ابن خلدون ونقد أوهام التاريخ والمؤرخين .. د. قاسم المحبشي

د. قاسم المحبشي: جامعة عدن- كلية الآداب، قسم الفلسفة

حينما نقارن بين المنهج النقدي الخلدوني ومنهج الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون 1561- 1626م، وفيلسوف التاريخ الإيطالي جيوفاني باتيستافيكو 1668- 1774م، إذ حاول الأخير في نقده لأوهام المؤرخين في كتابه ” العلم الجديد والطبيعة المشتركة للأمم” تطبيق منهج بيكون في نقد أوهام المعرفة نجد أن ما حققه ابن خلدون بالمقارنة مع ما تم إنجازه في أوروبا على يد هذين الفيلسوفين بعد قرابة ثلاثة قرون من الزمن، نرى كم كان ابن خلدون عظيماً وجديراً بأن يوصف بأنه صاحب أول ثورة منهجية في الدراسات التاريخية.
إننا نغمط ابن خلدون حقه حينما نتناول منهجه النقدي التاريخي بالدرس ولتحليل ونمر مرور الكرام على طبيعة ذلك النقد الذي وجهه للمؤرخين، لقد دأب الدارسون العرب والأجانب على تبسيط الثورة المنهجية الخلدونية بالنظر اليها بأنها مجرد نقد ” عيوب” أو ” أخطاء” أو ” اغاليط” أو ” هفوات” أو ” هنات” أو ” مثالي” أو ” نواقص” إلى غير ذلك من النعوت التي ننعت بها النقد الخلدوني للمعرفة التاريخية وللمؤرخين، والتي توحي في مدلولاتها المفهومية بالتقليل من شأن ما أنجزه ابن خلدون ، ولعل ذلك هو ما حفزنا إلى استخدم لفظ ” الأوهام” بدلاً من الأخطاء و العيوب، إذ أننا بعد فحصنا الدقيق لطبيعة الثورة المنهجية التي أحدثها الإنجليزي فرنسيس بيكون الذي اشتهر اكثر ما اشتهر بنقده للأوهام الأربعة الشهيرة: بهم الكهف ووهم القبيلة ووهم السوق ووهم المسرح، وكذا شهرة الإيطالي فيكو بنقده لأوهام المؤرخين، وجدنا أنه من غير الإنصاف النظر إلى ابن خلدون بعده ليس سوى ناقد لأخطاء المؤرخين العرب المسلمين فقط، و هذا الموقف لا يعني بأي حال من الأحوال إننا من هواة التشبه بالغرب، بل إن موقفنا هذا يجد كامل مبرراته في طبيعة الإنجاز النقدي المنهجي الذي حققه ابن خلدون ذاته كما لاحظنا في دراستنا لنقده أوهام المؤرخين الذي لم تكن أوهام بيكون وفيكو إلا نسخة باهته منها.
إننا نسمي نقد ابن خلدون للمؤرخين نقد الأوهام لأننا وجدناه في نقده لا يقتصر على نقد الأخطاء أو الهفوات التي وقع بها هذا المؤرخ أو ذاك، بل ينقد أوهام العقل وأوهام النفس الإنسانية التي هي من حيث طبيعتها البشرية الناقصة دائماً ما تكون عرضة للأوهام والخرافات والأخطاء بحكم الطبيعة لا بسبب القصور المنهجي فحسب، فالأوهام جزء من كينونة الإنسان، بل أن الحياة الإنسانية مستحيلة من دون الأوهام، فالناس يعيشون على الأوهام كما يعيشون على الماء والهواء.
و يحدد ابن خلدون في نقده لأوهام المؤرخين أسباب هذه الأوهام فيعدها طبيعة متأصلة في النفس البشرية لا في أذهان المؤرخين فقط، إذ يرى أن الناس محكومون بعاداتهم ومالوفاتهم وبشروط حياتهم في بيئتهم الضيقة المحدودة ومن ثم فإن تصوراتهم لا تخرج عن نطاق مألوفهم وعوائدهم ويصعب عليهم تصور ما ليس مألوفاً لديهم إلا بالقياس على المألوف، كما لاحظنا أنفاً في قصة ” الولد المسجون” الذي تصور الغنم مثل الفأر” وهذا هو ما عرفه أفلاطون بالكهف، وهذا هو ما سوف يطلق عليه بيكون وهم الكهف.
و في ذلك كتب ابن خلدون ” والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضيين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الاختلاف بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط” .
هكذا إذن يعد ابن خلدون واحداً من الأساطين الكبار الذين خرجوا من الكهف وأولهم أفلاطون وبعده أبو حامد الغزالي وابن طفيل، وبيكون وديكارت وهيوم وكانط في العصر الحديث.
لقد أدرك ابن خلدون أن الإنسان من حيث هو مدني بالطبع رهين المحبسين، محبس طبيعته المتناقضة المزدوجة الجسدية والروحية، الغريزية والعقلية، الحيوانية والبشرية، التي منها أنه يحب ويكره، ويفرح ويحزن ويهدأ ويغضب ويجوع ويشبع ويقاتل ويسالم ويأمن ويفكر ويخضع ويتمرد وينام ويصحو ويعمل ويكسل ويعادي ويصالح ويجشع ويقنع ويخون ويوفي …الخ، ومحبس أحواله الاجتماعية السياسية الاقتصادية الأخلاقية التاريخية التي تشرط وجوده وتقيده بقيودها الضرورية الأسرية العصبية المعيشية المذهبية ..الخ، التي لا يستطيع الفكاك منها. في ضؤ هذا الأفق النقدي العقلاني الرحب ينبغي لنا النظر إلى نقد ابن خلدون لأوهام المؤرخين.
إذ مهد في نقده للأخطاء بنقد منهجي للمعرفة الإنسانية برمتها من خلال فحصه لقيمة أخلاقية متأصلة في الجبلة البشرية وهي ” الكذب ” بقوله إن الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب منها:
1- التعصب للآراء والمذاهب، فان النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حصته من تمحيص النظر حتى يتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحله قبلت ما يوافقه من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله، وهذا هو ما نسميه اليوم بالتعمية الإيديولوجية.
واضح أن ابن خلدون هنا لا يبحث في الكذب من حيث هو قيمة أخلاقية مذمومة، بل يفحص شروط إنتاج الكذب وأسبابه اللا شعورية، إذ إن الناس يكذبون ليس بإرادتهم بل لا يعرفون بأنهم يكذبون وربما اعتقدوا بأنهم يقولون الحقيقة، أليس مثل هذا النقد هو ما صنع شهرة كارل ماركس في نقده للأيديولوجيا الألمانية.
2- من أسباب الكذب في الأخبار الثقة بالناقلين، وتوهم الصدق الذي يعود إلى شهرة المنقول عنهم وذيوع صيتهم بوصفهم مؤرخين كباراً ومفكرين تربعوا على مسرح التراث والتاريخ رموزاً موثوقة، وهذا ما يسميه بيكون وهم المسرح.
3- الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والاختلاف فينقلها المخبر كما رآها وهي ما يصنع على غير الحق في نفسه.
4- تقرب الناس إلى أصحاب السلطة والسلطان بالثناء والمدح بهدف الكسب والجاه والحضوة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من حياة أو ثروة و شهرة أو سلطة أو جاه.
5- حب الناس للغرائب والخرافات والمستحيلات من أخبار الجن والشياطين والكائنات الخرافية والأساطير التي تستهوي الناس لما فيها من سمة غرائبية وتشبع فيهم نزوع نفسي لا يقاوم.
6- قياس الماضي على الحاضر قياساً مطلقاً، اعتقاداً منهم بان الماضي لا يختلف عن الحاضر الذي يعيشونه.
7- أهم الأسباب هو لجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحوال، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا ابلغ في التمحيص من كل وجه يعرض .
هذه هي الأسباب التي رصدها ابن خلدون ليكشف فيها الأوهام التي تكتنف المعرفة عامة والمعرفة التاريخية تحديداً.
كما هو واضح لم يبحث ابن خلدون في أخطاء أو هفوات وقع فيها المؤرخون عرضياً أو بسبب قصور مناهجهم أو تعمدوها بوعي منهم، بل جاء نقده جذرياً في شروط إنتاج المعرفة التاريخية وما يكتنفها من أوهام وأباطيل يصعب التحرر منها، بدون امتلاك منهج نقدي عقلاني قادرً على دراسة الظاهرة التاريخية في بنيتها الشمولية وصيرورتها المتغيرة وقواها المحركة وقوانينها الطبيعية الضرورية الثابتة و المتحولة، و الجوهرية و العرضية.
ومن هنا يجب القول: إن النقد عند ابن خلدون ليس لحظة عابرة في منهجه أو ضرورة إجرائية للشروع بعمله، بل هو النواة الجوهرية في منهجه، أنه البعد الثوري في مجمل النسق الفكري الخلدوني الذي يشتمل على ثلاث حركات متضايفة من حركات الوعي: حركة الوعي بالذات وحركة الوعي بالمجتمع وحركة الوعي بالتاريخ، وليس هناك من بديل عن المنهج النقدي التاريخي لمن أراد أن يفهم التاريخ. و قواه التي هي الثقافة و الحضارة و المدنية.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد