أفول نجم شيخ الشعراء التهامي

عاش الشاعر محمد التهامى في صمت ورحل في صمت، لا يعشق الأضواء، ولا الدخول في معارك لا طائل منها إلا الفرقة والتناحر لأبناء الأمّة الواحدة، ظلّ طوال حياته منافحًا ومدافعًا بلسانه عن اللغةِ والوطنِ والإسلام ، فاستطاع بتواضعهِ الجمّ ولغته الباسقة أنْ يسكنَ قلوب محبى الشعر الفصيح، وهو الذى سخّر حياته لكتابة الشعر الفصيح.
في يوم الأربعاء 18 من فبراير 2015م، توفى أكبر شعراء العرب والمصريين، الشاعر محمد التهامى، بعد أن أتم عامه الخامس والتسعين منذ عشرة أيام، وقد يكون قارئ اليوم في حاجة إلى ترجمة موجزة للشاعر الكبير ؛ فالتّهامى الذى ولد في العاشر من فبراير 1920 م في قرية الدلاتون بمحافظة المنوفية، كتب الشعر في مرحلة مبكرة من حياته، ونشر ديوانه الأول حين كان طالبا بالمرحلة الثانوية، تخرج التهامي في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية 1947 م، وعمل بالمحاماة، ثم اتّجه إلى الصحافة، فعمل في صحيفة “الجمهورية” اليومية منذ صدورها عام 1953م، ثم التحق بإدارة الإعلام بجامعة الدول العربية بين عامي 1958 م و1974م.
وترأس بعثة الجامعة العربية في إسبانيا بين عامي 1974 م و1979م، وظل مستشارًا لجامعة الدول العربية حتى إحالته إلى التّقاعد، وكان عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوًا في المجالس القومية المتخصّصة ورئيسًا لجمعية الأدباء.
وللشاعر محمد التهامي الذي حافظ على شكل القصيدة العربية الأصيلة ثمانية دواوين تقريبًا تتراوح بين الشعر الوطني والديني والقومي : أغاني العاشقين، أغنيات لعشّاق الوطن، أشواق عربية ، دماء العروبة على جدرانِ الكويت، يا إلهي، قطرات من رحيق العمر، أنا مسلم، قصائد مختارة، وله مؤلفان هما : جامعة الشعوب العربية والإسلامية، الإمام النُّورسى، شارك في غالبية المؤتمرات والمهرجانات الأدبية والشعرية في البلاد العربية والخارج، وله عدة قصائد تدرّس في الوطن العربى.
نال التهامي جوائز مصرية آخرها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1990م، وقبلها الميدالية الذهبية لشعر معركة بور سعيد 1956م، ومن خارج مصر حصل على جائزة الملك الحسن الثاني ملك المغرب عام 1993 م، وجائزة شاعر مكة “محمد حسن فقي” عام 2004م، وحصل على وسام القائد الأعظم من دولة باكستان 1999م، ويحمل وسامًا بدرجة فارس من حكومة إسبانيا، وكرمته إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجه بجدة، وكرمه النادى الأدبى بالمدينة المنورة، كما كرمته السفارة اليمنية بالقاهرة في أغسطس آب 2010 م.
وله موقف مشرف في محاربة الفكر الإرهابى خارج الوطن العربى ؛ حيث وجد في كتاب التاريخ للمرحلة الثانوية في قرطبة – إسبانيا أن قواعد الإسلام خمس، لكن القاعدة الثانية هى الجهاد في سبيل الله، ووجد تلميذًا كتب في هامش الكتاب : ” المسلم متربص بك فاقتله قبل أن يقتلك “، ففزع في سفراء العرب وكان آنذاك مستشارًا لجامعة الدول العربية في سبعينيات القرن الماضى، وقدم مقترحًا تم قبوله بعد أن عقد لقاء إسلاميًّا مسيحيًّا في قرطبة، وتم التوصية بتصويب الأخطاء في مناهج التدريس الأوربية.

ظلّ الشاعر محمد التهامى لا يعرفه كثير من الناس بسبب تجاهل النقاد لشعره، خاصة وأن غالبية الأقلام الناقدة والإعلاميّة على الساحة آنذاك من أصحاب الأقلام الماركسيّة والعلمانيّة، حتى كاد الأمر في كثير من الأحيان – كما قال – أن يدفعني إلى الاكتئاب.
وربما يعود السبب إلى تأخره في نشر دواوينه الشعرية ؛ لأنه كان ينشر في الصحف والمجلات والإذاعة، بيد أن كبار العلماء في مصر ممن يعرفون قيمة الشعر الأصيل من أمثال د. إبراهيم مدكور ت 1996م، والدكتور زكي نجيب محمود ت 1993م، والدكتور حسين مؤنس 1996م، والدكتورة بنت الشاطئ ت 1998م عرفوا قدره وأسهموا في ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية، وكتب عنه – أيضا – د. شوقي ضيف ت 2005م في جريدة الأخبار عند صدور ديواني ” أشواق عربية “، وتناوله بالنقد اللاذع د. شكري عياد في مجلة ” الهلال ” عند حصوله على جائزة الدولة التقديرية، وتناوله أحد الباحثين في أطروحته للتخصص ” الماجستير ” في جامعة الأزهر.

فالشعر- في نظر الشاعر محمد التهامى – ديوان العرب والمترجم الحقيقي عن أعماق الإنسان العربي، وخاصة أن عنصر الموسيقا فيه يلعب دورًا رئيسًا، ويميزه عن غيره من الشعر الأجنبي، ومن وجهة نظره أن تراجع تأثير الشعر العربي المعاصر في الوجدان العام ما هو إلا نتيجة تصارع المدارس الشعرية المختلفة، منذ بدء حركة التجديد في الأربعينيات، ولو انشغلت كل مدرسة بالإبداع في مجالها، ولم تتصادم مع المدارس الأخرى، وتركت إبداعها لجمهور المتلقين يحكم له أو عليه لكان ذلك هو الطريق الأصوب للتطور الشعري، ولكن الصدام العنيف بين المدارس، جعل كل مدرسة تحاول النيل من الأخرى، وتحمل على انتاجها، مما شوّه الشعر عامة – كل الشعر – في وجدان المتلقين، وكان أن انصرف الجمهور – أو كاد – عن الشعر، وزاد الطين بلة – كما قال التهامى – ما لجأت إليه المدارس الجديدة من الغموض والإبهام، وقصر الشعر على الدوائر الضيقة ممن يحاولون الشعر، ولهذا انعزل الشعر الحديث عن القاعدة العريضة من الجماهير، وكاد يفقد القيادة.
كان الشاعر محمد التهامى يرى أن الأدب الهادف الذى يعبر عن الكون والحياة لا يقتصر على المسلم إذ يقول : ” الأدب الذي يصور الحياة المثلى ولا ينحرف عن الطريق المستقيم ويبدعه غير المسلم يعتبر أدبًا محايدًا يجب احترامه، أما الإبداع الذي يدعو إلى ما يشبه الحياة ويحيد بالبشرية عن الطريق السويّ الذي رسمته الرسالات السماوية، فهو أدبٌ مرفوضٌ وإن كان كاتبه مسلمًا”.
وقد تفاعل التهامى مع قضايا وطنه وأمته الاجتماعية والسياسية، يقول مثلا في قصيدته الرائعة
” صوت من المخيم ” يدافع عن فلسطين، وكأنه يصف الأحداث الحالية التى حلّت بالأمّة الإسلامية : –

أصبح القتلُ في حياتي طريقًـا
ورفيقًا على الطريـق وغايـهْ
صار اسمي إذا ذُكِرتُ بأرضٍ
عن قتيلٍ بغيـر ذنْـبٍ كنايـهْ
حلَّ ذَبْحِي لكل مَنْ كان حتـى
بالغوا فيـه حِرْفَـةً وهِوايـهْ
غار أهْلي من العـدا فتَبَـارَوْا
ثم صاروا أشدَّ منهـم نِكايـهْ
وزَّع القتلَ في المخيـم رهـطٌ
كان في وَهْمِنا رسولَ العنايـهْ
يَفْجَعُ القتـلُ إن رَمَتْـهُ يميـنٌ
كنت في حضنها نشدْتُ الرعايهْ
عربدَ الغولُ حين أُوهـم أنَّـا قد فقدنـا غِطاءنـا والوِقايـهْ
وتولَّى مـن راحتينـا سـلاحٌ وزَّعتْه الرياحُ في كـل غَايـهْ
وغدونـا لكـل غـاوٍ متاعًـا يبتغيـه ويستَطِيـبُ الغِوايـهْ
فانبرى يزعـم الولايـة فينـا حاسبًا أن يُدِيَر فينا الوصايـهْ
فإذا العزمُ شامخٌ فـي حمانـا ولـه وَحْـدَه تعـزُّ الولايـهْ
ذلك الكائـنُ العجيـب لشعـب قد بنَتْهُ الخطوب أعْتَـى بنايـهْ
كل طفل وطفلة فيـه صَخْـرٌ مَنْبِتٌ في ذُرا فلسطيـنَ رايـهْ

* * *
رُوِّعَ الغولُ حيـن أدرك فينـا
لكثير مـن الأعاجيـبِ آيـهْ
نحن والقَتْـل كالمحبيـن ذابَـا
في غـرام ولوعـةٍ وشِكايـهْ
قـد تمـادى لقاؤُنـا فائتلفنـا
لا عزولٌ يصدُّنـا أو وِشايـهْ
كم سَعَى بيننـا سُعَـاةٌ كِثَـارٌ
ثم ولت ولـم تُعَقِّـبْ سِعايـهْ
إن ضللنا لقاءنا بعـض يَـوْمٍ
عاودتنـا فجمَّعَتنـا الهِـدايـهْ

* * *
فانظروا فالحياة والموت فينـا
واحد، واشهدوا، كفاكم عمايـهْ
ليس من مات راحلاً بل مقيمًا
مثل من عاش يستحث النهايـهْ
كائنٌ قد تحـارُ فيـه البَرايَـا
صامدٌ خالـد يعيـد الحكايـهْ
قد أذهلَ الهَوْلَ أننـا لا نـراه
بل نرى فيه ما استحق الزرايهْ
حَيَّر الغولَ أننـا قـد كشفنـا
أن هذا العواء بعض الدعايـهْ
أنبتَ القهرُ مخلبًا فـي يدينـا
وسقى الناب بالسمـوم سِقايـهْ
لنذيـقَ البعيـدَ عنـا عذابًـا
ونُرَبِّى القريـبَ منـا رِبَايـهْ
قد أكلنا لحومهم حيـن جعنـا
عطَّلً الشَّرْعُ في المجاعات آيهْ
وسحقنـا عظامهـم وحفظْنَـا
ها لنلقى لَدَى الحصارِ الكفايـهْ
ذاك بَعضٌ من الـذي قَدَّمُـوه
فعَلَى مَنْ جَنَى نَـرُدُّ الجِنايـهْ
ونعيشُ الحياةَ طولاً وعرضًـا
ليتم الرجوعُ هَـذى الروايـهْ

وشعر التهامى معظمه قرائح من الحقيقة والخيال، يرتفع الشاعر حينا في جو التطور فيصور ما يجلوه له الخيال، ويغوص في أعماق النفس حينًا، فيرى ما يشعر به حسه، وما يناجى به ربّه، ويدرج حينا في عالم الحقائق المجرّدة فيصف شؤون الحياة كما هى جميلة أو شوهاء، سعيدة أو مبتسمة، مفترة الثغر أو مقطبة الجبين، ولما كان شاعرنا خبيرًا بأساليبِ النُّظم والنَّظم معًا، عليمًا بأسرار القوافى ؛ فإنّ التعبير يجيئه في هذه المواقف الثلاثة طيّعا ويليه مؤديًا لما يريد.
ولا أرى أحسن من كلام الشاعر محمد التهامى في نفى تهمة قصور الشعر الموزون المقفى عن وصف الحياة المعاصرة، واليومية، ؛ إذ يقول في حواره مع مجلة أدبيّة : –
” أنا أوافقك على تسمية الشعر الخليلي الأصيل بالشعر التقليدي، كما أنّ الشعر الأصيل الذي يكرر المعاني القديمة والموضوعات المتكررة ليس شعرًا معاصرًا، وأن الشعر المعاصر الملتزم بأصول الشعر، هو الذي يجاري العصر، ويستشرف المستقبل، ويعانق الحياة الحيّة النابضة، سريعة الإيقاع، بكل ما فيها، ولا يستطيع الشاعر إلا أن يكون كذلك، وحرصًا على الوقت، والحيز المتاح، لا أجد ردًا على سؤالك، إلا بإيراد نماذج من شعري. منها مثلاً من قصيدة ” إلى ولدي”:
أنا قادم لك يا بني وحق طهرك لا تنم
لا تحرمنَّ أباك من فمك الشهي إذا ابتسم
حلواك تلك أضمها في لهفة بيديّ ضم
أسعى إليك، وكل خافقةٍ بجنبي تضطرم
فلعلني ألقى صياحك يملأ الدنيا نغم
فأطير من فرحي وأنسى الهم.. أنسى كلَّ هم
ولكم تعبتُ.. وكم شقيتُ، وكم شبعت من الألم
وعلى نداك الحلو ترتاح الجراح وتلتئم
ويقول في قصيدته ” الهاتف المحمول ” ( التليفون ) :
دق من لوعته عن هواه معلنا
فاسمعى دقته إنه قلبى أنا
طار من لهفته وأتى مستأذنا
فافتحى الباب له تلتقى أفواهنا
تلتقى آذاننا تلتقى أرواحنا في عناق
واشرحى الأشواق إنا قد غدونا وحدنا
ذلك الساحر قد ألقى ستارا حولنا
أغلق الأذان عنا وأضل الأعينا
بيننا الواشون لكن فاتهم ما بيننا
واطمئنى إنه الساحر أخفى سرنا
لا تسمينى وقولى للذى يسعى بيننا
إنها إحدى الصديقات التى لم تنسنا
والحقّ أنّ التهامى الشاعر المجدّد والمتزن، وخُلُقُهُ العام لا يختلفُ برهة واحدة عن انطباعهِ السلوكىّ في الحياةِ، فلا فارقَ نجده بين شعره وشخصيته على الإطلاق، وبهذا الاتزان العاقل، كان التهامىّ أثيرًا لدى المجدّدين والمحافظين معًا، فهو لا يختار من الشعر الجديد غير الشعر المأنوس، الذى لا يوغل في الإبهام والغموض، ولا يحاكى من شعر التراث إلا ما كان صادق العاطفة، قوى النبض.
وفى الختام أقول لعلى بذلك أدعو بعض النقاد إلى الاهتمام بالتهامى الشاعر، ليظهر في وضعه الممتد في دوحة الشعر العربىّ، وهو جدير بهذا الاهتمام.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد