الأنثى في حياة عباس محمود العقاد … حسن محمد أحمد محمد

د. حسن محمد أحمد محمد: أستاذ مساعد (غير متفرغ) بقسم علم النفس – كلية الآداب – جامعة أم درمان الإسلامية

النص: لُقب الكاتب المصري عباس محمود العقاد ببعض الألقاب ، غير أن هناك سمة مشتركة بين تلك الألقاب ، إذ إنها (الألقاب ) تنم عن صرامة وقوة وشدة بل قل الجبروت ، لاسيما وأن العقاد قد أخذ نفسه بالشدة و الصرامة القاسية في جميع حياته ، فهو الكاتب الكبير ، والعملاق ، والجبار … مما ساعد في ولادة عبقري متميز ومتفرد في مجال الإبداع الأدبي والفكري والسياسي والاجتماعي … لقد استطاع العقاد أن يصنع من نفسه موسوعة معرفية تحتوي على الكثير والكثير من المعارف والعلوم ؛ والغريب في الأمر أنه لم يمكث في مقاعد الدراسة غير تسع سنوات ولم ينل من التعليم المدرسي غير الشهادة الابتدائية (المرحلة المتوسطة ـ سابقاً ـ في السودان ) ؛ إذ يقول عن نفسه : ( … ولم أتلق في المدارس بعد انفصالي من مدرسة أسوان غير أتواب محدودة في الكهرباء والطبيعة … وقد عاقتني عن عوائق شتى عن متابعة التعليم المدرسي كما كنت أود يومئذ ، ولست على ذلك الآن بنادم) إلا أنه وبرغم محدودية تعليمه الأكاديمي ، قد صار كعبة يحج إليها طلاب المعرفة من طلاب الجامعات وأساتذتها , وأصبح حجة في العديد من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية ، ولا يجاريه في ذلك المضمار أحد ممن خط بالقلم ؛ ولاغرو في ذلك إن كان العقاد قد نزر سني حياته للاطلاع والقراءة المتأنية وبأكثر من لغة لكل ما خطه يراع مبدع وأفرزته المطابع على كثرتها ويذكر أن أديبًا زاره يومًا، فوجد على مكتبه بعض المجلدات في غرائز الحشرات وسلوكها، فقال له : إنك تكتب قي الأدب و … فما علاقة هذه الكتب بتلك الموضوعات . فأجابه العقاد : ولا تنس أنني أكتب في السياسة . وقد أراد بتلك الإجابة أن ينهي الحديث بشئ من الفكاهة .
وقد تطاول يراعي إلى ذلك العَلَم الشامخ الذي يتربع على قمته رجل في قامة العقاد ؛ فأضيف إلى تلكم الألقاب لقباً هو حري به ويكشف لنا عن جانب من جوانب حياته التي كان ـ رحمه الله ـ لا يريد لأحد أن يطلع عليه ؛ إذ يستحق هذا الهرم أن يطلق عليه لقب الكاتب المتمرد الذي أراد أن يتمرد على كل شئ دون استثناء : فتركه لمقاعد الدراسة ـ بالرغم من تفوقه ـ كان تمرداً ، وإصراره على مهنة المتاعب كان تمرداً وتقديمه لاستقالته من جميع الوظائف ـ وهو في أمس الحاجة للممال ـ كان تمرداً على قيود الوظيفة ، فهو يريد أن يعيش كالطائر حراً طليقا لا تحد حريته حدود ولا تكبله القيود . إذ يقول في سخرية لاذعة ـ في ديوانه (عابر سبيل) ـ عن عسكري المرور :
متحكم في الراكبـــين
وما لــــه أبدًا ركوبة
لهم المثوبة من بنــانك
حين تأمر والعقـــوبة
مُر ما بدا لك في الطـريق
ورض على مهل شعوبه
أنا ثائر أبدًا وما فـــي
ثورتي أبدًا صعـــوبة
أنا راكب رجلي فـــلا
أمْرٌ عليَّ ولا ضريبة
أما أكبر دليا على تمرده وعناده فهو عداؤه السافر للمرأة ذلك العداء الذي لم يحاول مداراته في العديد من كتاباته ومؤلفاته الفكرية والأدبية ، وتتبدى لنا تلك العداوة بشكل لا مراء فيه في كتابه (مجمع الأحياء) حيث يقول على لسان المرأة : سبع يخطب بين السباع ـ وهذا السبع هو القائمة بينكم ـ ألم يدعني بعض الرجال سبعاً جميلاً ؟؟ فأذنوا لأحد السباع أن يبسط لكم شكواه من الرجال . … ومع هذا فنحن لا نزعم أن كل امرأة أجمل من كل رجل ، فما بالهم يزعمون أن كل رجل أعقل وأحزم من كل امرأة ؟! ويواصل العقاد نقده المرير فيقول : وجلست المرأة وهي توهم نفسها أن إناث الحيوان ستشب على الفور للأخذ بناصرها . فلم يحصل شئ من ذلك ونظرت كل أنثى لصاحبها وهي تبتسم ابتساماً لم يعزب عن السامعين مغزاه.
ثم يأتي دور الرجل للحديث في ذلك المجمع فيقول : كنا نحذر كل الحذر من بوم تصل فيه المرأة إلى نصيب ـ ولو قليلا من الحرية ـ فتنظر إلى نفسها بعين المعجب المفتون كما كانت تنظر إلى وجهها في المرآة بهذه العين آلافاً من السنين . لأننا نعلم أن المرأة شديدة الطيش والغرور ، ولا تنال القليل حتى تطمع في الكثير ، ولو أنها حرمت كل شئ لما طمعت في شئ . …
ولا يقف العقاد في نقده للمرأة عند ذلك الحد بل نراه يتعداه وتجاوزه إلى القول : … قدمت المرأة بيتكم اليوم تطالب بشئ ليس من ضروريات حياته ولا هو مما يلزمها … وإنما نراها تطالب بضرب جديد من الزينة سمعت باسمه فتعلقت به كما تنعلق الطفل بما يسمع غنه ولو كان مقره وراء النجوم … فلا تصدقوا ـ معشر الأحياء ـ أن المرأة تطلب الحرية لأنها تفهم الحرية ولكنها تطلبها كما تطلب قرماً نفيساً أو ثوباً من الزي الأخير …
وعلى من أراد المزيد من تلكم السخرية وذلكم التهكم فعليه بكتاب العقاد (مجمع الأحياء ) .
يقول الكاتب أحمد تمام : ولو أمعنا النظر في آراء العقاد لوجدنا ان آراءه مبنية على فهم صحيح لطبيعة المرأة وليست عن عداء بين العقاد والمرأة والدليل على ذلك ان العقاد وقع في الحب أكثر من مرة وتعددت قصص حبه طوال حياته, ولو انه كان يعاديها لما أحبها ذلك الحب الفياض الذي نجده في كتاباته ولما كتب عنها الكثير .
لا أعتقد أن وصفنا للعقا بالمتمرد قد جانبه الصواب ، فالعقاد يريد أن يتمرد حتى على الغريزة الفطرية التي بزرها الله فينا وهي حب المرأة بالغريزة الفطرية ، فلا أحد يمكنه أن ينكر هذه الغريزة ـ اللهم إلا … ـ وهو أمر خارج عن إرادة الفرد ولا يملك له دفعاً . وحتى العقاد نقسه لم يسلم من تلك الغريزة الجامحة التي قد لا تترك للفرد منفذ يهرب من خلاله ؛ ولا أدلُّ على ذلك من وصفه لإحدى الحسان الخواجيات في إحدى رسائله لصديق له فيقول : عندنا هنا فتاة بولونية يهودية من السائحات ، وهي وحدها تقدر بعشر مواسم من مواسمنا الأسوانية . … ما هي بفتاة … وإنما هي فتنة مجسدة وألطاف مجمعة من كل ما تهفو النفس لذكره … يا ويلتاه !! أين المصورون … مرت هذه الفتاة قبل برهة عائدة إلى الفندق . وأنا أكتب إليك هذا الخطاب حيث أنتظر مرورها في أكثير الأيام . زكثير غيري ينتظرونها … فإذا أسعدهم الحظ رأوها إذ تكون في رياضتها العادية على شارع النيل … إلخ . ولا أحسب أن مثل هذا الكلام يصدر إلا عن قلب مغرم متيم وعقل مبهور بجمال تلك الحسناء من بنات الخواجات ، ولو لا أني قرأته بعيني واستوعبته بعقلي لما صدقت أن قائله هو ذلكم الرجل (العقاد ) الذي مرت بنا سماته في الأسطر السابقة .
وإليك قارئي العزيز دليل آخر على صدق ما قلته من أن عاطفتنا نحو المرأة هي غريزة فطرية لا نملك لها دفعاً ، وهو قول العقاد ـ رغم عدائه للمرأة ـ في خطاب أرسله إلى الأديبة اللبنانية مي زيادة (ماري إلياس زيادة ) : … وطلع عليَّ خطابك والعيد في ليلة واحدة ، فكانا أجدر صاحبين أن يترافقا . ولو أنه جاء لصائم إبان الصيام لأعانه على نسكه ومدَّ له من العون بقدر ما يزاد من سطوره وأحرفه …
قد لا يحتاج القارئ إلى كبير عناء ليستشف من هذه الأسطر مدى تعلق العقاد وهيامه الصارخ بمي ؛ مما يدلل على ذلك الأثر العميق للمرأة في حياة هذا العملاق ، وأرجو أن تقرأ معي ـ قارئي العزيز ـ الأسطر التالية لترى ذلك الجبار وهو يذوب رقة وتحنانا حيث يقول في افتتاحية رسالة بعث بها إلى مي وهي في طريقها إلى روما : … أتمنى لك من السعادة بقدر ما بعثهُ في نفسي … وإني أبصرك الآن بين الماء والسماء … إني على ما بي من الشوق إلى رؤيتك وسماع صوتك لست أشعر البتة ـ وهذا ما استغربه ـ بأني أخط السطور لنصل إليك … ولا أحس قضاء بين نفسيتا تنتقل فيه الرسائل ويقاس بمسافات البحار والآفاق وظلام الليل وبياض النهار فلا مثلك بعيد مني لأنه أقرب قريب إليَّ حيث هو حاضر أبداً أراه ولا أرى شيئاً ً سواه …
ويزداد العقاد عشقاً وهياماً بل ترى ذلك العملاق وقد تحول إلى طفل يتوسل ويستجدي العطف والحنان ، ولم نعهد فيه مثل ذلك من قبل على الرغم من الظروف السيئة التي مرت به فقد ظل مستمسكاً بكبريائه ومعتداً به ، ولكنه أما تلك الأديبة يختفي العملاق ليبدو لنا عاشقاًً يتوسل إلى محبوبته بشكل صريح لا مواربة فيه . ونختم ما بدأناه بما ختم به العقاد رسالته إلى مي وه يقول : فهل ستذكرينني ؟؟ إنني آمل وأتوسل . بل إنني واثق أنك ستذكرين ! واثق كل الثقة وسعيد كل السعادة بهذه الثقة الغالية . فلا تنسي يا آنسة … وأعذري ولا تشتدي عليَّ ! ولك مني أصفى ما ترسله نفس إلى نفس من تحيات الشوق والرجاء والعطف والشكر والاحترام .
ولا نملك في هذه الأسطر إلا أن نقول : إنه العقاد وكفى .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد