اللغة بين الوظائف التواصلية البلاغية والوظيفة الإيجادية .. د. محمد الغازي

د. محمد الغازي: منسق ماستر اللسانيات والدراسات اللغوية المطبقة، عضو فاعل بالمكتب التنفيدي لمختبر القيم والمجتمع والتنمية، ومنسق فريق البحث في التفاعل اللغوي والسياسة اللغوية بنفس المختبر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة ابن زهر، أكادير، المغرب).

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين

يقر الناس عموما بالوظائف التواصلية البيانية البلاغية للغة، لكنهم لا يلتفتون غالبا لوظيفتها الإيجادية. فالكلمة باعتبارها اصغر وحدة تعبيرية و كناية عن اللغة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، تسبق الموجودات في الوجود. بل الوجود كله إنما هو نتيجة لأمر الهي كلامي كما يليق به سبحانه بلا شبيه ولا نظير، صيغ على فعل الأمر “كن”. ففي محكم التنزيل يقول الله تبارك وتعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (يس:82). الكلمة الأمر حسب هذا السياق القرآني تحيل على الوظيفة الإيجادية للغة والتي سبقت الوظائف الأخرى كلها. وهذا ما انتبه إليه كثير من المتكلمين الأقدمين، لكن لم يلتفت إليه إلا قليل من اللسانيين المحدثين.

مما ذكره الأقدمون في تفسير الآية السابقة من سورة “يس”، ما ذكره أبو منصور الماتريدي: إنه عبارةٌ عن سرعةِ الإيجادِ وتكوينِهِ عند تعلقِ إرادتِهِ بلا تراخ ولا تعذّر، كذاك قال الإمام البيهقي بأنه عبارة عن حكم الله الأزلي الذي يَخلقُ بمقتضاه الأَشياءَ التِي أَرَادَ وجودَهَا بالكلامِ الأزلِيِّ… و بما أن صفات الله تعالى لا تشبه صفات مخلوقاته، فاللهُ متكلمٌ بكلامٍ ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا؛ لأَنَّ الكلامَ الذي يكونُ بالحرفِ والصوتِ مخلوقٌ، واللهُ لا يَتَّصِفُ بِحادثٍ. و يؤكد هذا المعنى قول أبي حنيفةَ النعمان رحمة الله عليه في”الفقهِ الأكبرِ” : “نحن نتكلّم بالآلات والحروف والله يَتكلّم بلا آلة ولا حرف”.

ومن اللسانيين المعاصرين الذين أولوا شأنا كبيرا للوظيفة الإيجادية للغة السوسيولوجي والفيلسوف اللساني الأمريكي جون اوستين J. Austin ثم من بعده وارث نظريته السائر على دربه جون سورل J.Searle، الذي أشار إلى الوظيفة الإيجادية للغة بوضوح في عنوان كتابه الموسوم بعبارة: “كيف توجد الأشياء بالكلمات؟”. وبتعبير أفصح يراعي مقاصد المؤلف ومراده من مؤلفه يحق لنا أن نعيد صياغة العنوان على الشكل التالي: “كيف يتحول كلام المتكلم إلى أفعال محسوسة وأشياء ملموسة”. وفحوى نظريتهم أن اللغة تتمتع بخاصية عجيبة تمكن المتكلم من تحويل الكلمات والعبارات إلى أشياء لها وجود ومادة عينية في واقع الناس. تماما كما يستطيع التجار وأصحاب الأعمال تحويل المال من طبيعة ورقية نقدية أو قطع معدنية إلى خدمات عادية ومقتنيات مادية. وبطبيعة الحال قدرة أولئك على تحويل الكلمات والعبارات إلى أشياء تتفاوت من متكلم لآخر تماما كما تتفاوت قدرة هؤلاء على تحويل المال إلى أعيان. اللغة بهذا المعنى رأس مال رمزي، وسلطة معنوية بتعبير “بورديو” P. Bourdieu تحول إلى واقع محسوس بإمكان كل إنسان أن يستفيد منه ويوظفه توظيفا إيجاديا بقدر ما يمتلكه من بيان وملكة تواصلية.

نعم الكلمة أساس وجود كل موجود، بل هي جزء ماهية كل موجود و إكسير مادته الذي يبعث فيها الروح، يستوي في ذلك الإنسان والحيوان والجماد، قال تعالى:” تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ “(الإسراء:44). والإنسان من أعظم ما أوجد لله في هذا الكون. وتبعا لهذا الاعتقاد فهذا الموجود الإنسي إنما هو نتاج لما أنشأ منه ولما جبل عليه من كلام. ولذلك قال الفلاسفة في تعريفهم للإنسان بأنه “حيوان ناطق”. و كأني بهم يقولون إن القيمة المضافة التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هو القدرة على الكلام. فهو جزء ماهيته. لكن هذا الزعم لا يستقيم: ذلك أن كل شيء في الوجود إنما هو نتاج للأمر الإلهي القاهر المصاغ على شكل الكلمة/الأمر “كن”.. وعليه فكل الموجودات صادرة عن نفس البذرة “الكلامية”.. وحين تنشق الأرض عن البذرة وتبسق فإنها تتفتق عن كائن متكلم، “وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ”. لذلك نفهم سر عدول فلاسفة آخرين عن التعريف الأول للإنسان واستعاضتهم عنه بتعريف آخر يقول إن “الإنسان حيوان عاقل”.

ولئن كانت صفة “الكلام” لا تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، فإن صفة البيان أضيفت إليه لهذا الغرض. فالله تعالى “خلق الإنسان علمه البيان” (الرحمن:3-4) والبيان ليس مجرد “التسبيح” الجبلي، بل هو “القدرة على الإفصاح عما في الضمير”، كما يقول أهل اللغة.

وبما أن صفة البيان نفسها مشتركة بين جميع بني البشر فقد ميز الله الناس بعضهم عن بعض بصفة أخرى هي صفة اللسان. قال الله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ”(الروم:22). اختلاف اللسان منطقا ولغة. ويبدأ اختلاف الألسن من أمة إلى أمة، ثم ينحدر فتجد الاختلاف من قبيلة إلى قبيلة، وهكذا نزولا إلى أن يظهر ويفصح عن نفسه من فرد إلى فرد. وفي كل المستويات تختلف اللغات تماما كما تختلف سحنات الأقوام شعوبا، بل تختلف نبرات أصواتهم كما تختلف بصمات أصابعهم أفرادا. ولذلك ليس صدفة ولا عبثا أن جمع الله العليم الحكيم بين اختلاف ألوان الناس وألسنهم في آية واحدة. ولله في خلقه شؤون.

هل هذه صفة تنوع وتمييز أم صفة تفاضل وتمايز؟ . أما عند اللسانيين فلا تفاضل ولا تمايز بين اللغات. وأما لدى النحويين وزمرة من المفكرين فالتمايز حاصل ووارد.

حجة الأولين أن اللغة أداة مشتركة بين كل أبناء مجموعة لغوية يستعملونها للتواصل بينهم، وقد يستعملونها للتواصل مع غيرهم إن حصل التفاهم وتم البلاغ لأزمان مديدة و في مواطن عديدة. ويعبرون عما يشاؤون كما يشاؤون بأريحية دون خلل ولا مَلل ولا كلل. ولم يحتاجوا قط لتغيير لسانهم إلا عند الاضطرار للتعبير عن مستحدث مبتدع نشأ في حضارة غير حضارتهم.

وحجة الآخرين في قولهم بالتفاضل تنبني عن كون الأقوام والشعوب يتفاضلون في محصلة حضاراتهم وتشعب عمرانهم، وكذلك لغاتهم تبعا لأحوالهم. فغنى اللغات وفقرها إنما يأتي نتيجة لغنى الحضارة وفقرها.

من هنا نفهم تفضيل علماء الإسلام للغة القرآن وهي شيء آخر غير اللغة العربية المُأليَكة. كما ندرك العلة من كونهم لم يجيزوا التعبد بترجمة معاني القرآن. فاللغة القرآنية “تنويعة لغوية” (بتعبير عبد القادر الفاسي الفهري) عربية مميزة. هي لغة الوحي، لغة النداء والبيان الإلهي، لغة المقدس، ولغة الآخرة. هي بعبارة أخرى لغة “الإيجاد الروحي”، لها قدرة “خلاقة” على التعبير عن المعاني الدينية، ولها قدرة “سحرية” بما تحمله من معاني “سماوية” على قلب ما في النفوس. ألم يقل قائلهم: “إن لكلامه لحلاوة وإن عليه لطلاوة”. وليس ذلك إلا للغة القرآن. قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في حواره مع صديقه الأمازيغي: “لَوْ انحصرتْ المقارنة بين اللسان العربي وألسنةِ الشعوب على مزايا هذه وبلاغة تلك، وليونة الأخرى ويبوستها وخِصبها وجَدْبها وثروتِها وفقرها ونحوها وصرفها وتراثها وشعرها ونثرها، لكان مجالٌ للغة تفاخِرُ العربية وتنازلها وتساميها. لولا أن اللسان العربيَّ مصطفىً مختارٌ بين اللغات كما هم الرسُل عليهم السلام مصطفَيْن من الناس، ولولا أن القرآن كتابَ الله ورسالتَه…”.

من أجل ذلك يجب أن يقر لها غيرها بالأفضلية طوعا وحبا واعتقادا، لا قسرا ومجاملة أو نفاقا. إذ يعتبر الأستاذ ياسين رحمه الله عاقَّا لربَّهُ من عق لُغَة رسالةِ ربه. بل يذهب أبعد من ذلك حين يقول “عصاه من عصاها. كفر به من كفر بها”…

واسترشادا بنحو من هذا التصور للغة ووظائفها عموما، وللغة القرآن و سماتها خصوصا، بنى صديقنا الدكتور عبد الصادق الرمبوق المحترم إطاره النظري الذي تناول من خلاله موضوع كتابه: “لغة القرآن في خطاب الأستاذ عبد السلام ياسين”. وفي تقديري فإن هذا المُؤَلَف الذي حظي بالنشر من طرف مؤسسة الإمام عبد السلام ياسين وحَظيتُ من قبلها بشرف التقديم له، خطوة مهمة في الدراسة العلمية للموضوع.

إنه بحث أبان من خلاله صاحبه عن دراية بفكر الأستاذ عبد السلام ياسين، وعن إلمام واسع بقضايا اللغة عموما وقضية للغة القرآن خصوصا، سواء عند القدماء أو لدى المحدثين.

جمع فيه المؤلف بين منهجية استقرائية وتحليلية جمعا ذكيا موفقا. فهو تارة يستعرض النصوص من مؤلفات الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله ويربطها ويقابلها بنصوص من عند غيره من آهل الفن. وتارة يركب الأفكار المتناثرة في كتب الإمام المكنونة في ثنايا عبارته في قالب تجميعي توليفي يفصل المجمل ، ويوضح الإشارة، ويحرر العبارة. توسل المؤلف إلى كل ذلك بلغة انسيابية رقراقة جميلة، وأساليب عربية بلاغية راقية، وعبارات نقية من لوثة الدخيل بلا إطناب ولا حشو، ولا غرابة ولا تكلف.

فلو أنك أيها القارئ العزيز اقتنيت هذا الكتاب شغفا بلغة القرآن ورغبة في تذوق عباراتها الفصيحة وأساليبها البلاغية البيانية فأبشر، فقد ظفرت بما يمتعك ويؤنسك. ولو أنك أردته للاستفادة مما يحمله من مضامين وأفكار ونصوص عن الدرس اللغوي بمضمون اجتماعي فلسفي فأعلم أنك قد وقعت على بغيتك. ولو التمست من خلاله الاطلاع على جانب مهم من فكر الإمام ياسين لوجدت ضالتك ولغرفت حتى رضيت.

فاستمر رعاك الله في قراءته إلى نهايته، وادع لصاحبه الدكتور عبد الصادق الرمبوق بالبركة في العلم وجميل القبول، ولمن أُلف من أجله –الإمام عبد السلام ياسين- بالرحمة والرفعة والرضوان، وللعاملين على نشره في مؤسسته بالتوفيق والجزاء الحسن، ولمقدمه هذا بالمغفرة وحسن الخاتمة.

تقديم د. محمد الغازيكتاب “لغة القرآن في خطاب اﻷستاذ عبد السلام ياسين” للباحث الصادق الرمبوق، الطبعة اﻷولى 2015.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد