتاب : الضروري في صناعة النحو لابن رشد الحفيد :22
9- يراجع: دراسات الطبري للمعنى من خلال تفسيره جامع البيان. للدكتور محمد المالكي: ص :21 وهو من منشورات وزارة الأوقاف المغربية.2000.
10-مقدمة كتاب التسهيل لعلوم التنزيل :1/5
11- جهود الطبري في دراسة الشواهد الشعرية للدكتور محمد المالكي:12.منشورات كلية الآداب فآس المغرب :1994 .
12-المفاهيم الرحالة من علم إلى أخر لمحمد حمدوش . ضمن ندوة : قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الإنسانية.العدد:12.السنة:2001.
13-يراجع مداخلتنا :الدرس المصطلحي عند الأصوليين .مداخلة قدمناها إلى مؤتمر الدراسات المصطلحية الذي انعقد بكلية الآداب بسطيف بنعمر :2012.
14-يراجع: أطروحة:مساعد بن سليمان : التفسير اللغوي للقرءان الكريم إصدار دار ابن الجوزي حيث أدرج عددا من كتب التفسير التي اعتن بالجانب اللغوي في تفسير القرءان الكريم. وأطروحة محمد لهادي الطرابلسي::قضايا اللغة في كتب التفسير وهي أطروحة قدمت إلى كلية الآداب بتونس تحت إشراف الهادي الجلطاوي..وبحث الدكتور سليمان بن إبراهيم العاليد :جهود علماء العربية في خدمة القرءان الكريم: ابن فارس في كتابه الصاحبي أنموذجا.ضمن ندوة :جهود الأمة في خدمة القرءان الكريم فاس ابريل 2011.
15-الموافقات :48/115.
16-علم الدلالة ب ين العرب والغرب.مجلة الأقلام العراقية.العدد :5-السنة :1981..
17-يراجع دراستنا:الدرس اللغوي عند الأصوليين حيث تقصينا عددا من الدراسات الأكاديمية التي حاولت ملامسة هذا الدرس على مستوى الموضوع والمنهج والغاية ….
18-الدلالة وتفسير النص للدكتور الكبيسي .مجلة كلية الشريعة العدد1.العراق السنة :1986.
19-علم الدلالة بين العرب والغرب للدكتور عبد الكريم مجاهد.مجلة الأقلام العراقية العدد:16.الستة :1981.
20-الأصول الإسلامية لرفيق العجم :7.
21-تأويل مشكل القرءان لابن قتيبة:52
22-الفروق للقرافي:1/22
23-البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي:1/22


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد