هل العلماء خبراء للأمراء؟ أم ورثة للأنبياء؟

* أستاذ التعليم العالي بجامعة سايس فاس، المغرب
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

إن العلماء هم القيادة الفكرية والتربوية والدعوية للأمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء كانوا قادة الأمم، ورّثوا العلم النافع بمفهومه الجامع، وهم ضمير الشعب الذي يوجه ويسدد ويرشد.

والعلماء أمناء الله على خلقه، تكمن مهمتهم في تربية الأجيال وتعليمهم الدين والقِيم، وتَبَيُّنِ الحق وتبيينه للناس وميزه عن الباطل، وتمثلِ انتظارات الأمة وتمييز ما هو صالح لها مما هو مندرج ضمن المفاسد، وتعبةِ الناس وراء الصالحين والمصلحين، ووراء حركات التغيير السِّلْمية الداعية إلى إلغاء الفساد والاستبداد بكل أشكاله وأنواعه : السياسي والأخلاقي والإداري والمالي..، والوقوف مع المستضعفين والمظلومين والمحرومين بالكلمة والموقف، والدعوةِ إلى إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط.

والعلماء قبل هذا وبعده هم من الشعب، يألمون كما يألم الشعب، ويتحسرون على ما تؤول إليه حال الأمة من فساد وتلاش كما يتحسر الشعب، لكن حدودهم لا تقف عند التألم والحسرة، بل تتعداه إلى الإسهام في التغيير باللسان والقلم والحضور الفاعل في المجتمع مع الناس.

إن مطالب حركات التغيير التي تعرفها عدد من دول العالم العربي الإسلامي ومنها المغرب، كان ينبغي للعلماء النظر فيها وتسديدها وترشيدها، ثم إسنادها ودعمها، إذ معظم هذه المطالب تدعو إلى تحقيق العدل والكرامة والحرية والمساواة، وإلى إلغاء احتكار السلطة والمال، وهذا لب ما يدعو إليه الإسلام وباقي الشرائع، بحيث لا يستقيم نظام الدنيا بوجود اختلالات في هذه الأمور بَلْه انعدامها.

لكن حينما يقف العالم ضد تيار التغيير وحركاته، ويثبط همم الناس بدعوى سد الذرائع، واتقاء الفتنة، والمحافظة على “بيضة الدين”، وعلى الثوابت واختيارات الدولة، ويقر بأن “الحالة السياسية والحقوقية حالة متميزة” بالمغرب مثلا، تطيينا لعين الشمس، فإن مثل هذه المواقف تجعل العلماء بعيدين عن مجتمعهم، وتؤدي لا محالة إلى تنكب الناس سبيلهم.

إن المفروض في مؤسسة العلماء أن تمارس رقابة دائمة على الدولة ومؤسساتها، انطلاقا من وظيفتها السامية، استحسانا واستنكارا ونقدا، وتراقب اختيارات الدولة السياسية والثقافية والاقتصادية، وتنظر مدى انسجامها مع روح الشريعة ومراميها.

لكن العلماء أبعدوا عن هذه المراقبة، وحسبهم تقديم الخبرة والتولي إلى الظل، إذ الدولة لها رجالها وخباياها، والعلماء لا يفقهون السياسة وشؤون الدولة كما قيل عنهم، ذلك أن العلماء في الدولة المغربية مثلا هم “خبراء شرعيون”، وهذا ما نصت عليه فتوى المصلحة المرسلة الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى بالمغرب : “ومهمة العلماء في الدولة، هي أن يـمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع”[1]، وهم بهذا التحديد ليست لهم مزية عن غيرهم، مثلهم مثل باقي الخبراء في التخصصات الأخرى.

إنها تسوية مجافية لنصوص الوحي وكلام العلماء، فمما جاء في تفسير (أولي الأمر) الوارد في قوله تعالى : :”يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” أنهم العلماء، قال الفخر الرازي رحمه الله : “أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى”[2]. وقال أبو علي اليوسي :”العلماء هم أهل الحل والعقد؛ لأن في أيديهم أمر الشريعة ونهيها وهم حملتها، وهم خصوصا الأمناء عليها، لا تنعقد الخلافة شرعا إلا ببيعتهم، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله بمشاورتهم في الأمر، والذين لهم شرعا حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمال؛ لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة”[3].وبالتالي حق للأمة أن تفردهم بخصوصية معنوية لا تصل إلى حد إضفاء صبغة القداسة على شخصهم وآرائهم، كما كان عليه رجال الدين في أوروبا، يتصرفون انطلاقا من “نظرية الحق الإلهي”.

وما على العالم إن رأى ما لا تستسيغه عدَّتُه الـمقاصدية إلا الصبر، كما جاء في درس : “النصيحة شرط في البيعة” : “على أن حرج العلماء أمام مظاهر ممارسة الحرية التي لا تزينها الأخلاق ولا يزجرها القانون،… لا يمكن أن يخفف منه إلا التصبر على الأذى”[4].

أيّ حرية هذه حينما يتجاوز آخرون حرية غيرهم، ويطلب إلى العلماء التصبر وتغيير المنكر بالقلب، ولا يسمح لهم تغييره باللسان ولا بالقلم، مع أن مؤسسات الدولة تدعو إلى “تخليق الديمقراطية وروحنتها” و”اندماج الديمقراطية في الإسلام”، وتطلب إلى العلماء الإسهام في هذا التخليق، وهم مقيدون بأغلال الاستبداد و”دين الانقياد”.

وقد رُسخ هذا الانسحاب من الرقابة على الشأن العام أيام الحسن الثاني-رحمه الله-إذ خاطب العلماء قائلا : ” إياكم ثم إياكم الانحراف، فدروس العشاءين ليست دروسا للترهيب بل هي دروس للترغيب، ليست دروسا للسياسة، حينما أقول السياسة أقول السياسة اليومية ولا أقول سياسة التخطيط وسياسة النماء … إياكم والدخول فيما لا يعنيكم، إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان، إني أضع النقاط على الحروف أملا أن تكون جميع الصدور التي هنا حاضرة والتي ليست حاضرة من العلماء الآخرين نقية طاهرة وأن طويتها طوية طاهرة، وأن طويتها طوية العلم لا طوية اتخاذ المساجد كمنابر لدعاية منحرفة.وفيما إذا وقع لا قدر الله ما وقع فواجبنا حماية الدين يفرض علينا بأن نحمي الدين من أي شيء ومن كل شيء حتى من بعض العلماء إن اقتضى الحال”[5].


[1] -ص:20

[2] مفاتيح الغيب 5/250

[3] رسائل اليوسي 1/74

[4] -الدرس الحسني الرمضاني لسنة 1430/2008 ص: 21

[5] الكلمة الختامية للدورة الأولى للمجلس العلمي الأعلى: 18/7/1982

الآراء

اترك رد