الجيش والسياسة والسلطة في أفريقيا

المقدمة :
شهدت العقود الأخيرة نوعا من الاستقرار النسبي أو الانتقال السلمي الشكلي للسلطة في إفريقيا وخاصة في الدول التي كانت مسرحا تقليديا للانقلابات العسكرية المتتالية في عقدي الخمسينيات والستينيات ، ويبدو النظام الرسمي العربي او الإفريقي محكوما بنوعين من الملكية مهما تنوعت التسميّات: الملكية التقليدية للأسر الحاكمة والملكية العسكرية للأنظمة التي تطلق على نفسها غالبا لقب جمهورية. و لكن غياب حدوث الانقلابات العسكرية لم يرافقه تراجع في سيطرة العسكريين على زمام الحكم في معظم الدول الإفريقية ، حيث يتربع على السلطة عسكريون أفرزتهم المؤسسة العسكرية نفسها، أو أغدقت عليهم بالتراضي رتبا عسكرية رفيعة بالإضافة إلى الجمع بين منصب الرئاسة والقيادة العليا للقوات المسلحة.

وفي العديد من “الملكيات العسكرية” تم إضفاء الطابع المدني والشرعي على استمرار العسكريين في السلطة عبر إجراء الاستفتاءات أو الانتخابات التي تجري بطريقة لا تسمح عمليا بحدوث منافسة للحاكم المرشح الأوحد وتجاوز القوانين والدستور من خلال تجديد العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية التي تجعل محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية المرجعية المهيمنة للبت في القضايا المدنية و الجزائية بحجة أنها تمس أمن الدولة.
لقد تحول الجيش في معظم الدول الإفريقية إلى العنصر الحاسم في ضمان استمرار الحكم و أصبحت مهمته الرئيسية أمنية داخلية كرديف قوي للأجهزة الأمنية الداخلية الأخرى و تزايدت الحالات التي يتم فيها الاعتماد على الجيش في مهمات الأمن الداخلي لدرجة أن طبيعة تدريبه واختيار ثكناته و تمركز تشكيلاته مرهون بالهواجس الأمنية الداخلية وليس لهواجس المخاطر الخارجية.

أولا : عوامل ساهمت في غياب الانقلابات العسكرية

يبدو السؤال المنطقي و المشروع طرحه هنا لماذا غابت الانقلابات العسكرية عن المسرح السياسي العربي او الإفريقي لفترة طويلة .وكي لا نقع في التعميم المخل هناك حالات من الانقلاب العسكري المباشر وغير المباشر قد جرت في عدة بلدان افريقية في الفترة الماضية رغم أنها لم تحمل برمتها الطابع الكلاسيكي للانقلابات وتجدر الإشارة هنا إلى ما جرى في السودان ودون أن ننسى ما تردد من أنباء عن محاولات فاشلة أخرى كتشاد، ويبقى الاتجاه الغالب في الساحة الإفريقية هو استقرار الأنظمة التي نشأت في أحضان الانقلابات العسكرية.
يبدو أن الأنظمة الرئاسية (العسكرية أصلا) تمكنت من إتقان فنون البقاء في السلطة و منع الانقلابات عليها بتضافر عوامل عديدة أبرزها:

  • تكوين ميليشياتها الخاصة ، وربطها بشبكة من العلاقات العائلية أو القبلية و منحها صلاحيات واسعة لحماية النظام مما جعلها عنصر موازنة مع الجيش الرسمي الذي تمسكه بيد من حديد عبر المغريات لكبار الضباط أو الترقيات والإقالات.
  • في ظل غياب السعي الجدي لبناء مؤسسات المجتمع المدني ، تحولت المؤسسة العسكرية إلى أهم قطاعات الدولة وأوسعها حجما، والمتلقي للقسط الرئيسي من الميزانية السنوية للإنفاق الحكومي. ورعت السلطة أفراد المؤسسة العسكرية عبر الإنفاق غير العادي بمنح الزيادات المتكررة في الرواتب وتقديم التعويضات والخدمات وتسهيلات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية والسكنية وغيرها من المنافع التي ربطت الأفراد وعائلاتهم وجيش المتقاعدين في شبكة المصالح المشتركة، وهكذا تحولت الدولة إلى دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية والاقتصادية للقوات المسلحة ومتقاعديها الذين يضمنون منافعهم مدى الحياة طالما أن النظام قادر على توفيرها وفي المقابل يضمن النظام ولاءهم.
  • إن عدم انخراط المؤسسة العسكرية في معارك وطنية ضد العدو الخارجي حوّل النخبة العسكرية إلى مجموعة من الموظفين الإداريين بعيدين عن الاحتراف العسكري وإتقان العلوم العسكرية وفنون القتال وإدارة المعارك وحال دون بروز قيادات عسكرية تتمتع عبر خبرتها الميدانية في الصراع بمكانة خاصة لتكون رموزا وطنية تتجاوز بسمعتها وشعبيتها دائرة السلطة الحاكمة وتستجيب للعقلية الشعبية التي تتوق الي الالتفاف حول أبطال وطنيين قادرين على كسر الطوق المحكم حول الاستئثار بالسلطة وتحفزهم على القيام بحركة إنقاذ داخلي.
  • واقع التجربة المريرة التي عانتها الحركات والأحزاب السياسية، التي استلمت السلطة عبر جناحها العسكري الحزبي، والتي وجدت نفسها ملحقة به ومهمشة، مما جعلها تتراجع عن مجرد التفكير بالعمل الحزبي داخل القوات المسلحة. كما تعلمت ذلك الأحزاب و الحركات السياسية الثورية الأخرى، وأحجمت أيضا عن توخي العمل مع العسكريين عبر الانقلابات العسكرية، من أجل إحداث التغيير المنشود. يضاف إلى ذلك تراجع العمل الحزبي المنظم في الساحة الإفريقية نتيجة الهزائم المتكررة التي عانت منها فصائل حركة التحرر العربي والإفريقي بتياراتها المختلفة.
  • مصادرة الحياة السياسية و الفكرية والثقافية عمليا من قبل أنظمة الحكم وتطويع الحركات السياسية المعارضة والسماح لتيارات منها بالدخول إلى البرلمانات طالما أنها تشكل أقلية غير فاعلة وتضفي على الحكم طابعا ديمقراطيا شكليا.
  • انعدام الحاجة لدى الأطراف الخارجية الدولية بالتخطيط أو العمل على إحداث انقلابات عسكرية كوسيلة مفضلة للإتيان بأنظمة حكم متعاونة أو تابعة لها. إذ أن التحولات الدولية والإقليمية أسهمت في جعل العديد من أنظمة الحكم في العالم العربي وأفريقيا تتعاون بصورة طوعية معها. وتضمن عدم تعرض مصالحها للخطر.

ثانيا : دور المؤسسة العسكرية في الدولة الحديثة

هناك انطباع شائع وخاطئ باستقلالية وحياد المؤسسة العسكرية عن السلطة والنظام السياسي في الدول الغربية الحديثة. ويساهم في تعزيز هذا الانطباع ترسخ مؤسسات المجتمع المدني في هذه الدول وانحسار دور الزعماء العسكريين الذين تبوءوا السلطة في العديد من الدول الغربية الرئيسية بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن بإلقاء نظرة فاحصة على هذه الدول يتبين لنا أنها تشهد تدخلا واضحا ونفوذا متزايدا من قبل القوات المسلحة في السلطة السياسية بصورة مباشرة أو عبر ممثليها أو حلفائها في المجمع الصناعي الحربي الذي يحتل مرتبة الصدارة في توجيه الإستراتيجية العالمية لهذه الدول فالولايات المتحدة الأمريكية مثال واضح على تعاظم دور ونفوذ المجمع الصناعي الحربي في تعزيز اتجاه إدارة بوش الجمهورية لضمان التفوق العسكري الأمريكي المطلق للولايات المتحدة وفرض الهيمنة والسيطرة على العالم. لقد أتقن العسكريون وحلفاؤهم السياسيون في العالم الغربي الصناعي اللعبة السياسية الداخلية لدرجة لا يحتاجون معها للقبض على زمام السلطة السياسية مباشرة وبصورة مكشوفة، ويفضلون البقاء وراء الستار وخلف الواجهة المدنية التي تتحرك وفقا لمشيئتهم.
ولقد أصبح الكونغرس الأمريكي مضربا للمثل في الارتهان لإرادة المجمع الصناعي الحربي عندما يصوت لزيادة الميزانية العسكرية بصورة دائمة ويضيف عليها اعتمادات جديدة تتجاوز ما يقترحه العسكريون.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد