منهجية إصلاح الكِتابْ عند المحدثين ومقارنتها بمنهجية العدول الموثقين … عبد الكريم بنـانـي

د.عبد الكريم بنـانـي: خريج دار الحديث الحسنية الرباط/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية – مكناس

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الناطق بلسان الكمال، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
يعدّ إصلاح الكتاب أو الوثيقة أمرا ضروريا إذا وقع فيهما خطأ أو سهو يستوجب الإصلاح، وقد تعامل كل من المحدثين والموثقين مع هذا الإصلاح بمنهجية علمية رصينة بيّنوا من خلالها المنهجية التي سلكوها في ذلك في إطار مصطلحات تعارفوا عليها، حتىّ يكون الكتاب أو الوثيقة العدلية في أبهى حلّة، يفيا بالغرض المطلوب، قصد الاستناد إليهما وتجنب الغش والتزوير فيهما، وهي المنهجية التي توضح العلاقة المتينة بين علمي الحديث وتوثيق العقود العدلية.
وقد تحدّث عدد من المحدّثين عن عملية إصلاح الكتاب، واستدلوا على أمر الإصلاح بما وجدوا من آثار السلف، فنجد مثلا الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى(ت463هـ) يقول في الكفاية: “قرأت في أصل كتاب هبة الله بن الحسن الطبري الذي سمعه من أحمد بن عمران بن محمد الأصبهاني عن أبي الحسن بن المنادى قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن الرجل يسمع الحديث فيسقط من كتابه الحرف مثل اللام ونحو ذلك أيصلحه؟ فقال: لابأس به أن يصلحه” ، ثم يورد أثرا أكثر توضيحا وجلاء في عملية التصحيح، فقال : أخبرنا أحمد بن محمد الروياني قال: حدثنا محمد بن العباس بن الخزاز قال: أخبرنا سليمان بن إسحاق الجلات قال: سمعت ابراهيم الحربي يقول: لزمت أحمد بن حنبل سنتين فكان إذا خرج يحدثنا يخرج معه محبرة مجلدة بجلد أحمر وقلما فإذا مر بالسقط في كتابه أصلحه تورعا أن يأخذ من محبرة أحد شيئا” وأورد شعرا للأديب يعقوب بن أحمد ينشد لنفسه بنيسابور :
كم من كتاب قد تصفحته ./. وقلت في نفسي صحّحته
ثم إذا طالعته ثانيـا ./. رأيت تصحيفا فأصلحتــه
ونفس المعطى نجده عند الموثقين الذين يفتتحون كتب الوثائق بضرورة أخذ الاحتياط في كتابتها خاصة عند كتابة الأسماء التي تقلب وتصحّف وضرورة إصلاح الوثيقة وعدم التفريط في ذلك حماية لحقوق الأفراد، ونجدهم يوردون آثارا في ذلك، فمثلا أورد الونشريسي(ت914هـ) في ” المنهج الفائق، والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق” قول القاضي أبي بكر محمد بن زرب القرطبي (ت381هـ) رحمه الله :”المحوُ والبشرُ واللحقُ في الوثائق كالحليّ لها ومن أقوى الأدلة على براءتها وتصحيحها وسلامتها من هذا ريبة فيها وشاهد على التصنع والمداخلة فيها” وقول بعضهم : “لاتضيء الوثيقة إلا بعد أن تظلم” ، أي بعد أن يظهر الخطأ ويصحح بالكيفية المتعارف عليها بينهم.
قال الونشريسي(ت914هـ) وهو يؤصّل لحكم الاعتذار عما يقع في الوثيقة:”اعلم أن الموثق يجب عليه أن يعتذر عن كل ما يقع في الوثيقة من محو أو بشر او ضرب أو لحق أو تخريج أو إقحام” .
ولأهمية المقارنة بين منهجي كتّاب الحديث النبوي الشريف وكتّاب الوثيقة العدلية لفهم التصوّر العلمي لإصلاح الكِتاب والوثيقة والوقوف على مكامن الضعف والقوة في هذا المنهج، ارتأيت أن أقسم عناصر الدراسة وَفْق ما تعارف عليه من المصطلحات المنهجية لهذا الإصلاح، وذلك في مبحثين اثنين:
الأول يتناول ما اتفق عليه المحدثون والموثقون من اصطلاحات تعتني بإصلاح الكتاب أو الوثيقة وإن اختلفت منهجية العمل بها.
والثاني يوضّح ما انفرد به كتاب الحديث النبوي الشريف من اصطلاحات تبرز خصوصيتهم في هذا المجال.
فأقول وبالله التوفيق ومنه نستمد العون والهداية
المبحث الأول: الاصطلاحات المتفق عليها بين كتاب الحديث والعدول الموثقين
ونقصد بها تلك المصطلحات التي وجدنا كتاب الحديث النبوي الشريف وكتاب الوثيقة العدلية يتحدون عنها عند تصحيحهم لبعض ما يقع في الكتاب أو الوثيقة، كاللّحَق، التضبيب، الضرب، المـحو والكِشْط، وسأخصّص لكل منها مطلبا خاصّا بها.
المطلب الأول: منهجية كتاب الحديث والموثقين من العمل بالّلحق
أ-تعريف اللّحق لغة:
اللحق لغة من لحق الشيء وألحقه وكذلك لحق به، وألحق لحاقا بالفتح أي أدركه.
قال ابن بري شاهده لأبي داوود:
ألحَقَه وهْوَ سَاطٍ بها … كما تُلْحِقُ القَوسُ سَهْمَ الغَرَبْ
قال الأزهري: واللحق ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه، فتلحق به ما سقط عنه، ويجمع ألحاقا، وإن خفف فقيل لَحْـق كان جائزا .
واللَّحَقُ أيضاً : الشيءُ الزائِدُ… واللّحَق من النّاسِ : قوْم يَلْحَقون بقَومٍ بعدَ مُضيِّهم .
غير أننا نجد المحدثين والموثقين على حد سواء يضبطون اللّحَق بالفتح ويؤكدونها كتابة بفتح الحاء .
قال الجوهري: اللحق بالتحريك شيء يلحق بالأول.
واللحق عموما: كل شيء لحق شيئا أو لحق من الحيوان والنبات وحمل النخل، قال الأزهري: يجوز أن يكون اللحق مصدرا للحق ويجوز أن يكون جمعا للاحق، كما يقال: خادم وخدم وعاس وعسس، فاللحق هو الشيء الزائد، قال ابن عيينة: كأنه بين أسطر لحق والجمع كالجمع .
ب.تعريف اللحق اصطلاحا:
بالرجوع إلى كتب مصطلح الحديث وكتب الوثائق، لا نجدهم يتحدثون عن تعريف اصطلاحي للحق، بل يتناولون المنهج المتبع في إصلاح الكتاب أو الوثيقة عمليا.
ويمكن أن نضع تعريفا لمصطلح اللحق، بناء على التصور اللغوي للمفهوم الذي يتناوله بمعنى الزيادة، والتعريف المختار: اللّحق هو الزيادة أو الاستدراك بالعبارة التي سقطت من أصل الكتاب، بتخريجه في حاشية الكتاب أو الوثيقة.
ج- كيف تعامل المحدثون والموثقون مع الّلحق:
قال أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي(ت914هـ): اللحق تخريج السقط في الحاشية، ويسمّى اللحق عند المحدثين والمُخْرج عند الموثقين .
وقال ابن كثير(ت774هـ): “وإذا سقط من السند أو المتن ما هو معلوم، فلا بأس بإلحاقه وكذلك، إذا اندرس بعض الكتاب فلا بأس بتجديده على الصواب، وقد قال الله تعالى(والله يعلم المفسد من المصلح) ” .
والأصل في اللحق: قول زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى(غير أولي الضرر) بعد نزول (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) كما في سنن أبي داوود، قال: فألحقتها .
وطريقة تخريجه على الحواشي عند المحدثين: أن يخطّ من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق، ويبدأ في الحاشية بكتابة اللحق مقابلا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين، وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له فيكتب صاعدا إلى أعلى الورقة لا نازلا به إلى أسفل .
وإنما اختير كتابة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة لئلا يظهر بعده نقص آخر فلا يوجد ما يقابله من الحاشية فارغا له لو كان كتب الأول نازلا إلى الأسفل، وإذا كتب الأول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له، ويخرجه من جهة اليمين لأنه لو أخرجه من جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدّامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال، وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال اللّهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر، فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقربه منها ولانتفاء العلة المذكورة من حيث أنا لا نخشى ظهور نقص بعده .
وقد اختار بعض المحدثين جهة اليمين من جانبي الورقة لشرفه كذلك .
أما منهج الموثقين فقد ضبطوا أمر إصلاح الوثيقة باللحق بأوّل السطر وآخره، فأول السطر تخريجه جهة اليمين وآخر السطر تخريجه جهة الشمال، ولم يتعرضوا للإشكال الذي طرحه كتاب الحديث النبوي الشريف: تخريج اللحق (جهة اليمين أو جهة الشمال) .
وإذا كان اللحق سطرين أو سطورا، فلا يبتدئ عند المحدثين بسطوره من أسفل إلى أعلى، بل يبتدئ بها من أعلى إلى أسفل بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين، وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة ، ثم إن اتفق انتهاء الهامش قبل فراغ السقط استعان بأعلى الورقة أو بأسفلها حسبما يكون اللّحق من كلا الجهتين، فهذا الإصلاح قد حسن من يفعله .
قال صاحب الألفية وهو يوضّح هذه المنهجية:
ويكتب الساقط وهو اللحق ./. حاشية إلى اليمين يلحق
ما لم يكن آخر سطر وليكن ./. لفوق والسطور أعلى فحسن
وخرّجنَ للسقط من حيث سقط ./. منعطفا له، وقيل صل بخط
وبعد الانتهاء من كتابة اللَّحق، يكتب “صح” عند المحدثين، ومنهم من يكتب مع “صح””رجع”، ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج ليؤذن باتصال الكلام، مثل أن يغفل عبارة (بن يوسف فيخرج إلى الحاشية ويكتب العبارة (بن يوسف) ويصل بها الكلمة المتابعة لها في الكلام بالسطر الذي وقع منه الإلحاق دون كتابة عبارة “صح”) وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد الرامهرمزي(ت360هـ) صاحب كتاب “الفاصل بين الراوي والواعي” من أهل المشرق مع طائفة ، أو “انتهى اللحق” كما حكاه عياض(ت544هـ) عن بعضهم أو يقتصر على رجع كما أفاده ابن حجر(ت852هـ).
قال الرامهرمزي(ت360هـ): “أجوده أن يخرج من موضعه حتى يلحق به طرف الحرف المبتدأ به من الكلمة الساقطة في الحاشية، ويكتب في الطرف الثاني حرف واحد مما يتصل به في الدفتر، ليدل أن الكلام قد انتظم” .
وقد اعترض ابن الصلاح (ت643هـ) على هذا القول ورأى أن مدّ الخط إلى الحاشية فيه تسويد الكتاب ولا سيما عند كثرة الإلحاقات، وأن كتابة الكلمة المتصلة باللّحق من المتن بعد اللحق توهم بعض الناس بتكرار الكلمة وخاصة أنه قد تجيء كلمة مكرّرة حقيقة وهو نفس اختيار القاضي عياض(ت544هـ) وابن دقيق العيد(ت702هـ) واختار العراقي (ت806هـ) الأول، فقال في الألفية:
وخرجن للسقط من حيث سقط ./. منعطفا له، وقيل صل بخط
وبعده اكتب “صح” أو “زد”رجعا” ./. أو كرر الكلمة لم تسقط معا
و(ط)ـفيه لبس ولغير الأصل ./. خرج بوسط كلمة المحل
وقد تعرضت كتب الحديث لمسألة هامة، وهي ما يخرج في الحواشي من شرح أو تنبيه على غلط أو اختلاف رواية أو نسخة أو نحو ذلك مما ليس في الأصل، فهل يخرج لها أيضا خط بين الكلمتين?
ذهب القاضي عياض(ت544هـ) إلى أنه لا يخرج لذلك خط التخريج لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل وأنه لا يخرج إلا لما من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح إيذانا به ، بينما اختار ابن الصلاح(ت643هـ) التخريج، فقال :”ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية” .
ونظم العراقي(ت806هـ) أصل الخلاف فقال:
ولعياض لا تخرج، ضبّب ./. صححن لخوف لبس وأبي
هذا عن اختيار المحدثين، بينما دقّق أهل التوثيق أكثر فقالوا: “إذا وقع في الوثيقة لحق بين سطرين فإنك تقول ( بعد التخريج وكتابة اللحق في الحاشية): وعلى السطر الثاني أو الثالث أو الرابع من البسملة (لحق كذا أو كذا) وهو صحيح من العقد، وإن كان اللحق في أول السطر أو في آخره خارجا عن طرّة الكتاب قلت: وفي السطر الثاني أو الثالث من البسملة لحق كذا وكذا وهو صحيح من العقد أو في آخر السطر الثاني من البسملة خارجا عن طرّة الوثيقة عن يسار الكتاب لحق كذا وكذا وهو صحيح منه” ، وبذلك نلحظ أن الموثقين حرصوا على توضيح السهو الذي يقع في كاتب الوثيقة بالإشارة كتابة إلى اللحق والاعتذار منه، بينما نجد المحدثين اعتنوا بجانب الاختصار في إصلاح الكتاب رغم اختلافهم في بعض التفاصيل المرتبطة بهذه المنهجية.
بقي أن نشير إلى أنهم نبهوا على أهمية الكتاب أو الوثيقة التي وقع فيها اللحق وغير ذلك، في أنها تفيد إزالة الشك والارتياب، قال القاضي أبو بكر بن يبقى بن زرب (ت381هـ) :”المحو والبِشر واللحق في الوثائق كالحلي لها، ومن أقوى الأدلة على براءتها وتصحيحها” وروى الخطيب البغدادي (ت463هـ) في جامعه عن الشافعي:”إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق فاشهد له بالصحة” ، وأنشد ابن خلاد لمحمد بن عبد الملك الزيات يصف دفترا:
وأرى وشوما في كتابك لم تدع ./. شكا لمرتاب ولا لمفكر
نقط وأشكال تلوح كأنها ./. ندب الخدوش تلوح بين الأسطر
تنبيك عن رفع الكلام وخفضه ./. والنصب فيه لحاله والمصدر
وتريك ما تعنى فبعيده ./. كقريبة ومقدما كمؤخر .
المطلب الثاني: منهجية كتاب الحديث والموثقين في التضبيب
أ-التضبيب لغة: تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض وهو كذلك شدة القبض على الشيء كيلا ينفلت من يده : يقال : ضببت عليه تضبيبا .
ب- التضبيب اصطلاحا: ويسمّى أيضا التمريض ومعناه اصطلاحا: كتابة صورة (ص) فوق الحرف الذي يشار إلى تمريضه، وهو ما صحّ وروده من جهة النقل غير أنه فاسد لفظا أو معنى أو ضعيف أو ناقص أو تكون عباراته شاذة أو ينقص من جهة الكلام كلمة أو أكثر …
ج-منهج إصلاح الكتاب أو الوثيقة بالتضبيب: اعتنى كتاب الحديث النبوي الشريف على غرار الموثقين بتوضيح صورة العمل بما فسد لفظا أو معنى مع صحّة نقله…وصورته عند المحدثين أن يمدّ على ما هذا سبيله خط أوله مثل الصاد، ولا يلزم بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا، وكأنه صاد التصحيح بمدّتها دون حائها كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها فلم يكمل عليه التصحيح وكتب حرف ناقص إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته و تنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهره له الآن، ولو غيَّر ذلك وأصلحه على ما عنده، لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه و الفساد فيما أصلحوه .
قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن التضبيب وصورته:” الضبّة وهي بعض “صح”، تكتب على شيء ليبحث فيه، فإذا تحرَّر أتمّها بالحاء فتصير صح ولو جعل لها علامة غيرها لتكلف الكِشْط لها وكتب صح مكانها ، ويجوز أن تكون معجمة كذلك من ضبة تمد بدون تجويف .
وتكتب صاد أيضا عند عطف الأسماء بعضها على بعض حيث يقال مثلا حدثنا فلان وفلان وفلان، فتوهم من لا خبرة له لكونها تضبيبا وليست بضبة، بل كأنها كما قال ابن الصلاح علامة وصل فيما بينها أثبتت تأكيدا للعطف خوفا من أن يجعل غير الخبير مكان الواو (عن) وحيث ما يختصر التصحيح بعضهم فيقتصر على الصاد يوهم أيضا كونه تضبيبا و إنما يميزه بفتح أوله في الصورتين .
ونظم العراقي فقال:
و مرَّضوا فضببوا صادا تُمد ./. فوق الذي صح وُرودا وفسد
وضببوا في القطع و الإرسال ./. وبعضهم في الأعصر الخوالي
يكتب صادا عند عطف الاسما ./. توهم تضبيبا كذاك إذما
يختصر التصحيح بعض يوهم ./. و إنما يميزه من يفهم
ومقتضى تسميتها ضبّة كما ذكره ابن الصلاح أنه لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل استعير لها اسمها ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات، ورواه عن أبي القاسم ابراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإفليلي أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها وتكتب أحيانا فوق الكلمة كذا وهي تدلّ أن ما وقع في الرواية خطأ محض كما قال ابن الجزري(ت833هـ)، ويبين الصواب بالهامش، وأحيانا يستعمل (الطاء) المهملة إشارة أن هنا غلط وهو استعمال غير شائع كثيرا عند المحدثين .
و من أمثلة التضبيب ما ذكره البغدادي (ت463هـ) في الجامع قال: “أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب قال : أخبرنا محمد ابن حميد بن سهل المخزمي حدثنا علي بن الحسين بن حيان قال : “وجدت في كتاب أبي بخطّ يده قال أبو زكرياء – يعني يحي بن معين – كان غُندَر رجلا صالحا سليم الناحية، وقد رسم الناسخ فوق الكلمتين(رجل صالح) علامتا تضبيب إشارة إلى أنه رآها هكذا لكن فيها شيء” (أي وجدت في الأصل رجل صالح).
و ما تحدثنا عنه عند المحدثين هو نفس اختيار الموثقين، لكن أطلق موثقوا عصر الونشريسي –القرن العاشر الهجري- على الضرب و الشق تمريضا واعترض عليه الونشرييسي ففرق بينهما بأن التمريض هو التضبيب ويكون على ما صح وروده من جهة النقل غير أنه فاسد لفظا أو معنى …كما تقدم .
المطلب الثالث: منهجية كتاب الحديث والموثقين في الضرب والمحو والكِشْط
أ-الضرب أو الحك: إذا وقع في الكتاب ما ليس منه، فإنه ينفى عنه بالضرب أو الحك أو المحو أو غير ذلك والضرب خير من الحك والمحو، رواه ابن الصلاح عن القاضي أبي محمد بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله بقوله: قال أصحابنا: الحك تهمة والحك في اللسان هو إمرار جِرم على جِرم صكَّا، قال الأصعمي دخل أعرابي البصرة فأذاه البراغيث فأنشأ يقول: “ليلة حك ليس فيها سك أحك حتى ساعدي منفك أسهرني الأسيود الأسك” .
وقد اختار أهل الصنعة من كتاب الحديث والنساخ الضرب لوجهين : أحدهما أن الحك يضعف الكتاب والثاني أنه يوهم فإذا ضرب عليه يفهم المكتوب ويسلم صاحب الكتاب من التهمة ولكون الضرب علامة بيّنة في إلغاء المضروب عليه، جاء في الجامع للخطيب البغدادي من طريق عبيد الله بن المعتز أنه قال: “من قرأ سطرا ضرب عليه من كتاب فقد خان لأن الخطأ يجزه ما تحته” .
وقد اختلف في كيفية الضرب على خمسة أقوال :
أولها ما ذكره الرامهرمزي (ت360هـ) قال : أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه بل يخط من فوقه خطا جيدا يدلّ على إبطاله ويقرأ من تحته ما خط عليه(هكذا فلان)، وهذا القول حكاه القاضي عياض (ت544) أيضا عن الأكثرين واختار فيه أن يكون الخط مختلطا بالكلمات المضروب عليها وهو الذي يسمى الضرب و الشق (هكذا فلان)، و أطلق موثقوا عصر الونشريسي على هذه المنهجية: التمريض ، فيكتبون بعد الضرب ومد الخط به ممرضا عليه كذا .
و القول الثاني : أن لا يخلط بأوائل الكلمات بل يكون فوقها منفصلا عنها لكنه يعطف طرفي الخطأ على أوائل المبطل و آخره، حكاه القاضي عياض عن بعضهم .
و القول الثالث : أن يكتب في أول الزائد (لا) و في آخره ( إلى) (هكذا لا فلان إلى).
والقول الرابع : أن يحوّق في أول الكلام الزائد بنصف دائرة و على آخره بنصف دائرة (هكذا (فلان)).
القول الخامس: أن يكتب في أول الزيادة دائرة صغيرة وكذلك في آخرها دائرة صغيرة (هكذا 0فلان0) حكاه القاضي عياض عن بعض الشيوخ المحسنين لكتبهم، قال: ويسمّيها صفرا كما يسمّيها أهل الحساب ومعناها خلوّ موضعها من عدد كذلك هنا تشعر بخلو ما بينهما من صحة .
وإذا كثرت سطور الزائد يجعل علامة الإبطال في أول كل سطر وآخره للبيان أو ربما اكتفى بالتحويق على أول الكلام وآخره، ….وهذا كله فيما إذا كان الزائد غير مكرر فإن كان حرفا تكررت كتابته فالذي روي عن الرامهرمزي أن أولاهما بأن يبطل الثاني لأن الأول كتب على صواب والثاني كتب على خطأ، فالخطأ أولى بالإبطال ، بينما اختار القاضي عياض التفصيل في الأمر، فإن كان تكراره في أول سطر يضرب على الثاني صيانة لأول السطر من التسويد والتشويه، وإن كان في آخر سطر فيضرب على أولهما صيانة لآخر السطر، فإن سلامة أوائل السطور وأواخرها من ذلك أولى، فإن اتفق أحدهما في آخر سطر والآخر في أول سطر فليضرب على الذي في آخر السطر فإن أول السطر أولى بالمراعاة، فإن كان التكرار في المضاف أو المضاف إليه، أو في الصفة أو في الموصوف أو نحو ذلك لم نراعي حينئذ أول سطر وآخره بل نراعي الاتصال بين المضاف والمضاف إليه ونحوهما في الخط فلا يفصل بالضرب بينهما ويضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط .
أما في عرف الموثقين فيسمى الضرب على الحرف المكرر: التمريض، حكاه الونشريسي ، وفصّل ما جاء عن عن الرامهرمزي والقاضي عياض من العمل في ذلك، ليتضح منه استفادة أهل التوثيق من منهجية المحدثين والعمل بها في إصلاح الوثيقة.
ب-المحو: المحو من محا الشيء يمحوه ويمحاه محوا ومحيا: أذهب أثره، قال الأزهري: المحو لكل شيء يذهب أثره، ومحا لوحه يمحوه محوا ومحيا فهو ممحو وممحي، صار الواو ياء لكسرة ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل .
والمحو عند كتّاب الحديث النبوي والموثقين يعني إزالة الزائد بدون سلخ حيث أمكن، بأن تكون الكتابة في لوح أو ورق أو ورق صقيل جدا في حال طراوة المكتوب، فيزيله بالأصبح أو بخرقة، قال ابن الصلاح:”ويتنوّع طرق المحو يعني فتارة يكون بالأصبع أو بخرقة، وحكى ابن العربي عن أصحاب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي “أن ثيابه كأنما أمطرت مدادا ولا يأنف، فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران، وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى / ومداد الدوي عطر الرجال”
وللأديب أبي الحسن الفيخكردي:
مداد الفقيه على ثوبه / أحب إلينا من الغالية
ومن طلب الفقه ثم الحديث ./. فإن له همة عالية
ولو تشتري الناس هذا العلوم ./.بأرواحهم لم تكن غالية
رواة الحديث في عصرنا ./. نجوم وفي العصر الخالية
وعن ابن المبارك قال:”إذا كان يوم القيامة وُزن حبر العلماء ودم الشهداء فيرجح حبر العلماء على دم الشهداء” ، بل يروى في حديث ضعيف عن أنس رفعه:”يحشر الله أصحاب الحديث وأهل العلم يوم القيامة وحبرهم خلوق يفوح ” ، وكان الإمام سحنون بن سعيد التنوخي(ت240هـ) ربـّما كتب الشيء ثم لعقه، وروي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنّه كان يقول: “من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وضفته مداد” .
وهذا كلّه تأكيد على ما يقوم به هؤلاء من محو المداد بثيابهم وشدّة ارتباطهم بهذا المداد.
وقد اختلف عمل الموثقين في الاعتذار من المحو بعد اتفاقهم على اعتماده كمنهج لإزالة العبارة الزائدة، على قولين، لكن”الأصح والأجود منهما الاعتذار، وقيل لا يعتذر منه” ، ومما استدلّ به من لم يجز الاعتذار من المحو بأنّــه”لا يقع في الغالب إلّا من الكاتب” ، وصورته عند من اختار الاعتذار أن يقول الموثق:”في السطر الكذا من البسملة إصلاح كذا وكذا وهو صحيح منه” ، وإن كان المحو في بعض الحروف فقط، فالاعتذار منه أن يقول:”وفيه إصلاح كذا وكذا، تصف الحرف كله، فإذا اعتذرت من هذا كله، قلت:شهد، وتمضي إلى التاريخ” .
كما رجح غير واحد من أهل التوثيق العمل بالمحو والضرب في الوثيقة إذا وقع “في غير مواضع العدد مثل: عدد الدنانير أو أجلها أو تاريخ الوثيقة” ، فإن ذلك لا يضر الوثيقة ولا يسقط حجة الاعتداد بها إن لم يتعذر منها، وإن حصل المحو أو الضرب أو البشر في هذه المواضع فلا بدّ فيه من البيّنة .
ج-الكِشْط: كشط الغطاء عن الشيء كشفه، وقشط لغة فيه، وفي قراءة ابن مسعود (وإذا السماء قشطت) وكشط البعير نزع جلده، ولا يقال سلخه، وإنما يقال كشطه أو جلده تجليدا .
والفرق بينه وبين المحو عند أهل الصنعة أن الكِشط يكون بالسكّين ونحوها، وقد يعبّر عن الكشط –بالكسر- بالكلمة نفسها أو بالحكمة أخرى إشارة إلى الرفق بالقرطاس .
ويصطلح عليه الموثقون بالبِشْر واتفقوا على الاعتذار عنه أيضا بأن يقولوا: “وعلى مصلح ببشر كذا” ، فكأنه يعبّر عن عمله الزائد في الكلمة حتى لا يظن أن غيره من تعرض لإصلاحها دون داع.
وقد نظم العراقي هذه المصطلحات وطريقة إصلاحها فقال:
وما يزيد في الكتاب يبعد ./. كشطا ومحوا وبضرب أجود
وصله بالحروف خطا أولى ./. مع عطفه أو اكتب “لا”ثم “إلى”
أو نصف دارة وإلا صفرا ./. في كل جانب واعلم سطرا
سطرا إذا ما كثرت سطـــوره ./. أولا وإن حرف أتى تكريره
فابق ما أول سطر ثم ما ./. آخر سطر ثم ما تقدما
المبحث الثاني:اصطلاحات انفرد بها كتّاب الحديث ونساخه
نعرض هنا الاصطلاحات التي درج عليها أهل الحديث في تصحيحهم للكتاب، وانفردوا بها، كالتصحيح، الدارة في آخر كل حديث أو بين الحديثين، ضبط الحروف المشكلة، ما يعمل في التقديم والتأخير، وعند اختلاف الروايات.
المطلب الأول: منهجية كتاب الحديث في التصحيح
قال ابن الصلاح (ت643هـ):” من شأن الحذّاق المتقنين العناية بالتصحيح …” .
والتصحيح من صحّ الشيء جعله صحيحا، الكتاب والحساب صحيحا إذا كان سقيما فأصلحت خطأه والصحيح من الشعر ما سلِم من النقص وقيل كل ما يمكن فيه الزحاف فسلم منه .
وكيفيته عند كتاب الحديث النبوي، كتابة عبارة “صح” على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صحّ رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف فيكتب عليه “صح”، ليعرف أنه لم يغفل عنه وأنه قد ضبط وصحّ على ذلك الوجه ، ويختلف بذلك عن التضبيب بكون هذا الأخير يكون بما فسد لفظا أو معنى مع صحّة نقله، أما التصحيح فيقع عندهم على ما فيه الظن والشك، ليشعر الناظر في كتابه أنه وقف عليه ونقله على ما هو عليه، فإذا ظهر له أو لغيره وجه صحّته أكمل عليه التصحيح ، ولذلك انفرد به كتّاب الحديث لكون منهجية كتابة ونسخ الحديث النبوي تتطلب التيقن من صحة العبارة ونقلها من مظانها بكيفية سليمة، ولنفس الغاية يشير الونشريسي بقوله:”وهذا في الوثيقة متعذر ما لم تكن نسخة من أصل وقع فيه لحق أو خروج عن الجادة فيحسن فيها التمريض أو التضبيب فاعلمه” .
قال العراقي :
وكتبوا صح على المعرّض ./. للشك إن نقلا ومعنى ارتضى
وذكر الإمام السخاوي (ت902هـ) في شرحه لألفية العراقي أن كتابة “صح” تامة كبيرة أو صغيرة سواء، لكن كتابتها صغيرة أحسن كما أن كتابتها أعلى الحرف هو الأشهر الأحسن، وإلا فلو كتبت عنده بالحاشية مثلا لا بجانبه لئلا يلتبس كفى، مستدلا بقول ابن الصلاح : “كتابة صح على الكلام أو عنده، كما أن كتابتها على المكرر من المعرض هو أيضا الأشهر، وإلا فقد قال ابن دقيق العيد(ت702هـ) رأيت بعضهم إذا تكرّرت كلمات أو كلمة يكتب عددها في الحاشية بحروف الجمل” ، تأكيدا على صحّتها وتيقّنه منها.
وكتابة “صح” إشارة إلى أن المصحّح كان شاكا في كلام فبحث فيه إلى أن “صح” فخشي أن يعاوده الشك، فكتبها ليزول عنه الشك فيما بعد.
كما تكتب “صح” كذلك بعد مراجعة النسخة وإضافة ما سقط منها بإلحاقه في الحاشية، إما إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال ، والفرق بينه وبين اللحق، أن في اللحق يكتب الساقط مشارا إليه بخط منعطف وبعد الفراغ منه يكتب “صح” بينما في التصحيح يكتب ذلك عند الشك أو الخلاف في الحرف أو الكلمة، ليبيّن أنه قد ضبط ذلك وأنه لم يغفله.
المطلب الثاني: منهجية المحدثين من وضع الدارة بين كل حديثين
جرت عادة المحدثين أن يجعلوا بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميّز أحدهما عن الآخر، قال الحافظ البغدادي(ت463هـ) رحمه الله:”رأيت في كتاب أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بخطّه بين كل حديثين دارة، وبعض الدارات قد نقط في كل واحد منهما نقطة وبعضها لا نقطة فيه، وكذلك رأيت في كتابـَيْ ابراهيم الحربي ومحمد بن جرير الطبري بخطّيهما” .
وقال أيضا: “أستحب أن تكون الدارات غُفلا (أي خالية لا علامة فيها) فإذا عورض بكل حديث نقط في الدارة التي تليه نقطة أو خطّا في وسطها خطّا وقد كان بعض أهل العلم لا يعتدّ من سماعه إلا بما كان كذلك أو ما في معناه” ، كما أورد أثرا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، أنّه قال:”كنت أرى في كتابي أبي إجازة –يعني دارة- ثلاث مرات ومرتين وواحد أقله، فقلت له:إيش تصنع بها فقال: أعرفه إذا خالفني إنسان قلت له: قد سمعته ثلاث مرات” ، وأحيانا يأتي في آخر الحديث (قد فرغت) تعبيرا عن السماع، والفراغ منه.
وبذلك تتضح منهجية المحدثين في وضع الدارة بين كل حديثين، بعد الفراغ من السماع.
المطلب الثالث:منهجية كتاب الحديث في ضبط الحروف المُشكَلة
اعتنى كتاب الحديث النبوي في منهجية إصلاح الكتاب بضبط الحروف المشكلة في متن الكتاب أو في الحاشية، توضيحا لها وتبيينا للناظر فيها، ودفعا للتلبيس، قال ابن الصلاح(ت643هـ): “يستحب في الألفاظ المشكلة أن يكرّر ضبطها في متن الكتاب ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة، فإن ذلك أبلغ في إبانتها وأبعد من التباسها وما ضبطه في أثناء الأسطر شكل ما فوقه وما تحته ولا سيما عند دقة الخط وضيق الأسطر، وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط” .
وما ذكره ابن الصلاح هنا غير كاف في ضبط اللفظ المشكل بل أضاف العراقي تقطيع الحروف، وفائدته ظهور شكل الحرف بكتابته مفردا (كالنون والياء) إذا وقعت في أول الكلمة أو في وسطها.
وكما تضبط الحروف المعجمة بالنقط، فكذلك المهملة تضبط بعلامة الإهمال لتدل على عدم إعجامها، وسبيل المحدثين في ضبطها مختلف، فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط التي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من المهملات، ومنهم من يجعل تحت الخاء المهملة حاء مفردة صغيرة (ح) وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك، وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له الكثيرون كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطا صغيرا، وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة .
واستدرك العراقي على ابن الصلاح مسألة هامة، فقال : “ولا بد من استثناء الخاء المهملة لأنها لو سقطت من أسفل صارت جيما” .
قال الإمام القلقشندي(ت821هـ) في صبح الأعشى: “…الألف لا تنقط لانفرادها بصورة واحدة، إذ ليس في الحروف ما يشابهها حالتي الإفراد والتركيب، أما الباء فإنها تنقط من أسفل لتخالف التاء المثناة من فوق والثاء والياء والنون، وأما التاء فتنقط باثنتين من فوق لتخالف ما قبلها وما بعدها من الصورتين في حالة الإفراد، وتخالفهما مع الياء والنون حالة التركيب ابتداء أو وسطا، وأما الثاء فتنقط بثلاث من فوق لنفس الأمر، أما الجيم فإنها تنقط بواحدة من تحت لتخالف الصورتين، وأما الحاء فإنها لا تنقط وحذاق الكتاب يجعلون لها حاءا صغيرة مكان النقط(ح)، والخاء تنقط بواحدة من أعلاها لتخالف ما قبلها من الجيم والحاء، والدال لا تنقط، والذال تنقط بواحدة وعلامتها الإهمال، وتنقط الشين بثلاث من فوق فرقا بينها وبين أختها والصاد كذلك لا تنقط وحذاق الكتاب يجعلون لها علامة كالحاء وهي صاد صغيرة تحتها (ص) وتنقط الضاد بواحدة من أعلاها فرقا بينها وبين أختها ولا تنقط الطاء لكن لها علامة كالصاد والحاء وهي طاء صغيرة (ط)، والظاء تنقط بواحدة فوقها والعين لا تنقط ولها كذلك علامة وهي عين صغيرة (ع) ، والغين تنقط بواحدة فرقا بينهما، أما القاف فلا خلاف بين أهل الخط أنها تنقط من أعلاها إلا أن من نقط الفاء من أسفلها نقط القاف بواحدة من أعلاها، أما الكاف فلا تنقط إلا إذا كانت مشكولة علمت بشكلة، بينما النون بواحدة من أعلاها والهاء كذلك لا تنقط لأنه ليست في أشكالها ما يلتبس بغيره من الحروف وكذلك الواو والاّم ألف لانفرادها بصورة لا يشابهها غيرها، أما الياء فتنقط بنقطتين من أسفلها” .
المطلب الرابع:منهجية كتاب الحديث مما يقع من تقديم أو تأخير
إذا وقع في الكتاب تقديم وتأخير، فإن أهل الصنعة اختلفوا في ذلك، فمنهم من يكتب في أول المتقدم من كتابه “يؤخر” وأوّل المتأخر “يقدم” بأصل الكتاب إن اتسع المحل أو بالهامش، ومنهم من اختار أن يرمز لذلك بصورة ما كالميم مثلا، واختاره الحافظ السخاوي(ت902هـ) بقوله :”وهذا أحسن إن لم يكن المحل قابلا لتوهم أن الميم رقم لكتاب مسلم” .
ومحلّ ذلك أن يقع التقديم والتأخير في أكثر من كلمة كما أفاده الحافظ السخاوي، لكون شيخه كان يرى في الكلمة الواحدة الضرب عليها وكتابتها في محلها .
ونجد بعض المحدثين كذلك يكتب الميمين معا عند التقديم والتأخير، مثل (عبد الله بن محمد- الصواب محمد بن عبد الله، يكتب فوق عبد الله (ميم) وفوق محمد (ميم) ).
المطلب الخامس:منهجية كتاب الحديث من اختلاف الروايات والعمل في ذلك
قال القاضي عياض(ت543هـ) رحمه الله :”هذا مما يضطر إلى إتقانه ومعرفته وتمييزه، وإلا تسوّدت الصحف واختلطت الروايات ولم يحل صاحبها بطائل” .
والعمل في ذلك أن يكون الأم على رواية مختصة، ثم ما كانت من زيادة الأخرى ألحقت، أو من نقص أعلم عليها أو من خلاف خرّج في الحواشي، وأعلم على ذلك كله بعلامة صاحبه من اسمه أو حرف منه للاختصار لاسيما مع كثرة الخلاف والعلامات، وإن اقتصر على أن تكون الرواية الملحقة بالحمرة فقد عمل ذلك كثير من الأشياخ وأهل الضبط كأبي ذر الهروي وأبي الحسن القابسي وغيرهما .
وقد يقتصر بعض المشايخ على مجرّد التخريج والتحويق والشق لإحدى الروايتين ويكل الأمر إلى ذكره وما عقده مع نفسه من ذلك ، وممن عمل بذلك أبا محمد الأصيلي في كتابه في “صحيح البخاري” الذي بخطه وما وقع فيه على أبي زيد المروزي ، فما سقط لأبي زيد ولم يروه عنه شقّ عليه بخطه أو حوّق عليه .
ثم عند استعماله لبعض الرموز للاختصار، يلزمه تقييد ذلك أول دفتره أو على ظهر جزئه أو آخره، والتعريف بكل علامة، لئلاّ ينسى وضع تلك العلامات مع طول الزمن وكِبَــر السن واختلال الذهن، فيختلط عليه روايته ويشكل عليه ضبطه .
قال العراقي:
وليبيّن أولا على رواية ./. كتابه ويحسن العناية
بغيرها بكتب راو سميا ./. أو رمزا أو يكتبها معنيا
بحمرة وحيث زاد الصل ./. حوّقه بحمرة ويجلو
ويضيف ابن الصلاح فائدة جليلة، فيقول:” لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره، فيوقع غيره في حيرة، كفعل من يجمع في كتابه بين روايات مختلفة ويرمز إلى رواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك، فإن بيّن في أول كتابه أو آخره مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس، ومع ذلك، فالأولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رواية اسم راويها بكماله مختصرا أولا يقتصر على العلامة ببعضه ” .
ومثل هذه الرموز هي التي يجد المحققون صعوبة في فكّها، بل إن بعضهم قد يؤوّلها على حسب فهمه، فيكون التحقيق نفسه بحاجة إلى تحقيق.
وهذه هي المنهجية التي تعتمد في مجال البحث العلمي، وتقتضي توضيح منهجية الباحث من كتابه في أوّل الكتاب، سواء بالإشارة إلى المصطلحات التي يعتمدها في بحثه ويرمز لها برموز معينة، أو في تحقيق الكتاب والإشارة إلى الروايات ورموزها في أوّل الكتاب.
وختاما،،،
تبين من خلال هذه الدراسة أن كتّاب الحديث النبوي الشريف لتعلقهم بهذا العلم الجليل كانوا أبرع في عملية التصحيح والضبط، واهتموا بها من بداية عملية التصحيح إلى آخر ما يفعل بعد ذلك، من ذلك، أنهم نصّوا أنه إذا أصلح شيئا نشره حتى يجف لئلاّ يطيقه فينطمس ويفسد المصلح وما يقابله، ويتقي استعمال الرمل إلا أن يزيل أثره بعد جفافه، لأن بعض الشيوخ يقول إنه سبب الأرضة، وكذا يتقي التراب كما صرح الخطيب البغدادي في الجامع، وساق من طريق عبد الوهاب الحجي قال: “كنت في مجلس بعض المحدثين وابن معين (ت234هـ) بجانبي، فكتبت صُفَحا، ثم ذهبت لأترّبه، فقال لي: لا تفعل فإن الأرضة تسرع إليه، قال: فقلت له الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:”ترّبوا الكتاب، فإن التراب مبارك وهو أنجح للحاجة” قال: ذاك إسناد لا يسوى فلسا ونحوه، وقال ابن حبان: إنه موضوع” .
إلى غير ذلك من الأمور التي اعتنوا بها حتى يتلقى طالب الحديث هذا العلم بدقّة وإتقان.
كما اتضح بشكل جلي أن العدول الموثقين كانوا عالة على كتاب الحديث النبوي في اعتماد بعض مصطلحات الإصلاح بالوثيقة العدلية، باستثناء بعض الأمور التي اختاروا فيها منهجية جديدة كاختيار الاعتذار عن الضرب أو المحو أو الكِشط، بمصطلحات ومنهجية خاصة، حتى يتسنّى الاستناد إلى الوثيقة العدلية التي تضبط حقوق وتصرفات الناس.
وقد خلُصَ البحث إلى وضع التوصيات التالية:
أولا، أهمية الاعتناء بالمقارنة بين مناهج العلماء في شتّى الميادين للاستفادة من مكامن القوة، التي تخوّل وضع تصورات منهجية جديدة لبعض العلوم، والإفادة من المناهج المختلفة وَفق مقاربة علمية توحّد الرؤى والمناهج بشكل علمي توافقي.
ثانيا، أهمية المناهج الحديثية عموما وارتباطها بعلوم أخرى تؤكد صحّة هذه المناهج ودورها في تقريب هذه العلوم وتيسير سبل الاستفادة منها.
ثالثا، الإفادة من منهجية إصلاح كتب الحديث النبوي الشريف بعد تحقيق هذه المنهجية وربطها بباقي المناهج الأخرى التي لها علاقة كمنهجية إصلاح الوثائق العدلية عند الموثقين أو غيرها من المناهج -إن وجدت-… في دراسة وفهم وتحقيق النصوص الشرعية التي لم يعتنى فيها بهذه المنهجية بشكل كبير.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
فهرس المصادر والمراجع مرتبة ألفبائيا
الأعلام. خير الدين الزركلي.1/172.بيروت.ط5/1980.
الإلماع إلى معرفة الرواية وتقييد السماع.القاضي عياض السبتي المغربي.تحقيق:سيد أحمد صقر.مكتبة دار التراث.ط1/1970.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث.أحمد محمود شاكر. ط دار الكتب العلمية – بيروت
الجامع لأخلاق الراوي و أداب السامع.الحافظ الخطيب البغدادي.تحقيق محمد الطحان مكتبة المعارف الرياض 1403-1983.
القاموس المحيط.الفيروزابادي. دار الكتب العلمية. بيروت. 1979م.
الكفاية في علم الرواية.تحقيق:أبو عبد الله السورقي.ابراهيم حمدي المدني. المكتبة العلمية المدينة المنورة.د.ت.
اللآلئ المصنوعة فِي الأحاديث الموضوعة.جلال الدين السيوطي.ط.دار المعرفة.1395هـ/1975.
المحدث الفاصل بين الراوي والواعي.الرامهرمزي. تحقيق:محمد عجاج الخطيب.دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 1401هـ/1981.
المعيار المعرب في الجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق وإخراج جماعة من الفقهاء، بإشراف د.محمد حجي، 13 جزء، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1981.
المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة.عبد الرحمن السخاوي. دار الكتاب العربي.1405هـ.1985.
تاج العروس من جواهر القاموس. محمد بن محمد بن عبد الرزاق المرتضى الزبيدي. تحقيق: مجموعة من المحققين.ط.دار الهداية.د.ت.
شجرة النور الزكية في طبقات علماء المالكية.محمد محمد مخلوف.المطبعة السلفية.1350ه.
شرح التبصرة و التذكرة. للحافظ زين الدين العراقي.تصحيح و عناية محمد بن الحسين العراقي الحسيني المطبعة الجديدة بفاس.
علوم الحديث.أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهروزي المعروف ابن الصلاح.تحقيق: نور الدين عتر.المكتبة العلمية.1401هـ/1981.
فتح المغيث شرح ألفية الحديث.الحافظ السخاوي..دار الباز للنشر والتوزيع مكة المكرمة.د.ت.
لسان العرب. ابن منظور الإفريقي. دار صادر للطباعة والنشر. 1378هـ/1956.
محيط المحيط. بطرس البستاني.مكتبة لبنان.بيروت.1993.
مختار الصحاح .محمد بن أبي بكر الرازي.المادة.ص572.الهيئة العامة المصرية للكتاب.
معجم البلدان..ياقوت بن عبد الله الحموي.دار صادر.1397هـ/1997.
مفتاح دار السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم.طاش كبرى زادة.دار الكتب العلمية بيروت.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد