فاروق شوشة: عملاقٌ في دُنيا الشِّعْــــــر … د. محمد مبارك البنداري

د. محمد مبارك البنداري

فقدت الحركة الأدبية والعلمية في مصر والعالم العربي برحيل الشاعر فاروق شوشة 14/10/2016 معلمًا من أعلامها وأديبًا من أدبائها ، ففاروق شوشة ليس اسمًا عابرًا في مصر وحدها، بل تجاوز حدود وطنه وأصبح شاعرًا إنسانيًّا، عرفناه متألقًا عبر الأثير، لمسنا في كلماته، وأفكاره ، تلمسًا دائمًا وتطلعًا للمستقبل ، من أجل الأفضل ، الأفضل في الشعر ،الأفضل في قراءة الحياة ، الأفضل في الاختيارات الشعرية .

فليس غريبًا أن يكون فاروق شوشة إنسانًا فذًا، وإنسانًا خاصًا، وأنموذجًا للإعلاميين والشعراء، وأصحاب الأقلام القادرة على العطاء والإسهام بقوة في كل المجالات، لا سيما الإعلام، وتأثير الكلمة الشعرية في النفس البشرية.

لقد كان فاروق شوشة المولود بقرية الشعراء بمحافظة دمياط 1936م/ مصر ابن عصره، بيد أنه ذو ثقافة واسعة، ويبدو أنّ قرية الشعراء أثرت في شخصيته؛ فقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى شعراء الربابة الذين كانوا يقيمون فيها زمن الحروب الصليبية، والذين كانوا يحمسون جيوش المسلمين على الجهاد، بإنشاد السير الشعبية المليئة بالبطولة والنخوة والشهامة كسيرة عنترة . ..

كل ذلك تضافر على تشكيل وجدان فاروق شوشة الشعري فأثمر قريحة لغوية سليمة ، كان أول بوادرها قصيدته ” بيت فوق الشجرة ” ، التي رصد فيها ذكرياته القديمة مع ذلك العش الصغير من القش والأسلاك ، فوق شجرة الزيتون المتاخمة لبيته ، والذي صار بيته الحقيقي ، يأوي إليه بعد المدرسة كي يتفرغ لتأملاته الأدبية ، ويصف الشاعر ولادته الشعرية تلك بقوله في “عذابات العمر الجميل- سيرة شعرية ” :” لقد بدأت عذابات ذلك الكائن المراوغ الشعر ! “

تعلم فاروق شوشة في مدارس دمياط، ثم تخرج في دار العلوم 1956م، والتحق بالإذاعة المصرية 1958م، وتدرج في وظائفها حتى أصبح رئيسًا لها1994م، وأهم برامجه الإذاعية : لغتنا الجميلة منذ عام 1967م،والتليفزيونية : أمسية ثقافية منذ عام 1977م، وانتخب عضوا في مجمع اللغة العربية 1999م ، وأمينًا عامًا للمجمع عام 2005م ، وتولى رئاسة اتحاد كتّاب مصر م1999- 2001م .

ولا غرو نجد صورة صادقة لحياة هذا الإنسان، وكل ما كان يجيش في صدره، وما كان يتطلع إليه منذ الشباب إلى أن قضى نحبه راضيًا مرضيًّا منذ أيام في هذه المؤلفات فهي سجل فني دقيق للتطور الفكري والفني في مسيرة الأدب المصري خاصة، والعربي عامة، وزخم عديد من الأفكار والآراء فالسنون الماضية هي بحق شهدت أحداث عظام، كثورة يوليو1952 ونكسة 67 والتي كان مما قال فيها قصيدته ” كلمة حزن “، ومن الأحداث القومية ثورة بغداد 1958م فكتب ” بغداد تثور ” ، وثورة المغرب وتجلت في قصيدته ” يا مغرب “، وسجّل مآسي العراق في قصيدة ” أيها الصيف الذي ولّى سريعا ” يقول فيها :

وجحيمًا ماج في” دجلة “

يشوي الأبرياء

قد تشظى قمر” الكرخ”

على جسر” الرصافة “

و” الفرات” العذب مخنوق

ولا قطرة ماء

لقد أصدر الشاعر حوالي 12 ديوانًا شعريا، أولها: إلى مسافرة 1966م، والعيون المحترقة ، ولؤلؤة في القلب، في انتظار ما لا يجيء ، الدائرة المحكمة ، ولغة من دم العاشقين ، ويقول الدم العربي، وهئتُ لك ، وسيدة الماء ، ووقت لاقتناص الوقت ، ووجه أبنوسي، والجميلة تنزل إلى النهر، وترجمت بعض هذه الدواوين إلى الإنجليزية ، كلغة من دم العاشقين، بالإضافة إلى بعض القصائد التي ترجمت إلى الفرنسية والإسبانية والروسية والصينية واليابانية .

هذا ويقع هذا الإنتاج الشعري في مجلدين ، يضمان الأعمال الشعرية الكاملة له ، ويحتوي كل منهما ستة دواوين ، بحيث يكون مجموع دواوينه اثنى عشر ديوانا ، وقد تراوح عدد القصائد في كل ديوان بين 23قصيدة ، و10 قصائد ، وكان يختار عناوين دواوينه بناء على عنوان إحدى قصائد الديوان ، فيسميه باسمها .

وبالطبع اهتم الشاعر فاروق شوشة بالأطفال، وبكل ما يتعلق بشؤونهم، وتجلت عنايته بما كتب لهم من شعر،خرجت في مجموعات شعرية ثلاث هي :

حبيبة والقمر، مَلك تبدأ خطوتها، العصفور الصغير، وهنا أذكّر بأهمية العناية بما يكتب للأطفال من شعر ونثر بوصفهم نصف الحاضر وكل المستقبل، ويجب على الباحثين دراسة هذه الأعمال الأدبية بغية الوصول إلى الخصائص والمميزات، وكل ما يتصف به الخطاب المكوّن لها وفق المناهج البحثية ذات الصلة بهذا النوع من الدراسات، والدفع بها إلى آفاق أوسع وأرحب، فجل الدراسات النقدية تدور في فلك القصة والرواية ، على الرغم من أن المكتبات العربية تحفل بكمّ وافر من القصص عمَد أصحابها إلى مخاطبة عقل الطفل وتسليته ؛ لتكون محاولة تهدف إلى وضع قصص الأطفال في المكان الذي يليق بها ضمن الأعمال الكثيرة التي تزدان بها مكتباتنا ، وتشكل عماد الحركة الثقافية والأدبية بها .

ومن دراساته واختياراته الرائعة:

لغتنا الجميلة ،أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي، لغتنا الجميلة ومشكلات معاصرة، العلاج بالشعر، مواجهة ثقافية، أحلى عشرين قصيدة في الحب الإلهي ،عذابات العمر الجميل ( سيرة شعرية )، ثقافة الأسلاك الشائكة، زمن للشعر والشعراء، الشعر أولا والشعر أخيرًا، الإغراء بالقراءة ،أصوات شعرية، وبابه الثابت في مجلة العربي الكويتية” جمال العربية” وهو معروف للقاصي والداني.

وقد قامت دراسات حول الشاعر وأعماله الأدبية منها : البنية الشعرية عند فاروق شوشة ، د . مصطفى عبدالغني 1992م ، الاتجاهات الفنية في شعر فاروق شوشة د . محمد السيد سلامة نصر وهي أطروحته للماجستير 1994م ، وشعر فاروق شوشة بين الرؤيا والإبداع ، د . محمد السيد سلامة 1999م ، والبنية الإيقاعية في شعر فاروق شوشة دلاليا ، د . درية محمد مغربي مكي 2008م ، رسالة ماجستير بآداب قنا ، ج . جنوب الوادي( مخطوطة ) ، وهي دراسة رائعة ، وموجزة ، جاءت في في تمهيد موجز عن الشاعر وشخصيته ، وأربعة فصول تحمل عناوين : الإيقاع العروضي ، الإيقاع الصوتي – الدلالي ، الإيقاع البصري ، والإيقاع الدلالي .

هذا وإن كان فاروق شوشة شاعرًا مصريًّا، فهو لم يكن محدودًا في إطار مصر على رحابتها واتساع آفاقها، لقد كان بالفعل شاعرًا عربيًّا بمعنى الكلمة، استطاع صوته، وكذا استطاعت كلماته أن تنفذ عبر الأقطار العربية الواسعة، فهو ربما من القلة القلائل من الشعراء والأدباء كان لهم الإسهام الواسع في القضايا المطروحة عربيًّا ودوليًّا وقد نال لقاء هذه المشاركة العديد من الجوائز؛ ومنها: جائزة الدولة التشجيعية في الشعر1986م، والتقديرية1996م، وجائزة الشاعر اليوناني كافافيس1994م،وجائزة محمد حسن الفقي 1994م ، وجائزة مؤسسة يماني1995م ، وكرّم في المملكة العربية السعودية- أيضًا – في الأحساء ، وجازان .

إن شوشة يعدّ رائدًا في شعر الحياة والوصف، وأنا أراهن أن تمسك في يدك ديوانًا من دواوين شعره السابقة متسليًا أو فاحصًا باحثًا وتتركه حتى تقرأ آخر سطر فيه، وقد أحببت أن أختار في هذه العجالة بعض شعره؛ فاستحال عليّ ذلك لأنني يجب أن أضع بين يدي القاريء دواوين شوشة كلها فكلها رائع، وكلها يملأ إعجابك وطربك وحبك ، وإن اخترت شذرات لتبين لك العبقرية الشعرية .

كان شوشة رجلًا إن أردت أن تجتليه كلًا وذاتًا فاصغِ إلى حديثه لتعرف بفطرة الحب ما يعنيه بظاهر نطقه، وما يشف عنه بباطن صمته .

لقد تأثر الشاعر بعدد كبير من الشعراء المعاصرين الذين تأثروا بمدرسة ” أبولو ” كإبراهيم ناجي ، وعلى محمود طه ، ومحمود حسن إسماعيل ، ومن هؤلاء الشعراء : صلاح عبدالصبور ، وأحمد عبدالمعطي حجازي ، وأمل دنقل ، ومحمد إبراهيم أبو سنة .. وغيرهم ، تأثر بكل ذلك فصاغ أول قصيدة له في شعر التفعيلة ” ضاع في الزحام ” فكان بذلك أبرز شعراء التفعيلة ، مع الحفاظ على الأصالة الأدبية .

وإن كان رأيه في” الشعر في هذا الزمان ” يظهر تضجره ، في قصيدة تحمل نفس العنوان ، يقول فيها :

فانظر حولك

وتأمل هذه السوق العارية المشهودة

فالكل يبيع ويسقط في المحذور

واشحذ سيفك

قد تقطع يومًا هذه الكف الممدودة لا تدري سم أناملها

أو حجم الطلقة في الديجور

واخفض صوتك

حتى لا يسمعك الحمقى ، والسفلة قد يستقصونك

واحذر قدرك

يترصد ما بين الكلمات المعدودة

إنّ شوشة من وجهة نظري ذو بصيرة نافذة وذو خيال خصب وواقعية جبارة ، يريد أن يصل الشعر من خلال الأثير والمقالات البسيطة، والاختيارات الرائعة إلى كل الدنيا، ويريد لأمته النهوض والرقي والأخذ بمعاني القوة والبأس والعدل والحق ومجاراة العالم في تقدمه ليعود العرب والمسلمون بالكلمة واللغة الجميلة كما كانوا سادة الدنيا ومالكو زمام الزمان.

والملفت للنظر ظهور نغمة الحزن في شعر فاروق شوشة بشكل شديد الوضوح، ولا غرو فنغمة الحزن في شعرنا المعاصر ظاهرة تلفت النظر بسبب الأحداث التي مرت بها الأمة وما زالت الفواجع تنزل بنا في عالمنا المعاصر ، بل بإمكاننا القول بأن الحزن قد صار محورا أساسيا في معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد ، ويبدو أن الشعراء يصرون ويلحون على إبراز جانب واحد من الحياة ، هو جانب القتامة فيها ، وأنهم يغمضون عيونهم عن جانب البهجة ، وبالطبع ليست الحياة جهمة كلها ، وإنما هي تتضمن إلى جانب الجهامة صورا من الإشراق كذلك ، ونفس الشاعر التي تتسع لاستيعاب كل أشكال الحياة ينبغي أن تهزها الأشكال المشرقة ، كما تستوقفها الصور الجهمة ، يقول في قصيدته ” يدوسنا عام جديد ” :

الدم المسفوح ما زال

غبار الموت

أنات الثكالى والسبايا

والصدى المذعور ما زال

هتاف الرعب

صوت الباعة الحمقى

ويقول في قصيدته من سفر أيوب

عذبتنا … أكل هذا الأسى ! … أما انتهينا من لياليه !

العيب فينا ! أم بأقدارنا ! … أم في زمان لا نجاريه !

بينما نجد الحزن باديا في عنوان قصيدته :” دعوني أؤجل حزني ” :

ومن أنت ؟

من نحن ؟

كيف ابتعدنا ؟

وكيف انهمار البلاء المقيم ؟

وتحدث عن الشهيد بمشاعر جياشة ، وصور لنا كيف يخرج الشهيد من بيته قاصدا الشهادة في سبيل الله ، يعرف أنه لن يعود وإن عاد فلن يكون سالما ومع ذلك يقدم على الجهاد … لقد رسم صورة متكاملة للمشاعر التي تحتدم في صدر ذلك المجاهد وقت خروجه للمعركة واستشهاده ، يقول فيها :

مدّ يدًا ، وسلّما

فارتاع طيرٌ

طار من ضلوعه

وحوّما

كان يريد أن يقول ، إنما

لم يتسع وقت

تبدّد الذي يود لو يقوله

فغمغما

وانهار مسرعا

كما يثور عاصف الرياح

عاتيا مدمدما

لم يلتفت وراءه

ولم يطلْ

وأخيرا … لقد رحل شوشة عن عالمنا ولكن نتاجه الأدبي والفكري يظل باقيًا، وهكذا شأن الأعمال الأدبية والفكرية الجيدة، فهي لا تموت برحيل أصحابها ، بل تعيش في ذاكرة الزمن الذي يحفظ لها صفة الاستمرارية بين الأجيال المتعاقبة.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد