نظرية في الاعتقاد

مقدمة

إن علاقة الإنسان بالوجود متوترة، اتصالية وانفصالية، إدراكية ووجدانية، تتعدد المنافذ التي قد تنير زوايا الغربة والانتماء، لكن، حتى وإن تبدى الوجود فوضى و تعددا، فحد أدنى من الرغبة في التعريف يبقى ملحا منهجيا وتعلمات. هكذا، وبالتأمل في الوقائع الوجودية والذهنية اهتديت إلى معالم أربعة مفتوحة مقترحة للاتكاء من أجل الفهم والسير في مسلك تصنعه الإرادة. وهذه المعالم هي: اللايقين والعود والعادة وزاوية النظر.

1_اللايقين

إن بين الإنسان والوجود مسافات من الغربة والشك، رغم لحظات من الطمأنينة واليقين.لأن الإنسان كائن هش تتنازعه الإرادة والطبيعة باستمرار. أما الوجود فهو هنا منبسط لكنه مهدد بالعدم دوما، نحن في عالم الإمكان والصدفة وسلطة اللحظة، أكثر من أننا في الكائن وسلطة القانون. بدون الإرادة لا يمكن معرفة كيف يدرك الإنسان الأشياء، فهو لا يدرك إلا ما يريد، لكن ما يريده أيضا حبيس الإدراك، رغم ما قد يتبدى من انفلات العقائد والرؤى والمواقف والقرارات. علينا أن نبحث في المستقيم بين الإرادة والفهم، أن نبحث في دواعي ومبررات التعلمات، في سياقاتها النفسية والوجدانية والاجتماعية، من هيمنة أفكار الجماعة وسلطتها الواعية وغير الواعية، القريبة والبعيدة، المفضوحة والخفية إلى قوة الذكاءات والإبداع. أما الطبيعة فهي عمياء، تطردها معلنة وسافرة تعود إليك متقنعة، تقودك نحو نفسها إذا كانت “حقيقية”، أو إلى التيه والوهم إذا كانت مزيفة. وبذلك وجب البحث هنا أيضا في مستقيم الطبيعة “الطبيعية” والطبيعة المزيفة، وبغير ذلك يمكن أن يحل الهلاك ولا نفهم حتى يفوت الأوان. لكن، ما هي المعالم التي يمكن أن تنير طريق الطبيعة، والإرادة تنازع الثبات؟ لاجواب غير الفعل، إذ النظر هنا غير ذي جدوى، لأنه نحن الذين نصنع الطريق. والوجود مباغت، يسخر من الإرادة ومن الفهم، يهجم من جميع الجهات، فيزيقية ووجدانية، يحتل المسافات، يسلك فوضى التعدد والحركة، يشاكس الإدراك، ولا يعرف الانتظار. الوجود معشوقة مستبدة تريد كل شيء. الوجود كلي والإنسان جزئي، وهذه مفارقة لايمكن إغفالها إذا أردنا الفهم. هل هي مفارقة اليأس أم مفارقة الحماس؟ هنا تحضر الإرادة مرة أخرى، إرادة المغامرة والاختيار، ومن هنا تأتي أهمية لحظات قليل اليقين، لأن تلك اللحظات وحدها تزيل الانتظار والبلادة وتهب لذة الإحساس بالانتماء إلى وجود آخر غير وجود الأشياء، إنه الوجود البشري. لكن قد يترتب عن ذلك الخطأ في التقدير، وهنا مستقيم ثالث، يتطلب التريث، إنه مستقيم مفترق الطرق، إما الغي والعمى والاستمرار في درب دون مخرج، أو الاستفادة من التجربة والبحث عن مسلك آخر. وبقدر التجارب تغتني القرارات، وبقدر جودة الطبيعة تتحسن الحقيقة. أصل الوجود الإنساني غربة لا يلطفها سوى اللغة بجميع دلالاتها، اللغة كانعطاف وطي للكينونة حتى يتكسر موج الوقع. بين الإنسان والوجود توجد اللغة كضرورة وكذكاء، كضرورة تكاد تكون طبيعية، وكذكاء يحتمل به الإنسان عبء الكينونات. كل الناس يخلقون استعارات شتى تلطف الوجود هنا، استعارات تخييل طقسية تسهل ألفات الأمكنة والأزمنة مهما كانت موحشة وعنيفة، استعارات تملك اللحظات والحيزات عبر توهمات الانتماء وحماس القرب، ناسين أن العدو الحقيقي للانعتاق والتفتح هو زيف القربى وسياجات الحظائر. الغربة قدر ومصير، الهروب الفج منها بلادة، والاستسلام السهل لها كسل، وحده التفكير وقلب النظر ينفع مع الغربة، التفكير في القدر وقلب النظر في المصير من أجل فرح ملائم. أن تكون، هذا أمر ليس باختيارك، لكن كيف تكون، فهذا أمر لا يمكن إلا أن تساهم فيه، حتى تهب لكينونتك الدلالة وحتى تساهم في تلطيف الاغتراب. لكن كينونة الإنسان كينونات، تتراوح بين كينونة تكاد تكون انعداما، وذلك عندما تسلب الإرادة، وأخرى وحدها تستحق أن تسمى كينونة، وذلك عندما تكسَّر الأغلال وتتبدد أوهام الغفلة والخوف والجبن. الإنسان مريد بإنسيته، مريد لأنه يختار، ويختار ليس لأنه يفهم فحسب، بل لأنه ينتشي بإنسيته، يفرح عندما يعلم أن لا أحد يستطيع أن يكرهه على القبول في سياق الرفض، ولا على الرفض في سياق القبول. ينتشي أيضا لأنه يحزن حين ينبسط الوجود أمامه بئيسا، وبإمكانه أن يكون وجودا ذي قيمة. يحزن حينما تختل المعايير وتغيب المعالم في الطريق. لكنه يعود لفرحه، حينما يطوي الوجود ويسلمه لقلب النظر ليعود إليه البريق. لكن اليقين قد يكون مغلقا فيصيب صاحبه بالعمى وحماس تملك الحقيقة، وكل يقين مغلق يحمل في طياته المغامرة والوهم وقد يصبح لاعودا بالالتزام أو الانغلاق وتآكل الإدراك. إن اليقين المبالغ فيه منفتح على مسارات بعضها جحيم، عندما لا يستطيع المرء العود فيصبح محاربا طواحين الهواء، والأمر مؤلم وعنيف حيث يصبح الإنسان سعيرا يبحث عن الحطب ولو كان الذات نفسها.

2_الطي والعود

لا ندرك عمق اللحظة إلا بالعود بطي الوجود، لأن الاعتقاد لا يأتي من الوهلة الأولى. لابد من مسافة بين الوجود وإدراكه وتملكه، من هنا التحايل على عدم فجاجة الأشياء، لابد من التلطيف باللغة والشعر والرمز. وما الحياة لولا الوثنيات والأعراس والقصائد والوشم والطقسية والاحتفال والهدية والعيد والمأتم والجنائزية والسحر والدين … !؟ لماذا الطي والعود؟ كيف يتمظهر؟ وماهي آثاره على الإنسان والوجود؟ لايمكن فهم الطي دون العودة إلى طبيعة الإنسان، خاصة الحسية والعاطفية منها، والفكرية بعد ذلك. إذ به يشبع الإنسان حاجاته الوجدانية إلى الفرح والسعادة بالابتسام والضحك والرقص والغناء والرسم والوشم، وصنع العطور والنبيذ وحياكة اللباس وخياطته وصنع الغذاء وبناء الدور وترتيب الفرش وتزيين الحدائق… أما الحزن والألم فتقام له المسكنات والمخففات والمنسيات من قصائد ورقصات ونوح ومزارات.. وكما للفرح وللألم مناسبات هناك تعابير للغضب وحماساته الإقدامية. أما الحب فيبقى سيد العود إلى الأشياء، لا ينافسه الكره في ذلك لأن حبله قصير، إن الحب ربما هو الإنسية نفسها، لأنه محمس كبير ومضمد للجراح ومقو للانتماء والعصبة ضد النوائب. قد يدفع الثأر إلى رد الفعل، لكن الحب دافع إلى الفعل والتفتح والسماحة. الحب بلسم تجتمع فيه متناقضات الوجود، فهو أعمى ومبصر، بليغ وأبكم، متسامح وعنيد، سره أنه يجمع العواطف كلها، المحب يترك ما سوى المحبوب، يغار ويبغض، يندهش لنسمة هواء وحفيف غصن، يفرح ويحزن، يسعد ويتألم، وقد يكون الحب محفزا للمعرفة والغوص في الشعر كلغة تسوغ التلذذ بالحياة. الحب حيرة تجمع بين اللايقين والعود، بل ليس هناك عاطفة تقض مضجع المحب بالتساؤل المستمر مثل الحب، في أسبابه وتوقفاته وخصوماته ومآلاته وشروطه، وغيرها من الحيثيات التوأم للحياة نفسها. قبل هذا وذاك، لا يمكن إغفال الخوف ودفع الشر، إن كان الحب هو الكينونة فربما الخوف مبدؤها، لأن الإنسان كائن بدون مخالب يصارع الضواري. وتأتي الدهشة لتدفع نحو التواصل والتفكير، ذلك الطي الكبير، يدمج التفاعل السلبي مع الأشياء نحو التفاعل الإيجابي، نحو الإبداع. يتمظهر الطي وجودا فوق وجود، ومن ثمة مفارقة من يدرك الوجود، الذي يطويه أم الذي يعيشه طريا، الطفل أم الراشد؟ في عمق الأشياء ليس هناك من لا يطوي الوجود، حتى الطفل فهو يطويه مرتين، طي إرثه وطيه الخاص، حتى من نعتبرهم مباشرين ولصيقين بالوجود أحيانا، يستوجب فهم طيهم مجهودا من محترفي الطي. من هنا ضرورة الحسم المنهجي الأنثربولوجي بضرورة اعتبار كل تجارب العود مهما بدت بسيطة ومتوحشة، إذ ربما أعدتنا إلى الطيات الأولى التي غلفتها السنون والهجرات. الطي غلالة ندية تغلف التجارب، تجملها، تسوغها، تقوي الانتماء وتحارب الغربة، غير أن أقوى الطي لا يتم إلا بالمقارنة والمزج، الأشياء الجميلة ممزوجة، صحيح أن حد أدنى من الصفاء يقي من الهجانة، لكنه متى تحقق رسو العود يفضل أن يعاد فيه عود. إذا كان ممكنا أن نصف اللايقين بالعنفوان والحماس والتلقائية، وربما حتى نوعا من التوحش، لأنه يلخص ويكثف تناقضات الوجود والمشاعر تجاهه، فإن الطي على عكس ذلك، رشد وأخلاق وتأن وتريث وتبصر، وربما كهولة، ولكنه عند التأمل العميق قد نجد له وهج البقاء ولذة عدم الندم. الطي مختلف ضرورة لأن الوجود متحول ومتغير، فهو مرتبط بالمكان والزمان، بالتجارب والسبع روايات، حتى الطقس نفسه لا يعاد مرتين وإن تبدى كذلك. وللطي أثار التعلم واستضمار الوجود، كما له قوة الحميمية والشعور بالانتماء والدفع نحو المشاركة والإيجابية والانتشاء، كما له فائدة السياج ورد فضول الغرباء.

3_العادة

عندما يكون الطي في أدنى مستوياته يسمى عادة، وهو عود حتى منذ الاشتقاق، لكنه عود نسيان وليس عود يقظة، عود تقليد وليس عود إبداع. لكنه عود ضروري، لأنه يشعر الذات بالأمان. العود هنا طقس دال نسي المدلول، فعل تخشب بفعل الزمن ليصبح هدف نفسه، رداء بلا هيكل، تنسى البدايات والأساطير المؤسسة ولا يبقى سوى المعلم والترديدات، لكن العود من هذا النوع عنيد لأنه حماس الجماعة وليس تدبر متوحد. هو بديل الطي بالإبداع والأدب والثقافة، يعطي الانطباع بالأصل، لكنه ليس سوى نسخة. العادة توأم اليقين والمغلق منه غالبا.

4_زاوية النظر

من الذي يحدد الاختيار بين اللايقين والطي؟ هنا يحضر البعد السوسيولوجي وقوة الرهانات، اللحظة أحيانا سيدة الموقف، السياق نافذ يدفع إلى اتخاذ الموقف والقرار، الأمر الذي يفسر تناقضات الآراء التي تعبر عن تناقضات الوجود وقوة الوجه لوجه. الذي يحدد الموقف هو اللحظةٍ نفسها، وكذلك القرارات المتخذة منها، هو زاوية النظر التي ينظر منها إليها، تلك الزاوية التي تبنى انطلاقا من السياق الذي تحدده هو أيضا عوامل كثيرة ومعقدة يصعب تفكيكها وفهمها. لحظة الموقف واتخاذ القرار لحظة فريدة يصعب فهمها، إذا لم نستحضر أهمية زاوية النظر. خلاصة الاعتقاد من الفعل القوي عقد يعقد عقدا، والذي لن نقف هنا سوى عند بعض دلالاته، فهو يعني ومنذ البداية لف، الحبل مثلا، الذي يذكرنا بالطي والعود، والذي اطرد استعماله ليصل إلى العقد الذي يعني الاتفاق الملزم، والذي هو طي وتأمل ورعاية مصالح وتعبير عن رهانات فعلية، وبذلك يكون طوقا بالمسؤولية والأخلاق أو بالجمال حتى، لكنه قد يتخشب فيصبح عادة، قد تفيد المحافظة ورعاية مقتضى الحال، لكن يبسها قد يضيع حقوقا ويسفه واجبات، أو المرور بجنب الحياة في أحسن الأحوال، مثل ذلك عندما يصبح الاعتقاد، الذي ليس في الأصل سوى وجهة نظر لايقينية من زاوية نظر نسبية، يصبح عقيدة مغلقة وايديولوجيا سعيرية تعقد الحياة البسيطة .


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد