الهجرة النبوية والشعر … ربيع عبد العزيز

د. ربيع عبد العزيز: أستاذ النقد والبلاغة، كلية دار العلوم، جامعة الفيوم

الهجرة يوم مشهود، محفور في ذواكرنا، وأقل ما يوصف به أنه يوم بالغ الحسم لا في تاريخ المنطقة العربية فحسب، بل في تاريخ الإنسانية؛ فقد ترتبت على نجاح الهجرة تحولات فارقة ، خارقة،على مستوى العقيدة والسلوك في حياة إنسان المنطقة العربية وغيرها من البلدان التي دخل أبناؤها في دين الله أفواجا.
وبرغم أن الاصطفاء وقع على مكي فإن اللافت أن أكثر المكيين كانوا أول أعداء الرسالة والرسول- عليه الصلاة والسلام- وأن الأنصار من المدنيين كانوا أكثر سماحة وبرا بالرسالة والرسول من عشيرته الأقربين.
وربما كان للجبال التي تحتضن مكة أثرها في عناد العقل المكي الذي صدمته الدعوة، والذي لم يلتفت إلى الشرف العظيم الذي تفاخر به قريش على كل القبائل حين اصطفى الله رسولا نبيا قرشيا.
وبدلا من أن يزهو المكيون بذلك الشرف، مضى أكثرهم يدافع في بسالة عن أوثان صنعتها الأيدي واتُخِذَتْ أربابا ، وبفعل العشى الفكري لم يشأ عاقل أن يسائل نفسه: إذا كان هُبَلٌ إلهًا يعبد أفليس من صنعه جديرا- إن لم يكن أجدر- بالعبادة منه!!!.
وما يلفت النظر أن المدنيين لم يتسابقوا للإيمان فحسب، بل تسابقوا لتقاسم أملاكهم مع المهاجرين، وأنهم قاتلوا بأشعارهم كما قاتلوا بسيوفهم؛ فكانت أشعار حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك سيوفا معنوية زلزلت الأرض من تحت أقدام المكيين.
وقد انفردت أشعار الخزرجي حسان بن ثابت بأنها كانت تقع على نفوس مشركي مكة كما تقع النبال في غلس الظلام، وانفرد حسان بامتياز لعل شاعرا لم ينفرد به؛ ذلكم هو ضمان مكرر مرتين، ممن لا ينطق عن الهوى، بدخول الجنة والوقاية من حر النار.
ومع استقرار النبي في المدينة راج الشعر في مكة رواجا غير مسبوق؛ فقد جندت قريش شعراءها؛ من أمثال عبد الله بن الزبعري، دفاعا عن الوثنية، وهجاء للرسول ومن معه مهاجرين كانوا أو أنصارا، مع أن سوق الشعر في مكة كانت كاسدة حتى إنها لم تنجب في جاهليتها شاعرا من الفحول المعدودين في طبقات فحول الجاهلية.
ولقد أحدث النبي-عليه الصلاة والسلام- بكماله خلقا وخلقة، أثره في حركة الإبداع الشعري .
وعلى غير المألوف ،في المدائح الجاهلية، نجد ممدوحا يمدح بمثل قول الخزرجي حسان بن ثابـت:
وأحسن منك لم تر قط عيني.
وأجمل منك لم تلد النساء..
خلقت مبرءا من كل عيب..
كأنك قد خلقت كما تشاء..
فقد جرت العادة بأن يمدح الرجال بالفضائل النفسية الأربع: العقل والعدل والشجاعة والكرم، وهي الفضائل التي استقاها قدامة بن جعفر( ت. نحو338هـ) من مدائح العرب في الجاهلية وما تلاها من قرون حتى أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع، والتي نص فيها على كراهة مدح الرجال بصفاتهم الجسمية لأنه لا يد لهم فيها.
وبرغم الصرامة المصطلحية المعهودة في قدامة ، وبرغم عزوف الشعراء العرب عن المدح بمثل قول حسان:( وأجمل منك لم تلد النساء) ومن المدح بما لم تجر به عادة ولايقبله عقل:( كأنك قد خلقت كما تشاء) فإن ناقدا لم يجرؤ – تأدبا مع مقام النبوة-على إدراج بيتي حسان ضمن شواهد المبالغة والغلو، مع أن الحدود المصطلحية للمبالغة والغلو تنطبق تماما على الشاهدين. ويبدو أن النقاد أيقنوا أن الاصطفاء، في حد ذاته، أمر خارق للمألوف، وأن اصطفاء محمد- عليه الصلاة والسلام- دون غيره من البشر يؤكد أنه خارق خلقا وخلقة لما جرت به العادة وما يسوغ عقلا.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد