ما وراء السياسة.. الموقف الأخلاقي في فكر عبد السلام ياسين (تقديم كتاب)

د. أحمد الفراك: جامعة عبد المالك السعدي

صدر عن دار أفريقيا الشرق هذا العام (2016) كتاب”ما وراء السياسة.. الموقف الأخلاقي في فكر عبد السلام ياسين”، لصاحبه الدكتور إدريس مقبول رئيس مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، الفائز حديثا بجائزة كبار الباحثين ضمن فعاليات منتدى كوالالمبور، حوالي 440 صفحة، موزعة على سبعة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، مع تقديم للبروفسور ماسيموكامبنينبي من جامعة ترنتو بإيطاليا. فصول وفقرات غنية بالتحليل والتركيب والنقد، ماتعة بتنوع الحقول المعرفية التي ينظر منها وفيها المؤلف، وقد وُفق أيضا في إحضار الاسشهادات والقرائن والمقارنات بشكل دائم ومنسجم مع الأفكار الواردة في المتن.

والكتاب عبارة عن بحث فلسفي في فلسفة الأخلاق ومركزية التفكير الأخلاقي عند أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، باعتباره صاحب نظريةٍ في التغيير لم تنل حظها بعد من البحث المعمق والدراسة الفاحصة،فهو الذي خاض تجربة روحية وعلمية وسياسية متفردة في زمننا، وخطت أنامله ما يزيد على الأربعين كتابا في موضوعات مختلفة موزعة على أربعين سنة من التأليف، رجلٌ علمٌ حوصرت فكرتهحوالي أربعين سنة أيضا، لموانع جُلها تعود إلى كونه يعرض نظرةً تجديدية لواقع الأمة يعارض بها دعوات الانغلاق المتقلصة باسم الدين أو باسم العلمانية، ويُبطل المبررات التاريخية للاستبداد السياسي، فهو عالم مجدِّد في مناحٍ متعددة منها الفكر السياسي للأمة الإسلامية، مما جرَّ عليه عداوة الـمُغرضين والمفسدين الذين صموا آذانهم عن سماع كلمة منادٍ من خارج القطيع مخالف للمألوف الذي أبَّدتهه ثقافة تاريخية مزورة للحقائق. إنه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1928-2012).

لذلك يأتي هذا الكتاب ليدشن -في نظر المؤلف- طريقا للقراءات المنصفة لمشروع هذا العالِـم الفيلسوف الذي عز نظيره في عالمنا المعاصر، والذي كان يمتلك بالإضافة إلى اطلاعه الكبير على كبرى النظريات السياسية الغربية، القدرة على الجمع بين عمق التربية الإيمانية الإحسانية ودقة النقد الفلسفي والأخلاقيللتصورات والمفاهيم الشائعة، ومفاتيح القومة ضد الظلم السياسي واجتثاث أركانه، لينشد نموذج الانسان المكرم من غير استغلال ولا ترذيل.

عبد السلام ياسين صاحب نظرية في التغيير، تغيير الإنسان قبل تغيير الأوطان، باعتبار مسؤولية الإنسان عن نفسه وعن الانسانية جمعاء، هذا الكائن الذي يحتاج إلى التربية الروحية والنفسية المتوازنة قبل السياسة ومعها، تربية متكاملة تؤهله للاستخلاف في العالم، ومن ثمة أسبقية الأخلاق على السياسة، فهو بالأخلاق تهذب النفس وتقاوم نزعات التسلط والتسيد.

عبد السلام ياسين “مفكر متميز وشاهد على أكبر التحولات الفكرية والسياسية والثورية للقرن العشرين” استطاع بموسوعيته المعرفية وعُدته المنهجية ووعيه العميق بالواقع أن يُكوِّن رؤية فلسفية كُلية ودقيقة في نفس الوقت،تتحدث عن الإنسان واستخلافه وعن الكون ونواميسه، وعن الحياة ومقاصد الكينونة فيها، وعن الأشياء وتسخيرها.تخاطب الفطرة والقلب والعقل خطابا قرآنيا إحيائيا جامعا،مستنهضا في الإنسان الغافل فطرته وعقله ليعرف ربه وينتبه إلى مصيره ورسالته قبل فوات الأوان.

وقد حذر الدكتور مقبول –وهو يحاول الاقتراب من موسوعية الفكر السياسي للإمام وتداخلاته، وتقديم جهوده بالموازاة مع جهود سابقيه ومعاصريه – من القراءات التجزيئية لتراث الإمام ياسين والتي تهتبر عبارات من سياقاتها أو تكتفي بنصوص دون غيرها،مقترحا قراءة استقرائية تداولية تقرأ النصوص جميعهافي تكاملها وارتباطها بسياقاتها التاريخية والموضوعية المختلفة. و”ذلك لأن القراءة التي تتولى النظر في فكر الإمام على أنه أفكار مجزأة وقِطع ممزقة يسهل الطريق أمام توظيف تلك النصوص توظيفا سيئا”.

ففي الفصل الأول الذي عنونه بـ”التأسيس المنهاجي للفعل السياسي” يبرز معالم الحكمة والاستبصار التي تمثلها الإمام ياسين وهو يُحكم التربية في السياسة كي تتلبس بها في إقامة عمران أخوي راشد، يكون فيه الإنسان حرا ومسؤولا في العاجل والآجل عن تدبير عمل جوارحه وبيته ومدينته والعالم من حوله، تلك هي السياسة بمعناها المركب؛ المقصدي والتحريري والتدافعي، والتي تنطلق من تربية الفرد إلى تنشئة الجماعة فبناء الأمة والإنسانية، ليكون الكائن الآدمي بطينته وروحانيته مسؤولا مسؤولية “نابعة من سيادته وحريته، وممتدة من دنياه إلى آخرته، في إطار المصالح الثلاث الكبرى: الحكمة والعدل والمصلحة، متوخيا الإبداع والإصلاح والإيمان، محترسا من السقوط في مهاوي حريق السياسة اليومية التي تتعب وتستغفل وتلقي الإنسان المستخلف بلا معنى، وتفصل حداثة العقل عن حداثة الإيمان الجامعة بين تدبير الواقع وحسن عمرانه وبين استشراف المصير وحسن انتظاره.

وقد بين الدكتور مقبول أن الإمام ياسين لم يغفل عن استحضار ما يحتاجه أمر التحرير والإصلاح من تعبئة للطاقات الإيمانية والعلمية وإعداد للعدة الاستراتيجية قصد النهوض بأعباء البناء الجماعي الجامع وبالتالي الخروج من واقع الانحطاط وفقه الانكسار الذي يعاش اليوم، وعدم الاستسلام لأحلام التنظير الفوقاني المثالي الذي يُعجب العقول ولا ينجز الوقائع، رغم ما فعله التاريخ بالعقل المسلم ولا يزال.

أما في الفصل الثاني فقد عالج فيه موضوع “الأصول النظرية والعملية للفلسفة المنهاجية في السياسة” التي تُخرج الناس من الاستبداد إلى العدل، مؤكدا أن الإمام رحمه الله أعاد الاعتبار نظريا وعمليا لمبدأ الوصل بين الدين والسياسة، أو بين الدعوة والدولة، وجعل الأخلاق الإيمانية حاكمة للأفعال السياسية في تدبير المصالح المشتركة، وجعل العقل خادما للوحي و”التوعية السياسية في ركاب الدين”، وليس خروجا عن شريعة الأمر والنهي في إطار مواطنة حقيقية تؤمن بأولوية القيم الجامعة ومرجعيتها في ضمان الحقوق وفرض الواجبات وتنظيم العلاقات أفقيا وعموديا، داخل الدولة الوطنية ومع العالم بأديانه ومذاهبه وأنظمته ومصالحه، من غير التفات عن المعنى في كل فعل وترك قد تجرفنا إليه سطحية تربيتنا الإيمانية، أو تشكك في الغاية الاستخلافية الكبرى على منهاج النبوة التي نخرج من خلالها من “زمن نفسي وروحي إلى زمن نفسي وروحي جديد “، وهي البشارة التي تختلف عن مختلف “التنبؤات” الوهمية والخرافية في التاريخ، وقد فصل الكاتب في إشكالية الخلافة التي يقصدها الإمام تفصيلا يراجع في متن التأليف.

في الفصل الثالث والمعنون بـ”النقد المنهاجي للفكر السياسي قديما وحديثا” استطاع الدكتور مقبول أن يبرز بوضوح وجوه نقد عبد السلام ياسين للفلسفة السياسية الإسلامية قديما وحديثا بتجزيئيتها وتبريريتها ودوغمائيتها وباقي أمراضها المركبة، ولغير الإسلامية أيضا المشبعة بقيم الاستكبار والعنصرية والغطرسة وغيرها من أمراض حداثة متخمة، مما يظهر اطلاع الإمام ياسين الواسع على التجارب التاريخية والحالية وقدرته على توجيه ملاحظاته النقدية بعمق إلى جذور المشكلات الفلسفية للإنسان المعاصر، قارئا ناقدا لماركس وفرويد ونيتشه وكونت وكانط وهيجل وسبنسر ودوركهايم وفيبر وغرامشي وغيرهم من رواد التربية المضادة كما يسميهم أحيانا، ومراجعا لكبرى النظريات الفلسفية التي تسهم في ترذيل الإنسان وتسويغ دوابيته، متخلصا من آفات الانبهار بالغير التي وقعت فيه نخبة معتبرة من المثقفين العرب.

لينتقل الأستاذ مقبول إلى الفصل الرابع بانسجام مع ما سبق إلى “فاعلية السلطة والمجتمع من خلال الشورى والمناصحة”، ليبين روح الفعل والمشاركة المجتمعية في دولة المواطنة المسلمة من خلال تجسيد روح وقيم الشورى بمعناها القرآني والمنصاحة المتبادلة بين الجميع في تدبير وتسيير الحياة الجماعية وتنظيم مصالحها بما يحقق العدل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مقارنا بين مساق الديمقراطية الغربية مفرقا بين مزاياها ومفاسدها، وسياق الشورى الإسلامية -وهي ركن من أركان الحكم- بمزاياها وعيوب ادعاء تطبيقها، وحاجتها إلى قيم النصيحة بمعناها الشامل الذي يفيد التواضع والتعاون والوحدة واحترام الآخر والمسؤولية والتقويم واقتران الحقوق بالواجبات والإخلاص بالمساواة والكرامة بحب الوطن والتنمية بالخدمة… معرجا على دلالاتها النبوية في حديث “الدين النصيحة “المشهور.

أما الفصل الخامس فقد خصه لموضوع التغيير عند الأستاذ عبد السلام ياسين، وسمه بـ:”التغيير المنهاجي الأسس والمنطلقات” ليبسط من خلاله مفهوم التغيير في الفكر المنهاجي وموضوعه وخصائصه ومقاصده وقوانينه وعوائقه ومحاذيره. وعلاقة المفهوم مع مجموعة من المفاهيم الأخرى التي تنسج حبل التفكير المنهاجي. وبهذا الصدد تظهر كفاءة الكاتب في نقد التصورات الفلسفية والإديولوجية التي تقلب الحقائق وتسحر أعين الناس وتسترهبهم بمقولات تاريخية صُنعت عنوة في بساط الملوك لتبرير واقع مقلوب قوامه السيف والحيف. مستحضرا مداخل الإصلاح الحقيقي للوضع المتأزم الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم عبر تعليم الأمة العلم النافع، وتجنيدها بالقوة المعنوية والمادية اللازمة للنهوض، وتحريرها من ربقة الاستبداد والظلم القروني، لتنعتق وتبني نموذجها الوحدوي من ذاتها غير قابعة ولا تابعة، ومن غير فتنة ولا عنف.

وفي الفصل السادس خاض في موضوع الحُكم عند الإمام ياسين والقضايا المتصلة به من حيث الأشكال أو المضامين، بدء بشكل الدولة “دولة القرآن” ومضمونها، منتقدا التصورات المستعجلة التي لم تكلف نفسها عناء البحث المعمق في النظرية المنهاجية للأستاذ ياسين من خلال الاطلاع على كتبه التي تناولت الموضوع وهي بالعشرات، مكتفية هاته التصورات بمطالعات تجزيئية سطحية. فدولة القرآن سبق الحديث عنها كثير من المفكرين المسلمين منهم في زمننا المعاصر حسن البنا ومحمد أبو زهرة ومحمد أسد ومناع القطان، وهي ليست سوى النقيض لدولة الفساد والاستبداد، دولة مدنية قوامها كليات ثلاث لا تختلف في روحها الأمم وهي: العدل والشورى والإحسان، والطاعة فيها واجبة لأولياء الأمور بالمعروف على شرطي الاختيار وفي إطار كليات الشريعة. والغاية من قيامها هي حفظ الحقوق وتوفير أسباب الخير والأمن الجماعي للمواطنين، ولا يتحقق ذلك إلا في إطار نظام قوي وعادل قوامه العمل المؤسساتي الذي يعكس الإرادة والإدارة التشاركية من منهجية ولحظة وضع الدستور إلى تقويم مختلف السياسيات العمومية، ولا يخاف من الحرية لأنها “الحصن الوحيد لحقوق الشعب” كما يقول كانط.

هذا التصور يجعل من الدولة إمكانا مثاليا متعاليا، غير أن الكاتب كان واعيا بمختلف الإكراهات المتلبسة بمفهوم “دولة القرآن”، فسعى إلى كشف محاذيرها التاريخية والمحتملة في المستقبل، وحدودها الواقعية، وإمكانات نجاحها بمعالجة جذور فساد الدولة الجبرية أو الدولة المستبدة ثيوقراطية كانت أو غيرها، تجد ذلك مفصلا في فقرة مطولة تتحدث عن جميع الاحتياطات اللازمة لضمان عدم انحراف الدولة عن غائيتها، انطلاقا من فصل عمودي بين حقلين يصنعان القرار في دولة القرآن هما حقل الدعوة (وازع القرآن) وحقل الدولة (وازع السلطان)، وهما يدان لجسد واحد. وفي هذا الفصل تحدث مقبول عن روح الدولة من جهة وعن وضوابطها القانونية والمجتمعية والسياسية…وفصل المقال في كثير من الإشكالات من قبيل: الحزبية والتعددية، والعلمانية والمجتمع المدني، والفصل بين السلط،والصحافة والرقابة، وتمريض المراحل الانتقالية للشعوب، والميثاق الإسلامي والوطني…ليخلص في النهاية إلى أن دولة الإسلام هي دولة الإنسان.

الفصل السابع والأخير خصه الكاتب للحدث عن وجه من وجوه عالمية الخطاب المنهاجي واتساع أفق الأستاذ ياسين وهو ينبه الإنسان إلى طريق سعادته في الدارين، هذا الوجه هو الفعل السياسي وانفتاحه على المشترك الإنساني،والذي يدخل ضمن سماه الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي بـ”الثقافة المناضلة” وسط ضجيج العالم الرأسمالي الجشع الذي لا يكترث لمعاناة الإنسان وغفلته. لذلك يدعو الإمام العالـمَ المتعقل إلى حفظ كرامة الإنسان وصونها من التنويم والتذويب بلغة ألتوسير، عبر البحث عن المشترك الإنساني وتنميته والعمل بمقتضاه، فلا جدوى من النداءات الأحادية المنغلقة على ذاتها المتعالية على غيرها، ما لم تنفتح على هذا الغير وتتعاون معه في إطار القواسم المشتركة الكبرى من أجل بناء حضارة العمران الأخوي التي تستوعب الجميع في أخوة إنسانية متعايشة متضامنة.على النقيض من حضارة ليبرالية لا أخلاقية تميز بين إنسانيتين غير متساويتين بشكل يفضح نوابا الكيانات الأممية التي تدعي ضمان الحقوق للإنسان بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه ولونه، وهي توجه وتمول انتهاك الحقوق الأساسية للإنسان “المقهور”. لهذا تحتاج الإنسانية اليوم إلى أخلاق كوكبية تجديدية مستندة إلى المرجعية القرآنية الكونية، ذلك أن “الدين الإسلامي بموجب خاتميته ينزل آخر طور من أطوار التخليق بواسطة التوحيد” كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتابه سؤال العمل.

ليختم الدكتور مقبول سفره الناذر بالحديث عن عمق رجلٍ ناذرٍ وعن شجاعة عالم في الحق، وعن خوض تجربة طويلة في الجهاد التربوي والعلمي والأخلاقي والسياسي، ظل متمسكا فيها بالمنهاج القرآني النبوي لا يحيد عن مشروعه التربوي التغييري، لا يتوانى ولا يتراجع مهما كلفه ذلك من ثمن، رسم خطة استراتيجية تجديدية تشق طريقها الإحيائي وسط الإيديولوجيات والتأويلات والمذاهب، باجتهاد منهاجي جامع، فكان مستوعبا لتراثه وزمانه وظروفه، معالجا لأقضياته التاريخية العويصة، ومجيبا بشكل متحررعن أسئلة هذا الزمان وما تستشرفه الأمة في مستقبل الأزمان، فاستحق أن يكون “مجدد هذا القرن ورافع لواء نهضته” رحمه الله.

تطوان 10 صفر الخير 1438 10نونبر 2016


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

اترك رد