الإسلام والإسلاميّات التطبيقيّة: هل قرأنا محمّد أركون؟ … د. محمد الهادي الطاهري

د. محمد الهادي الطاهري، كلّية الآداب منوبة (تونس)

تمهيد:
يقول أركون في بعض مؤلّفاته ملخّصا الأهداف الأساسيّة من انشغاله بالإسلام ” إنّ هدفي لا يكمن في بلورة نظريّة لاهوتيّة حديثة للوحي وتمكين المثقّفين المؤمنين من إقامة التوافق والانسجام بينهم وبين أزمة المعنى التي نشهدها حاليّا. كنت أتمنّى أن أفعل ذلك لو أنّ الفكر الإسلاميّ كان هيّأ منذ القرن التاسع عشر الشروط العلميّة الكفيلة بتحقيق مثل هذه المهمّة الصعبة”.
هذا بيان واضح أراده أركون ردّا على من اعتبره من المثقّفين الغربيّين داعية إسلاميّا يدافع عن الإسلام وتعاليمه، وعلى من اعتبره من المثقّفين المسلمين التقليديّين خاصّة خطرا على الإسلام ورسالته ونصوصه المقدّسة. إلاّ أنّ وضوحه لا يعني بالضرورة أنّه يسهّل علينا الإمساك بموضوع هذا المقال وهو الإسلام من وجهة نظر علم الإسلاميّات التطبيقيّة الذي ظلّ يبشّر به محمّد أركون على امتداد حياته العلميّة. هو بيان فيه إعلان براءة وفيه إعلان اعتراف، لذلك لن نحمله على محمل الخطاب العلميّ رغم ما فيه من نظر كثيف في أزمة المعنى التي تعانيها المعرفة الإنسانيّة المعاصرة، ومن تأمّل في فكر النهضة العربيّة وعجزه عن تهيئة الشروط العلميّة الكفيلة بإنتاج لاهوت إسلاميّ حديث. وإذا امتنع أن يكون هذا الخطاب خطابا فلسفيّا أي خطاب نظر وتحقيق فقد جاز أن يكون في اعتقادنا خطاب رغبة مستحيلة أو مقموعة نشأت في أعماق صاحبها فتاق إليها ولكنّها انكفأت وانطوت لتتسرّب في أواخر العمر في شكل إعلان براءة أو إعلان يأس واعتراف.
لقد بُني هذا البيان كما نرى على المزج بين حركتين نفسيّتين، حركة أولى يتبرّأ فيها أركون من أن يكون رجل دين أو زعيما من زعماء الإصلاح الدينيّ همّه أن يقدّم للمؤمنين تأويلا عصريّا لدينهم يساعدهم على تحقيق توازن بين معتقداتهم من جهة وما يعجّ به العصر من فيض المعاني الجديدة من جهة أخرى. وحركة ثانية يعترف فيها برغبته الدفينة في أن يكون قائدا لحركة إصلاح دينيّ تهدف إلى بناء لاهوت إسلاميّ جديد تتجاوز به الأمّة الإسلاميّة اللاهوت القديم لولا أن حالت بينه وبينها الحواجز. في الحركة الأولى يتوجّه أركون إلى من تعوّد على مخاطبتهم على امتداد مسيرته العلميّة وهم المثقّفون في الشرق والغرب، فيعلن للمثقّفين غرب المتوسّط براءته من أن يكون رجل دين أو داعية ليحوز اعترافهم به مفكّرا أو عالما من علماء الأديان، ويعلن للمثقّفين شرق المتوسّط براءته من أن يكون مجتهدا في دينهم ليقي نفسه تهمة البدعة والضلالة التي علقت بالكثيرين من أمثاله كنصر حامد أبو زيد. وفي الحركة الثانية يخاطب أركون أجيال المسلمين الصاعدة يحثّهم فيها على بلورة نظريّة لاهوتيّة حديثة تقي جمهور المؤمنين شرّ الشعور بالتصادم بين دينهم ومقتضيات حياتهم العصريّة. وخلف هاتين الحركتين وما فيهما من مشاعر شتّى ينبعث شعور بالكبرياء. فهذه الذات الغريبة شرقا وغربا تسنّى لها في سنوات العمر المعدودة أن تنجز ما لم تنجزه أجيال من المثقّفين على امتداد قرنين من الزمان إذ هيّأت، بما أنتجت من كتب في نقد العقل الإسلاميّ، قدرا من الشروط الموضوعيّة اللازمة لبناء نظريّة لاهوتيّة حديثة تتجاوز اللاهوت الكلاسيكيّ والإيديولوجيا المعاصرة. ومن هذا الشعور بالكبرياء ينشأ أمل خفيف في تحقيق ذلك الحلم القديم حين تمنّى أركون لو كان بوسعه أن يكون إماما للمسلمين يجدّد لهم دينهم.
بيان يضعنا في ورطة ولا يدع لنا مدخلا يسيرا لتقييم ما تركه أركون من كتب ومقالات ومحاضرات في الفكر الإسلاميّ عبر العصور بدءا بعصر النشأة وصولا إلى عصر النهضة مرورا بما يسمّيه هو بالعصر الكلاسيكيّ وما فيه من تردّد بين الانفتاح والانغلاق. وممّا يزيد من صعوبة هذه المهمّة ذلك الكمّ الهائل من النصوص التي اشتغل عليها أركون إذ فكّر في النصوص التأسيسيّة كالقرآن والحديث كما فكّر في ما تولّد عنها من نصوص في مختلف مجالات المعرفة الإسلاميّة كالفقه والكلام والأخلاق والفلسفة والتصوّف. يضاف إلى ذلك كثرة الرهانات التي نصبها أركون لنفسه، فقد كان يعمل على اكتشاف العقل المتحكّم في إنتاج تلك النصوص التأسيسيّة وما تولّد عنها عبر مسار تاريخيّ متشعّب وطويل، ويأمل في كسب رهانات يمتزج فيها المعرفيّ والمنهجيّ بالحضاريّ والثقافيّ. أمّا الرهانات المعرفيّة والمنهجيّة التي رام الوصول إليها فتتجلّى أوّلا في اختبار المعارف الإنسانيّة الجديدة كاللسانيّات والسيميائيّات والأنتروبولوجيا والعلوم الاجتماعيّة لتبيُّن قدرتها على فهم العقل الإسلاميّ والكشف عن نظام اشتغاله لتقييم منتجاته المعرفيّة والإنسانيّة، كما تتجلّى في ذلك السعي المستمرّ إلى إنجاز خطوة تفصل مباحثه عن المباحث الاستشراقيّة التي تثمر في نظره معرفة علميّة بالإسلام بقدر ما أثمرت مخيالا غربيّا عن الإسلام والمسلمين. وقد وجد في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الجديدة أداة تفصله عن أدوات المستشرقين التاريخانيّة والفيلولوجيّة رغم ما للمنهجيّتين من فضل على الإسلام وتراثه يظهر خاصّة في تحقيق النصوص الإسلاميّة الكبرى وتصنيفها وشرحها والتأسيس لفهمها. ولم يكن أركون في رهاناته المنهجيّة والمعرفيّة مكتفيا بضرورة الانفصال عن الاستشراق مهتديا بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الجديدة بل كان يعمل إلى ذلك على تجاوز ما يسمّيه اللاهوت الإسلاميّ في صيغتيه الكلاسيكيّة (علم الكلام) والجديدة (إيديولوجيا الكفاح) لأنّه في نظره لا يقدّم معرفة علميّة بالإسلام بل تأويلا له.
أمّا الرهانات الحضاريّة والثقافيّة فتتمثّل في زعزعة ما ترسّب في المخيال الغربيّ من صور عن الإسلام والمسلمين هي في اعتقاده أبعد ما تكون عن الحقيقة العلميّة، زعزعة قد يكون من شأنها أن تسمح للغرب ساسة ومثقّفين بأن يقيموا علاقة حوار مع الإسلام والمسلمين. كما كان يأمل من ناحية أخرى في أن ينخرط المثقّفون المسلمون وخاصّة منهم أساتذة الجامعات وطلاّبها في اللحظة المعرفيّة الراهنة وأن يتسلّحوا بما كسبته الإنسانيّة من معارف جديدة كي يتسنّى لهم بناء معرفة علميّة بماضيهم وحاضرهم وكي يتحرّروا خاصّة من الإرثين اللاهوتي الكلاسيكيّ والإيديولوجي المعاصر عسى أن يكون ذلك مقدّمة لنقلة حضاريّة يكون للمسلمين فيها دور فاعل في إنتاج المعرفة والرقيّ بالإنسانيّة.
ومن هذه الرهانات المتشابكة التي رسمها أركون لنفسه وعمل على تحقيقها نشأت الإشكاليّة التي نعتزم معالجتها في هذه المقال وهي “الإسلام والإسلاميّات التطبيقيّة”. فقد بدا لنا أركون في رهاناته المعرفية والمنهجيّة مفكّرا في الإسلام يسعى إلى بناء معرفة علميّة دقيقة به وبأتباعه من شأنها أن تدحض الصور الراسخة في أخيلة الغربيين والصور الراسخة في أذهان المسلمين عن ماضيهم، وبدا لنا في الرهانات الحضارية والثقافيّة مفكّرا ملتزما بمشاغل أمّته يجتهد في بناء المقدّمات اللازمة لتأسيس لاهوت إسلاميّ جديد يتجاوز اللاهوت الكلاسيكيّ والإيديولوجيا الإسلامية المعاصرة. ومن هذين الرهانين معا تبدو الإسلاميّات التطبيقيّة علما يجعل من الإسلام موضوعا وهدفا في الوقت نفسه، أي أنّ الإسلام نصوصا وفكرا وتاريخا موضوع نظر علميّ جديد وهو أيضا هدف مقصود لأنّ الإسلاميّات التطبيقيّة علم يريد لنفسه أن يكون بديلا عن اللاهوت الإسلامي الكلاسيكي وعن الإيديولوجيا الإسلاميّة المعاصرة.
1. الإسلاميّات التطبيقيّة: علم جديد بموضوع قديم:
عمل أركون على أن يبني علم الإسلاميّات التطبيقيّة وعلى أن ينشره في الشرق والغرب من خلال حرصه الدائم على ضبط مجال اهتمامه العلميّ وأدوات تفكيره فيه وما وراء ذلك كلّه من رهانات منهجيّة ومعرفيّة إذ أشار في مقدّمة كتابه “الفكر العربي” إلى أنّه يفكّر في ما أسماه “الممارسات البشريّة للتعاليم الإلهيّة” وهي عنده “التفسير والتأويل والرواية والاستنباط” أي ما أنتجته الثقافة الإسلاميّة من معارف تتضمّن فهما للدّين وتعاليمه وتبسّط للمؤمنين سبل ممارستها في الحياة. وهو يفكّر في هذا الموضوع انطلاقا من مفاهيم جديدة تتجاوز في الوقت نفسه المنهجيّة التاريخيّة واللغويّة التي دأب عليها المستشرقون، واللاهوت الكلاسيكيّ والإيديولوجيا الإسلاميّة المعاصرة إذ اختار أن يستبدل هذه الأدوات بما وفّرته العلوم الإنسانية والاجتماعيّة الحديثة من مفاهيم وأدوات تحليل ونقد وتفكيك. وكان يهدف من وراء ذلك كلّه إلى أن يبني رؤية علميّة حول الإسلام باعتباره ديانة تمتلك كسائر الديانات نصوصا تأسيسيّة ونصوصا تأويليّة متعلّقة بها تمتدّ على مساحة تاريخيّة وجغرافيّة هائلة، وباعتباره فكرا أثّر في العالم وتأثّر به. ولنا، قبل الدخول في تفاصيل هذه الفكرة، أن نشير إلى أنّ “علم الإسلاميّات التطبيقيّة” الذي ناضل أركون من أجل بنائه، علم يريد لنفسه أن يكون تجاوزا معرفيّا لما يسمّيه أركون بالإسلاميّات الكلاسيكيّة، وهي عنده خطاب غربيّ يهدف إلى دراسة الإسلام دراسة عقلانيّة انطلاقا من متون قديمة وحديثة في الأدب والفقه والكلام والتفسير والأخلاق والفلسفة. وإذا كانت الإسلاميّات الكلاسيكيّة لا تعدو أن تكون دليلا يساعد على اكتشاف النصوص الإسلاميّة ويمهّد لفهمها بما يوفّره من معلومات تاريخيّة ولغويّة، فالإسلاميّات التطبيقيّة علم يريد لنفسه أن يكون فاعلا منخرطا في صميم الحياة العقليّة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة منفتحا في الوقت نفسه على المكتوب ماضيا وحاضرا وعلى الشفويّ المنقول والمتداول في المساجد والمجالس والمدارس والمنابر الإعلاميّة. ودون أن نمضي بعيدا في حصر مجال النظر الذي اختاره أركون لهذا العلم يمكن أن نضبط موضوع هذا العلم الذي يريد أن يكون بديلا عن الاستشراق واللاهوت الإسلامي انطلاقا من جملة النصوص والممارسات التي انكبّ أركون على دراستها وهي الخطاب النبويّ والخطاب اللاهوتي الكلاسيكيّ والإيديولوجيا الإسلاميّة المعاصرة وما تعلّق بهذا كلّه من ممارسات دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة.
2. الخطاب النبويّ:
يسمّي أركون خطابا نبويّا جملة الكتب المقدّسة عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين. ولهذا الخطاب عنده بنية لسانيّة وسيميائيّة نحتاج لتفكيكها وتحليلها إلى علوم الأنتروبولوجيا الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة قصد الكشف عن الكيفيّة التي تنبني بها العقائد والمعاني في عقول المؤمنين في جميع الديانات التاريخيّة أي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام . ليس الخطاب النبوي عند أركون إذن في شيء ممّا يُعرف بالحديث النبويّ وإن كان هذا الحديث في اعتقاد المسلمين جزءا من الوحي، ولكنّ هذا الحديث يقع عند أركون خارج دائرة الخطاب النبويّ لأنّه يعبّر في تقديره عن تجربة تاريخيّة حيّة تنطوي على تأويل للخطاب النبويّ ولكنّ العقل الإسلاميّ عمل على انتزاعها من التاريخ ليضعها في مرتبة المتعالي. أمّا القرآن فهو عند أركون خطاب نبويّ ( Discours prophétique ) يبني جملة من الاعتقادات والمعاني في إطار بنية لسانيّة وسيميائيّة أنتجت نصوصا أخرى وديانات أخرى كاليهوديّة والمسيحيّة، وعليه فمن الضروريّ عند أركون أن يُفهم الخطاب القرآني في حدود الوعي العلميّ بتلك البنية لأنّها مفتاح لازم لفهم الخطاب الدينيّ وطرق تعبيره عن المعنى، وهذا يستدعي وجوبا معرفة بالانتروبولوجيا الدينيّة فضلا عن المعارف اللسانية والسيميائيّة وكلّ العلوم المعاصرة المنشغلة بأنظمة المعنى وصوره. وقد كان هذا المطلب من أشدّ المطالب إلحاحا على محمّد أركون لأنّ الخطاب النبوي في الإسلام ظلّ منذ صعود الدولة الأمويّة خطابا لا مفكّرا فيه ( impensé) أو خطابا يستحيل التفكير فيه (impensable ) إذ لم يتناول المفكّرون المسلمون مسألة النص القرآني وتاريخ تشكّله كما لم يفكّروا في مجاميع الحديث النبويّ المعتمدة وفي استراتيجيّات تشكّلها، ولم يعالجوا الشروط التاريخيّة للتشريع الإسلاميّ وتشكّل الأحكام فيه ولم يناقشوا الصلة بين القرآن والكتب المقدّسة وحدود التحريف فيها.
3. الخطاب اللاهوتي الكلاسيكي:
يتمثّل هذا الخطاب في مجمل المصنّفات التي وضعها المفكّرون المسلمون القدامى وهم يقصدون إلى أن يقدّموا من خلالها فهما للإسلام وتعاليمه ودليلا يساعد جمهور المؤمنين على ممارستها. وتدخل تحت هذا الخطاب كتب الفقه وأصوله وما وضعه المتكلّمون والمفسّرون والفلاسفة والمتصوّفة من مصنّفات في الأخلاق والتفسير واللاهوت والسياسة. وهي نصوص موزّعة على حقول معرفيّة شتّى وتمتدّ على فترات تاريخيّة طويلة ومن وضع كتّاب ينتمون إلى مدارس ومذاهب مختلفة ولكنّها في نظر أركون نصوص تمّ إنتاجها ضمن نظام مخصوص يسمّيه نظام العقل الإسلاميّ. وقد أُنتج هذا الخطاب في لحظتين تاريخيّتين متمايزتين. أمّا اللحظة الأولى فهي لحظة انفتاح وتفاعل بدأت مع صدر الإسلام وانتهت بنهاية القرن الرابع للهجرة وتميّزت بغياب ما يسمّيه أركون السياج الدوغمائي. وأمّا اللحظة الثانية فهي لحظة انغلاق وتسييج بدأت مع بداية القرن الخامس للهجرة وتزامنت مع ظهور المدارس الكلاميّة والفقهيّة الصارمة واستمرّت في التاريخ قرونا طويلة تزايدت فيها الأسيجة وعلت فضاقت مساحات المفكّر فيه وتوسّعت في المقابل مسحات اللامفكّر فيه أو الممنوع التفكير فيه.
لقد كان الخطاب اللاهوتي الكلاسيكي في لحظته الأولى متنوّعا يقبل التعدّد، وكان بجواره خطاب ثان غير لاهوتيّ، فلسفيّ وعلميّ (علوم اللغة والجغرافيا والفلك والطب والصيدلة والهندسة والرياضيات والحيوان…)، وكان الخطابان يقدّمان رؤى متنوّعة للعالم وينطويان على تمثّلات عدّة للمعنى، معنى الإنسان ومعنى الوجود، ولكنّهما كانا متعايشين، وكانت بينهما شبكات تواصل وتفاعل إيجابيّ رغم حدّة الصراع بين المتكلّمين والفلاسفة أو بين اللغويين والمنطقيّين. وقد كانت هذه اللحظة التاريخيّة خصبة وهي التي أنتجت ما يسمّيه أركون بالإنسيّة العربيّة بخلاف اللحظة الثانية التي راحت فيها علوم الدنيا تختفي شيئا فشيئا حتّى اندثر الفكر الفلسفيّ والعلميّ وتقلّص الفكر اللغويّ فبات يكرّر نفسه في الشروح والحواشي والتعليقات بينما راحت العلوم الدينيّة تنغلق في ما يسمّيه أركون سياجا دوغمائيّا منغلقا وهو سياج كلاميّ فقهيّ يفرض التقليد ويمنع التجديد والابتكار. وبالعبور من اللحظة المنفتحة إلى اللحظة المنغلقة في تاريخ الخطاب اللاهوتي الكلاسيكيّ مرّ العقل الإسلامي من زمن التفاعل بين المعقول والمنقول إلى زمن لا عالم فيه سوى “الفقيه المقلّد” و”الشيخ الوليّ”. ولكن ما الذي قاد هذا العقل من الانفتاح إلى الانغلاق؟ وكيف تسنّى للفكر الدينيّ المدرسيّ أن يهيمن على الثقافة الإسلاميّة؟
يعتقد أركون أن التحوّل يعود بالأساس إلى ما يسمّيه “نظام العمل التاريخي”، فالثقافة الإسلاميّة نتاج نظريّة تقول إن الله الحيّ المتعالي فاعل في التاريخ ويظهر فعله بواسطة أنبيائه وما الوحي سوى كلام الله الحقيقيّ الذي يسطّر للبشر طريقا في الحياة عليهم أن يسلكوه ليضمنوا السعادة في الدنيا والآخرة. وهي نظريّة لها جذورها في القرآن وفي متون الحديث النبوي وفي ممارسات المفكّرين طيلة القرون الثلاثة الأولى وظلّت تنمو شيئا فشيئا حتّى اتضحت معالمها في علم الأصول. إن هذا النظام المبنيّ على التأصيل هو نظام عمل تاريخيّ يتحكّم في الخطاب والممارسة في الوقت نفسه، وهذا ما جعل المعرفة في الإسلام ضربا من ضروب التعرّف على الحقيقة الأزليّة الكامنة في نصّ الوحي وهذا ما جعلها معرفة كشفيّة حاول القدامى ضبط معاييرها والطرق المؤدّية إليها. ولئن كانوا مختلفين في هذا وذاك فقد اتفقوا على اعتبار الخطاب القرآني الخطاب الوحيد الذي يقول الحقيقة وكلّ ما سواه باطل، وما على العقل إلاّ أن يجتهد في التعرّف على معنى الوجود الإنساني وعلى معنى الكون في نصّ الوحي الإسلاميّ. لقد ساد التنوّع والاختلاف اللحظة المعرفيّة الأولى فتباينت الطرق المؤدّية إلى الحقيقة الكامنة في النصّ، ولما جاءت اللحظة الثانية تشكّل سياج دوغمائي ظلّ يتكاثف شيئا فشيئا حتّى جاء ابن تيميّة فبنى للعقل سجنا يمنعه من التفكير خارج حدود الوحي. إنّ هذا المنهج السلفيّ الذي أكمل ابن تيميّة بنيانه يلغي كلّ ما أنجزته اللحظة الأولى من معارف عقليّة ونقليّة أي من علوم دنيويّة ودينيّة منفتحة على بعضها البعض، وكانت النتيجة الحتميّة أن انصرف العقل الإسلاميّ إلى الكشف عمّا في الوحي من علوم تهمّ حياتنا الدنيا كالطبّ والفلك والجغرافيا والسياسة والاقتصاد، وبات المفكّرون المسلمون يبحثون في القرآن والحديث عن نظريّات الإسلام في العلم والسياسة والاقتصاد والطب يعد أن كانوا في اللحظة الأولى يجتهدون في الاستفادة من معارف عصرهم العلميّة لتفسير الوحي وحمل معانيه على ما يقتضيه العقل.
4. الخطاب الإيديولوجي المعاصر:
يتردّد أركون في تسمية الخطاب العربي والإسلامي المعاصر فيسمّيه حينا بالخطاب الإسلامويّ ( discours islamiste) ليميّزه من الخطاب الإسلاميّ، ويسميّه أحيانا ثانية الخطاب السلفيّ وأحيانا ثالثة يسمّيه خطاب إيديولوجيا الكفاح. والتسمية الأخيرة هي الأكثر رواجا في مؤلّفاته وهي تسمية تتّصل في تقديرنا بوظيفة هذا الخطاب أكثر ممّا تتّصل ببنيته ودلالاته. ولعلّ أركون اختار ذلك وعيا منه بأنّ هذا الخطاب لا يختلف كبير اختلاف عن الخطاب اللاهوتي الكلاسيكيّ في مستوى لغته ومضامينه بقدر ما يختلف عنه في مستوى الوظيفة. لقد كان المفكّرون القدامى على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم يعملون على بناء نظريّة لاهوتيّة متماسكة تفسّر الوجود الإنساني وتمنحه معنى، أمّا المتحدّثون باسم الإسلام اليوم فيعملون على توظيف الخطاب اللاهوتي الكلاسيكي دون وعي علميّ به ليجيّشوا العواطف وليثيروا مشاعر الناس الدينيّة قصد حملهم على مواجهة التغريب والاستعمار والعلمانيّة والإمبرياليّة والصهيونيّة والشيوعيّة… وقصد بناء نظام أخلاقيّ سياسي يقوّي السياج الدوغمائي المغلق الذي بناه أصحاب المذاهب في مطلع القرن الخامس للهجرة وختم أقفاله ابن تيميّة.
ولهذا الخطاب الإيديولوجي فاعلان أساسيّان يقفان على طرفي نقيض، فمن جهة نجد الناطقين باسم الإسلام الرسمي وهم المكلّفون من قبل الدولة بإدارة الشأن الدينيّ ونجد في الجهة المقابلة قادة الحركات الإسلاميّة المعارضة. فاعلان اثنان يمثّل كلّ واحد منهما خصما للآخر ولكنّ هذا لا يعني أنّهما يحملان مشروعين حضاريّين متناقضين لأنّهما يستعملان خطابا واحدا ويفكّران في الإسلام من منطلق واحد ولغايات واحدة. فالدولة الوطنيّة الناشئة بعد الحروب التحريريّة وظّفت الإسلام لإنتاج إيديولوجيا الكفاح الوطني تماما كما توظّف الحركات الإسلاميّة الإسلام لمواجهة الأنظمة الحاكمة. ويدّعي كلّ طرف منهما أنّه يمثّل الإسلام النقيّ الصافي وينعت الآخر بنعوت تبعده عن الإسلام وما انتشار موجة التكفير المتبادل في العقدين الأخيرين سوى العلامة الأبرز على مأزق حضاريّ حقيقيّ يحتاج المسلمون إلى الكثير من الجهد المعرفيّ للخروج منه. وتزداد هذه الظاهرة خطورة حين نجد حركات إسلاميّة تتنازع في ما بينها الكلام باسم الدين تماما كما تتنازع الأنظمة الحاكمة حول الإسلام ويدّعي كلّ نظام منها أنّه الوصيّ على الدين الحقّ. والحقيقة أنّ هذه الظاهرة المتمثّلة في الصراع على الإسلام ظاهرة عريقة في التاريخ الإسلامي إذ كانت الفرق تكفّر بعضها البعض وكانت كلّ واحدة منها تدّعي أنّها الفرقة الناجية وأنّ غيرها من الفرق أهل بدع وأهواء.
هنا تحديدا يكون الخطاب الإيديولوجي المعاصر وريثا للخطاب اللاهوتي الكلاسيكي يستعيد لغته القديمة وما فيها من مفردات الكفر والبدعة والضلالة والزندقة والإلحاد ويضيف إليها مفردات سياسيّة جديدة كالعمالة والإرهاب والرجعيّة، وكلّ هذا كي يواجه كلّ طرف خصومه السياسيين. وليس بمقدور خطاب كهذا أن ينتج معرفة بالإسلام والمسلمين أو معرفة بالآخرين (أوروبا، الغرب، العلمانيّة، الديمقراطيّة…) وكلّ ما بوسعه أن ينتجه هو أن يحشد صورا خياليّة عن الذات والآخر في الوقت نفسه لإثارة الأحقاد والضغائن والتحريض على العنف والضحيّة في النهاية هو العقل .

5. خاتمة:
من الثابت أن العلوم الإنسانيّة تظلّ علوما مشوبة بما في الذات من مشاعر وميول ورغبات وإن حرصت على أن تكون علوما محايدة وموضوعيّة. لذلك فمن العسير على أركون وغيره ممّن تصدّى لدراسة الفكر الإسلاميّ أن يتجرّد من مشاعره وميوله الدينيّة والسياسيّة. ولئن حرص هذا المفكّر على أن يظهر لقرّائه في الشرق والغرب في صورة العالم المتخصّص الملتزم بمعايير البحث العلمي المعاصر فإنّه لم يخف في الكثير من كتبه ومحاضراته رغبته في أن يعمل على تجديد الفكر الإسلامي وفي أن يجتهد في الدين لعلّه يعيد له حيويّته التي فقدها منذ قرون.
لقد سبق أن أشرنا إلى اعتراض أركون على القدامى والمعاصرين لأنّهم كانوا يؤمنون بوجود “إسلام صاف نقيّ” ولأنّ كلّ فرقة منهم كانت تؤمن بأنّها الفرقة الوحيدة التي ذلك الإسلام تمثّلا صائبا وسليما. وهو اعتراض يوحي بأنّ صاحبه لا يعتقد هذه الاعتقادات ولا يؤمن بوجود إسلام صاف نقيّ لأنّ الإسلام بمختلف نصوصه التأسيسية والتأويليّة ما هو إلاّ نتاج شروط تاريخيّة وما الخطاب الإسلامي بأصنافه المعروضة سابقا إلاّ خطاب أُنتج ضمن بنى لسانيّة وسيميائيّة محدّدة وما العقل الذي أنتج تلك الخطابات إلاّ عقل يعمل وفق نظام عمل تاريخيّ توسّع أركون في شرحه. رغم ذلك نجد في المفردات التي يسمّي بها أركون أصحاب الإيديولوجيا الإسلاميّة المعاصرة ما يشير إلى خلاف ما يوحي به اعتراضه السابق، ففي حديثه عن ( islamistes) و عن ( fondamentalistes) ما يسمح بفتح باب للحديث عن إسلاميّين حقيقيّين وعن أصوليّين حقيقيّين لما في المفردتين السابقتين من صفات مشحونة بمعان سلبيّة كما يقول مترجمه هاشم صالح. فمن يكون هؤلاء الأصوليّون الحقيقيّون الذين يعترف لهم أركون بوصفتهم المعرفيّة الدينيّة؟ إنّهم أولئك الذين أنتجوا الخطاب اللاهوتي الكلاسيكي في لحظتيه المنفتحة والمنغلقة لأنّهم في تقديره فكّروا في دينهم وفي نصوصه التأسيسيّة تفكيرا عميقا تولّد عنه تأويل كما تولّدت عنه منظومة لاهوتيّة وقانونيّة مُحكمة تنطوي على رؤية للعالم ومنزلة الإنسان فيه أُنتجت في سياق ما سمّاه نظام عمل تاريخي خاصّ كانت الحقيقة فيه كامنة في نص الوحي وحده دون الطبيعة والتاريخ. وفي تمييز أركون بين لحظة الانفتاح ولحظة الانغلاق إشارة إلى ما يعرف في تاريخ الفكر الإسلامي بغلق باب الاجتهاد وهي استعارة مفعمة بالمعاني لما توحي به من صور تمثيليّة يبدو فيها الاجتهاد مسكنا له باب منه يكون دخول أو خروج. استعارة تلخّص نظريّة القدامى في العقل الإسلاميّ وحدوده، إنّه عقل يجتهد ضمن حدود النص الدينيّ المؤسّس ويلج عوالمه الخفيّة من باب واحد وهو باب الأصول التي مضى المفكّرون القدامى في بلورتها شيئا فشيئا فلمّا اكتملت صار بابا مغلقا لا يمكن فتحه من جديد. فكيف سيدخل أركون باب الاجتهاد المغلق؟ وبأي مفتاح؟

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ حبيب
    حبيب

    أعجبني كثيرا هذا المقال كونه يفسّر بموضوعية الأهداف الّتي كان يأمل محمّد أركون تحقيقها مثله مثل مالك بن نبي ، والّتي يمكن تلخيصها في كيفية تخليص الأمّة الإسلامية من الاحتباس الحضاري الّذي سببه ثاني أكسيد الغباء

    بارك اللّه فيك وموفّق إن شاء اللّه

  2. الصورة الرمزية لـ historienandarcheoli
    historienandarcheoli

    وللاسف حتى أركون نفسه لم يحدد القاعدة التي بالامكان لجماعة الاسلام ان تنطلق منها. ولم يسمح لنفسه تحديد المكان الذي تقبع فيه هذه الجماعة فلا هو لاهوتي ولاهو مجدد ولا هو سلفي للاسف أراد ان يشيد طريقا بين الغرب والشرق لكن نسي أن هذا الغرب هو الاخر مشحون بالسلبية منذ زمن. ثم اننا قد عرفنا في التاريخ الاسلامي أن كل من يحمل مشروع تغيير جديد يواجه بنفس المعطيات الانية التي تستوجب رده ما ادى الى نجاح المشروع الاخر ولدينا في بلاد المغرب تجربة ابن تومرت. بالمحصلة لايمكن اختراق هذا السياج الذي تكلم عنه أركون الا بتوفير شرطين أساسين جاء ذكرهما في سورة قريش وهما: الامن والغذاء أو الطعام وللاسف هذين الشرطين توفرا لقبيلة قريش التي حملها الله فيما بعد الرسالة المحمدية والذود عنها. الا أنه وللاسف هذين الشرطين غير متوفرين لجموع القبائل الوطنية والمخزنية منذ قرون وليس اليوم فقط. وحتى و إن توفرت لم تستخدم لترقية الانسان الفكرية والابداعية بل استخدمت للاشباعات البيولوجية والحميمية البهيمية ولنا نموذج الطفرة البترولية التي لم تستخدم ثرواتها لتكوين الانسان بل كانت لتهوين هذا الانسان.
    للاسف اصبحت الان أتمنى ان ينجح اي مشروع في زمن الفشل هو سيماته لكي نحافظ فيه على هويتنا التي يبدو ان أركون حاول أن ينتج لنا ثقافة نشطة ممزوجة بثقافة الاخر وهذا من المستحيل حاليا نظرا لطبيعة التصادم الذي نادى له الغرب وهو . صدام الحضارات المبني على نفي ثقافة الاخر. وليس من السهل لهذه الامة انتاج ثقافة منتصرة وهي تحمل بين أضلعها السلبية في فكرها وبين جموع ما يسمى مثقفيها.

  3. الصورة الرمزية لـ أحمد سامي
    أحمد سامي

    نتاج مدرسةالاستشراق التي تقول بتاريخية القرآن الكريم …أركونهو خلاصة تربية الآباء البيض لتقويض المسلمات …هراء أركون يردده المستلبون بدعوى الحداثة

  4. الصورة الرمزية لـ نورالدين الجزائري
    نورالدين الجزائري

    من الظلم لأركون تشبيبهه بحامد أبو زيد …

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: