صرخة مكلومة في ذكرى مولد الرحمة المعصومة

العزاء في الإنسانية حينما تموت الرجولة ويتبجح الذكور باختطاف النساء وسحلهن وضربهن و نحرهن في الساحات والأماكن العامة ، وكل البشرية تتفرج ، بك نستجير يا رسول الله لو تعلم ماذا أحدثوا بعدك في شهر مولدك .

جاء الإسلام بمنهج شامل للحياة متمحورٌ حول الإنسان خطابا وتكليفا ورعاية ، حدّد فيه علاقته بالموجودات منطلقا في ذلك من كينونته في حد ذاته، صانعا لوعيه بها، حاسما لتصوّره عنها، مرتكزا على بناء العقيدة عنده ما أمّن له المعرفة الكاملة لذاته وحقيقة وجوده والغاية من ذلك، لينطلق برصانةٍ نحو معرفة ما سواه، ويجعل مسلكه نحو الدوائر الثلاثة: ربه : ” اتق الله حيثما كنت “، ونفسه : ” واتبع الحسنة السيئة تمحوها “، وغيره : ” وخالق الناس بخلق حسن ” نابعا من عقيدة تؤثث لفكره ولوجدانه أيّا كان المسلك نفسيا أو عقليا، فرديا أو اجتماعيا .
إن ارتباط الفعل بمختلف أنماطه بالعقيدة يجعل منه محكوما بمقتضياتها، وضمن هذا البناء القيمي تحدّدت العلاقات الاجتماعية في الإسلام وبُنيت على أساسها مختلف النظم الاجتماعية، وتأثثت تأسيا بذلك: المكانة الاجتماعية للمرأة كفردٍ وكطرفٍ أساسي في العلاقة بينها وبين الرجل وفق المحدّدات التالية:
– المساواة في التكاليف الشرعية إلا ما كان منافيا لفطرة المرأة وقدراتها البيولوجية والنفسية .
– المساواة في الحقوق والواجبات الانسانية والاجتماعية إلا ما كان منافيا لمنطق الإنصاف ومتعارضا مع فطرة المرأة اللصيقة بها بحكم جوهر خِلقتها في حدّ ذاته لا على أساس تراتبية اجتماعية موروثة .
– تخليص المرأة من مظاهر التشيؤ القائمة على النظر لها على أساس جنسها وحصر أدوارها في أداتية الجسد بإلزامها بالحجاب الظاهر( اللباس الساتر) والحجاب الباطن (لباس التقوى) مكرّسا التعامل معها على أساس انسانيتها في مختلف الفضاءات الاجتماعية على قاعدة تعامل الانسان مع الإنسان وخطاب الفكر للفكر والعقل للعقل دون تمييز على أساس الجنس.
– رسم حدود العلاقة مع الرجل على أساس تكاملي منسجم مع جوهر خِلقة كلٍّ منهما واستعداداته الفطرية وخاصة فيما يتعلق بأهم بناء تشاركي بينهما والمتمثل في الأسرة وارتكازها على المرأة وما ينجرّ عن تلك الأدوار المتباينة المتكاملة من جزاء أخروي وعوائد اجتماعية .
– احترام الأدوار الفطرية للمرأة وتثمينها اجتماعيا في إطار التكامل مع أدوار الرجل وتغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد دون هدر لحقوقه، في وسطية تفرد بها المنهج الإسلامي .
– تكريس مبدأ مشاركة المرأة في الحياة العامة الذي كان متلازما مع إعلان القطيعة مع الهيمنة الذكورية التي احتكرت المجال العام لصالح الرجل بحجة تفرغ المرأة لأدوارها الفطرية .
وعلى هذه الأسس رسم النبي صلى الله عليه وسلم مشروعه بالخطوط العريضة للنظام القيمي المتعلق بالمرأة ” الانسان ” وكرّس ذلك نصًّا وممارسةً تجلّت في الدولة المدنية في المدينة المنورة .
ولعلّ أهم صفات المشروع النبوي صفة الشمول المرتكزة على الانسان كمحورٍ للوجود وغايته وبالتالي فهو رسالة تخاطب كل الإنسانية بدأها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحقق منها مجتمع الإسلام الأول بالمدينة المنورة وأكمل منه الخلفاء الراشدون وبعدهم التابعون ما وسعهم ، ضمن تدافعٍ حضاري تقدم خلالها المشروع في محطات تاريخية وتراجع في أخرى، حسب منسوب إيمان أتباعه ما أهّله لتثبيت النظام الاجتماعي الذي أسّسه لأنه يسكن وجدان الانسان في علاقته بربه ، ولذا كلما كان منسوب الايمان مرتفعا كلما وجد المشروع طريقه للتطبيق والعكس بالعكس، وهو ما ينعكس على تمتع المرأة في المجتمع الإنساني برمّته، بالحقوق والمكانة التي خصها بها المشروع : تتراجع بتراجعه و تزدهر بازدهاره .
إن المشروع الإسلامي بوصفه مستغرق في التاريخ والجغرافيا يستمد ذلك من خصوصيته الثابتة، وصلاحيته لكلّ زمـــــــان و مكان، وبالتالي فانكفاؤه لا يسقط واجباته تجاه البشرية ومن ثمّة تجاه المرأة بالخصوص .
لقد شكّل سقوط الخلافة العثمانية اللحظة التاريخية الفاصلة سياسيا لانكفاء المشروع الإسلامي، وبروز المشروع العلماني بما يستند إليه من مذاهب فكرية وفلسفية قوّضت جملةً من البنى الاجتماعية تقويضا كاملا بدعوى القطيعة مع الماضي وخاصة فيما يتعلّق بالمرأة وأسس لأخرى جديدة في إطار مفاهيم العقلانية و النفعية والفردانية، كرّست المظاهر التالية :
– تسطيح أدوار الأمومة وكسر نسق الضوابط الاجتماعية وما انجرّ عنه من تفتّت نظام الأسرة وفقدان المرأة لأبرز أدوارها الاجتماعية والعوائد المتوقعة منها، فلم يعد لها من حارسٍ لعفّتها ولا ضامنٍ لكرامتها فخرجت من عباءة المحارم إلى استغلال الغرباء فتخلّصت من هيمنة لتأْسِرها أخرى .
– تشيؤ المرأة بدعوى المساواة والفردانية فدخلت الدورة الاقتصادية لا كمنتج بل كأداة إنتاج تسند لها أعمال شاقة لا تتناسب مع فطرتها فتحوّلت لمجرد ترس في آلة تعمل ساعات أطول من الرجل وتتقاضى أجرا أقل منه، مع تحويل جسدها إلى سلعة اقتصادية عبر الإعلانات وتجارة الرقيق الأبيض .
– الأداتية في التعامل مع المرأة بتوظيفها كأداة لقهر الآخر وما صاحبه من إنتاج نظريات نفسية اجتماعية تنظر لانتهاك النساء كأحد أبشع أساليب التعذيب النفسي في الحروب المسلحة والصراعات السياسية والاجتماعية لقهر المجتمع ما أعاد استدعاء رمزية المدنّس في المخيال الاجتماعي وأثره على مكانتها الإنسانية وتكريس التمييز على أساس الجنس.
– التراتبية في حق المرأة التي أسّست لها الحضارة المدنية _ بجعل المرأة موضوعا لتبرير انتكاسة المشروع العلماني وتجنّيه عليها بوصفها مضمون الضريبة التي يجب أن تدفعها المجتمعات نظير تقدمها.
و بالنتيجة في ظلّ انكفاء المشروع الإسلامي، وبروز المشروع العلماني تستمر معاناة المرأة :
ففي الشرق انكفأ المشروع الإسلامي بسبب انخفاض المنسوب الإيماني لأتباعه ما أبعدهم عن العمل بأحكامه وعن الاجتهاد في استنباط الأحكام التي تواكب التحوّلات المجتمعية المتسارعة ، فأبعد المشروع عن ميادين التأثير الاجتماعي ما انعكس على وضعية المرأة والموقف منها و تمّ استدعاء التراث ذي الصّلة والذي تلبّست فيها المسلكية الجاهلية لبوس الدّين في أنماط من التدين بعيدة عن روح الدّين الصحيح وما انبثق عنه من سلوك جمعي تجاه المرأة برهن عليه المشروع المحمدي فعادت مظاهر الهيمنة الذكورية والتشيؤ والتراتبية التي حاربها الإسلام ، وعادت لتقبر المرأة إنسانيا واجتماعيا، ولم تنجح العلمانية المستوردة في تحسين أوضاع المرأة ، إلا ما ظهر من حملات الإنقاذ الواسعة التي قادها رواد الإصلاح من أبناء الصحوة الإسلامية التي حملت هموم نهضة المشروع الإسلامي و إحياء مسلكيته تجاه المرأة .
أما في الغرب فقد تنامى صعود المشروع العلماني واستمرّت عمليات هدم كلّ البنى القيمية وما انجرّ عنها من هدمٍ للبنى الاجتماعية، وأخذت فلسفات العلمانية تتصاعد في النشوء يهدم بعضها البعض الآخر هدما كليا أو جزئيا ، وتفرق الانسان بين التنوير وما جاء به من عقلانية وفردانية ومادية و براغماتية وبين حداثة و بنائية وبنيوية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وغيرها من الفلسفات ما انعكس على الشتات في نظرة الغرب للمرأة، لكنها اتفقت جميعا من حيث آثارها السلبية على أوضاعها وبشواهد الواقع، فجاءت ردود الأفعال النسائية في شكل حركات اجتماعية تنازع الرجل والمجتمع حقوقها المهضومة ، لكنها وقعت في خطأ منهجي جسيم : لقد انطلقت في مطالبها من ذات الفلسفات التي أتعستها ، فلم تحقق شيئا و تعدّدت مظاهر التشيؤ والتراتبية والهيمنة الذكورية وتطرّفت الحركات النسائية في مطالبها كردّ فعلٍ لذلك فتحوّلت الحركات الاجتماعية تلك إلى حركات نسوية لكلٍّ فلسفتها ولكلٍّ مطالبها حتى وصلت إلى إنكار أنوثتها الفطرية ( فلسفة الجندر ) فخسرت المرأة نفسها وهي تبحث عن نفسها .
بين الشرق و الغرب ، الأرقام تتحدث: أثبتت شواهد الواقع عجز البشرية عن حماية المرأة من مختلف الانتهاكات ناهيك عن توفير حياة الرفاهية الموعودة لها، إذ اسفرت وضعية النساء في مختلف مناطق العالم عن واقعٍ تعيسٍ مؤلم ينمّ عن البؤس الصارخ الذي ترزح تحته بنات حواء إنها الأرقام تتحدث :
تُشكّل النساء 80 ./. من ضحايا العنف في الهند و: 95 ./. منهم في فرنسا، و في بريطانيا تتلقى الشرطة كل دقيقة مكالمة من النساء اللاتي يتعرضن للعنف المنزلي ، وتقل أجور النساء بنسبة تتراواح بين 30 ./. و 40./. عن أجور الرجال و 70./. من الفقراء في العالم هم نساء، ولا يملك النساء سوى 10./. من الملكيات في العالم، أما نسبة مشاركة النساء في مراكز صناعة القرار في العالم فلا تتجاوز 5./.، و: 74 ./. من المصابين بداء السيدا هم نساء . 1900 فتاة تغتصب يوميا في الولايات المتحدة الأمريكية ، 20 ./. منهن يغتصبن من طرف أبائهن، كما تتعرّض 700 ألف امرأة سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية للاغتصاب، وتمّ اغتصاب: 20000 امرأة بوسنية مسلمة في حرب صربيا على البوسنة في تسعنييات القرن الماضي .
ناهيك عن الانتهاكات الممنهجة غير المسبوقة التي تتعرض لها المرأة في فلسطين والعراق وسوريا وأفغانستان وبورما ومصر نتيجة الصراعات السياسية والحروب الموجّهة، وتجلِّي أنماط جديدة من التمييز ضد المرأة متمثلة في التمييز على أساس الانتماء السياسي أو الديني أو المذهبي أو الطائفي ( حادثة اغتصاب المسلمات من السنّة في مساجد الفلوجة ) واتخاذه ذريعة تبرّر أنماط مبتدعة غير مسبوقة من العنف ضد النساء تعدّدت بين الخطف والتنكيل والسحل والاعتقال والنحر بالسيوف وما يصاحبها من تواطؤ مخزي لأدعياء حقوق المرأة وتمكينها.
هذه بعض الأرقام التي تؤشر على الواقع المزري الذي تتخبط فيه النساء منذ الأزل إلا ما كان في فترات تمكين المشروع الإسلامي كما يقر مفكرو الغرب العلماني نفسه، إذ يقول المفكر والحقوقي المعاصر الفرنسي ” مارسيل بوازير” : ” أثبتت تعاليم الإسلام وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم أنها حامية حِمى حقوق المرأة التي لا تكل .” ، وفق هذه الرؤية برهن المشروع الإسلامي نصّا وممارسة نجاحه في مسألة المرأة و في المقابل ثبت فشل المشروع العلماني رغم كل محاولات المنظمات والهيئات الدولية والإقليمية والمحلية التي لم تردع قاتلا ولم توقف منتهكا .
بين الأنموذجين وفي كل عام حينما يحتفي الكون بذكرى مولد منصف بنات حواء محمد صلى الله عليه وسلم ، نقف كنساء ليس من باب التحيّز لبنات جنسنا بل من باب التعاطف مع الإنسانية قاطبة نقف وقفةً للاعتبار نتحسّس آلام كل المكلومات : في إنسانيتهن في أعراضهن ، في أمومتهن ، في حقوقهن ، في أمانهن ، في حقهن في الحياة ، نقف مستصرخات :
وامحمداه ، نستصرخ في أنفسنا الهمّة لإعلاء مشروع محمد صلى الله عليه وسلم عطفا بمكلومة ذاقت بها الحضارة ذرعا ورِفقا بإنسانية تمزّق شتاتها بين مكلومات بَحّت أصواتهن ينتظرن المنقذ المخلّص من تراكمات عذابات مريرة لم تستوعبها المدنية الحديثة بل و تصمّ أذانها عنها إمعانا في النكران و التجاهل .
و بين احتفاء بذكرى مولد الرحمة المعصومة، قائمٌ بين أيدينا وآخر نتطلع له ، لا أملك إلا أن أستحضر روعة إنصافك وجميل رفقك وكريم ارتقاءك بالمرأة يا سيدي يا رسول الله، ولا يجبر خاطري سوى السّعي للتمكين لمشروعك لعلي ذات احتفاء تتحقق الغاية وتسترجع المكلومات تيجانا وعروشا ارتضاها لها مشروع حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ سميرة ضوايفية
    سميرة ضوايفية

    شكرا لشبكة العلم والمعرفة والأقلام الحرة ضياء على العناية بما كتبت ، نفع الله الأمة بأنوار الضياء

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: