إشكاليّة التّراث وتحدّيات المستقبل … سالم المساهلي

سالم المساهلي: أستاذ باحث بجامعة الزّيتونة ـ تونس

مقدّمة
إن التفكير الإسلامي يتأسس اليوم استجابة لمطلبين ملحّين : مطلب المعاصرة والحضور في حركة الواقع، بالإسهام في تشكيل ملامحها وصيرورتها، ومطلب الأصالة باعتبارها انتماء لمفردات الهويّة، من دين ولغة وتاريخ وأرض، في إطار الفاعلية والفهم والمسؤولية. ولذلك أنّ على الباحث في ميادين الفكر الإسلامي قديمه وحديثه أن يتسلّح برؤية تجديدية أولا وموضوعية ثانيا، لأن سبب الفشل أو الاندثار الذي تلقاه محاولات التجديد أو الإصلاح يعود بشكل كبير إلى غياب القاعدة العقلية/ العملية، بما تمثله من روح نقدية متجاوزة وتاريخية، مرتبطة بالمشاغل الحقيقية للناس، مستفيدة من التقدم الحاصل في الأذهان ومناهج البحث والتحليل، أضف إلى ذلك ما اتسمت به بعض الرؤى من لبس وضبابية جعلت الخطاب الإسلامي أشبه ما يكون بالنصائح والخطب المنبرية التي لا تتجاوز الدعوة الإحيائية. . .
1 ـ اشكاليّة التّراث
سؤال التراث مشغل مركزي في الدراسات العربية والإسلامية المعاصرة لأنه شديد الاتصال بالذات لا يكاد ينفصل عنها، يشكل ذاكرتها ومفرداتها وأسلوب تفكيرها، كما أن نمو الوعي بضرورة النهضة والتقدم ومواجهة التخلف، فرخ أسئلة جوهرية من قبيل : من نحن ؟ وما هي رسالتنا الوجودية ؟ وهي أسئلة صيغت بشكل آخر : هل يمكن أن نكون بلا تاريخ أو قيم ؟ ثم ما هو وزن ذلك التاريخ وتلك القيم في تشكيل مستقبلنا وتحديد شخصيتنا؟ من أجل هذه الأسئلة يُطرح موضوع التراث.
أتجاوز المفهوم اللغوي للمصطلح لأن المفيد في حالتنا هو المعنى الاصطلاحي الذي لا يعدو أن يكون : ما آل إلى مجتمع ما عن مجتمع آخر سابق له في الزمان من أفكار وقيم وعادات وآداب، فالعامل التاريخي محدد أساسي في موضوع التراث، وبه يتحدّد الفصل بين التّراث والمعاصرة التي هي اللحظة الراهنة التي نحياها. والتراث عمل إنساني وجهد بشري، والتذكير بهذا المعنى نابع من خصوصية الثقافة الإسلامية التي ارتبطت بالمقدس، لذلك وجب الفصل بين التراث، بوصفه إنجازا بشريا خالصا، وبين النّص المقدس الذي يكتسي طابع الإطلاق والمفارقة والذي استند إليه ذلك الإنجاز البشري.
انطلاقا من هذا التّصوّر، فإن كل جهد بشري، نظري أو عملي، يدخل في إطار التراث، يستوي في ذلك الأدب وعلوم القرآن والتفسير وأصول الفقه والفلسفة، وكذا أنماط العيش . التراث الإسلامي إذن هو الجدل القائم في التاريخ بين الوحي، بوصفه النص المؤسّس للمعنى وبين العقل الناظر والمتدبّر للوحي في إطار الواقع الاجتماعي المَعيش، نتيجة ذلك الحوار، الهادئ أو المتوتر، الثقافي أو السياسي، النظري أو الواقعي، هي التراث . النص والعقل والواقع هي العناصر المكونة للفكر الإسلامي الذي يصبح في علاقته بالتاريخ معبّرا عن فترة ما وجيل أو أجيال محددة، غير أن علاقة التراث الإسلامي بالمقدس لا يضفي عليه طابع القداسة، ولكنه وجه من وجوه تحقق النص في التاريخ عن طريق اجتهاد العقل الإسلامي، فهما وتطبيقا وارتباطا بمشاغل عصره.
ولعل أبرز تداخل يقع في مستوى هذا المفهوم هو اعتبار الحداثة مرحلة تاريخية معاصرة وغربية على وجه الخصوص، من ناحية ، وتفسيرها على أنها ظاهرة تاريخية {1} وهي ككلّ الظواهر التاريخية، مشروطة بظروفها محكومة بحدود زمنية ترسمها السّيرورة على خط التطور، من ناحية ثانية ، وتصوّر الحداثة على أنها ظاهرة حضارية تختلف عن الفهم السّكوني والرّؤية المركزية التي ترى أوروبا مركز العالم ثقافة وحضارة. الحداثة ظاهرة تجعل الشعوب والأجيال ذات حداثات، فالعصر الفرعوني أو اليوناني أو الإسلامي أو الفارسي، شكل في زمن ما حداثة مستجيبة لشروطها الثقافية والحضارية، ولذلك لا قيمة للحداثة الغربية الحديثة إلا في كونها معاصرة لنا أو مقتحمة لنا، إذ لم نعرف الحداثة إلا عبر مدافع نابليون أو القوى الاستعمارية تحتل البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى، فلعلّ هذه الحداثة المرتبطة بإرادة الهيمنة والاستعمار والتّوسع والعنصرية، لا تقنع الكثيرين في العالم العربي والإسلامي للسّبب سابق الذكر المتعلق بالرغبة في التغلب، وبحكم ارتباط العرب والمسلمين بواقع لا يمتلك أدوات الهضم الكافية لمنجزات الحداثة الغربية، نظرا وتقنية ورؤى، بسبب ارتباطه بركام تراثي يشكل سلطة ضاغطة وموجِّهة .
والواقع، وعلاوة على الأسباب التي تربك التواصل بين العرب والغرب، لا بديل عن الجهد الذاتي الذي يبقى وحده الكفيل بمواجهة سؤال النهضة والتقدم، وذلك في إطار المفهوم المتفق عليه مبدئيا على أن الحداثة فاعليّة ذاتية وجهد تنموي منتج ينبع من إحساس واقتناع داخلي للشخصيّة بضرورة الحركة والفعل المثمر، فلا يمكن إذن أن تتحوّل الحداثة عندنا إلى نوع من المسخ الثقافي والارتباك السلوكي {2}، إنها لن تكون بحال من الأحوال دعوة للانسلاخ من الهوية ، والانصهار اللامشروط في الوافد.
2 ـ أسباب الاهتمام بالمسألة .
نشأ الاهتمام بالتراث إثر حالة الصّدام بين البلاد العربية والإسلامية وبين العالم الأوروبي، أي عندما وعى المصلحون الأوائل أمثال الأفغاني وعبده ورشيد رضا والطهطاوي والكواكبي وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم بما آلت إليه المسيرة التاريخية من تقدم للغرب على جميع الأصعدة وتخلف لافت للمسلمين، وما صاحبه من سقوط رمز الخلافة المتمثل في الخلافة العثمانية. ولكن ذلك الاهتمام لم يُفرد التراث قضية مركزية بالبحث والتنظير، بل سعى أغلب المصلحين إلى الدعوة التوفيقية بين الإسلام ومقاصده الإنسانية وبين الحضارة الغربية بمنتجاتها التقنية وتنظيماتها المدنية، وسعى البعض الآخر إلى محاولة تجديد بنية التفكير الإسلامي من خلال مفاهيمه التراثية.فكأن تلك الصّدمة كانت الحافز الذي حرّك سؤال الهوية والوجود ولفت الانتباه إلى حالة التوقف والبهتة الحضارية للمسلمين، ولعلنا نحاول إجمال بعض العوامل الأخرى الداعية إلى الاهتمام أيضا في نقاط بارزة أهمها :
أ : تأكيد الذات في مواجهة الآخر ,
وتمثل هذا الآخر في شكل اعتداء مباشر ومقصود على البلاد الإسلامية انطلاقا من حملة نابليون مرورا بالاستعمار المباشر ووصولا إلى لحظة الهيمنة والاستتباع الراهنة، الأمر الذي جعل الغرب رديفا للهيمنة والرغبة في السيطرة والإخضاع والتوسع على حساب بقية الشعوب، وخصوصا الشعوب العربية والإسلامية. في هذا الإطار كان سؤال الهوية داعما نفسيا ودافعا ثقافيا يحقق نوعا من التوازن في مواجهة التّفوق الحضاري المسلّح بكل وسائل المناعة والقوة الاقتصادية والعسكرية والتقنية، لم يكن أمام العرب والمسلمين غير الاستناد لجدار الخصوصية باعتباره ملاذا نفسيا يخرجهم من ضيق الأفق ووحشة الدّرب .
ب: ارهاصات النهضة : .
مثّل التراث رافدا خصبا وبوابة مشرعة للتمسّك بأسباب العودة والحضور في العصر، ذلك أن التقدم بما يعنيه من نمو ونهضة شاملة لا يمكن أن يتم في فراغ ثقافي، ولذلك كان لابد من تفعيل بنية الفكر الإسلامي ذات المفاهيم التراثية للحث على التجديد والحركة، ولم يكن أمام رواد النهضة وقتها غير المراوحة المستمرّة بين أصول الإسلام وقيمه الحضارية ذات البعد التعميري والتقدمي، وبين الحضارة الغربية مؤسّساتٍ وتراتيب مبنية على العدل الاجتماعي .كان حضور الخطاب النّهضوي المبكر علامة وعي ذاتي واقتناع منهجي، لأن النهضة لا تخصب إلا في تربة ثقافية تنتمي إليها ثم إن المأزق التاريخي الذي وقع فيه العالم العربي والإسلامي في مواجهة عالم متحضر كان محطة بارزة في سياق الاهتمام بمبحث التراث إذ أن حالة الانبهار التي عاشها أغلب المفكرين والمصلحين كالطهطاوي وخيرالدين التونسي كانت ذاتَ أثر بالغ في تشكيل الرغبة الجامحة في اللحاق بركب التقدم، ولكن ارتباط الأمة الإسلامية بتركة فكرية ارتبطت بالمقدس جعل الوضعية معقدة، وذلك حين وجد المصلح أو المفكر نفسه بين سلطتين : سلطة الماضي الذاتي، وسلطة الحاضر الموضوعي ، فهو منشدّ طوعا أو كرها إلى ذاكرة ثقافية امتزجت بوجدانه ورؤيته للعالم والأشياء، ليس من السهل التملص منها، وهو أيضا مقتنع تمام الاقتناع بواقع التخلف الذي يعيشه في مواجهة حضارة متصاعدة النمو، بشكل لا يسمح بالترقب والتردد. ولم يختر رواد الإصلاح الانسلاخ أو القطع مع التراث ولم يشرّعوا للانخراط الاندفاعي اللامشروط في ركب الحضارة الغربية على غرار دعوة طه حسين وسلامة موسى الذين لم يريا حرجا في ذلك بل دعيا إلى الاندماج دون تحفظ وضرورة أن ” نأخذ عن الغرب خيره وشرّه ، حلوه ومرّه “{3}، والمسألة تتعلق هنا بالرؤية والرصيد الثقافي الذي انطقا منه، وأدى إلى صياغة هذا الموقف السلبي من التراث .
ت: نشأة التيار السلفي .
كان سقوط الخلافة العثمانية تحديا نفسيا وثقافيا وحضاريا للمسلمين، ذلك أن الخلافة العثمانية ـ رغم ضعفها آنذاك ـ كانت تمثل اطمئنانا و إطارا جامعا، ولذلك مثل سقوطها في نظر عدد من المفكرين السلفيين انكسارا لشوكة المسلمين وتشتتا لوحدتهم . وازداد هذا الشعور قوة عند نشأة التيارات القومية العربية، ودعاة الاستقلال عن الامبراطورية الشكلية المتداعية، والنسج على المنوال الغربي في مستوى التنظيم السياسي والمدني، وفي الرؤية الحضارية، هذا إلى جانب التيار الليبرالي المقتنع أصلا بالنموذج الثقافي والحضاري الغربي كما شكل كتاب “الإسلام وأصول الحكم للشيخ الأزهري علي عبد الرازق تحديا مضاعفا للتيار السلفي إذ نقد بجرأة فكرة الخلافة والخلط بين الدين والسياسة. ولم تكن نشأة التيار السلفي بدافع سياسي بحت بقدر ما كانت دعوة إلى الأصالة الدينية في جميع مناشط الحياة، واعتبر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا، رموز هذه الدعوة التي أعادت أسباب التخلف التي تعيشها البلاد الإسلامية إلى غياب التعامل الجدي مع الدين والتراخي في الالتزام بشرعه وأحكامه، إلى جانب غياب روح الاجتهاد والتجديد المؤسّسَين على العقل والعلم . لذلك كان الخطاب الإصلاحي داعيا للقيم الرّسالية ودورها الاستخلافي ، فلا تقدم دون اجتهاد وابتكار ومسايرة لروح العصر، وقد وعَوا أنّ الاجتهاد لا يثمر خارج البنى الثقافية الإسلامية، ولا رقيّ دون الوصل مع التراث باعتباره رافدا يثري الوعي التاريخي ويقي مزالق التكرار والأخطاء السابقة.
ث: الوعي التاريخي وتنامي الحركة النقدية .
مثّل تيار الحركة النقدية على وجه الخصوص كل من الطيب تيزيني في كتابه ” من الترات إلى الثورة ” ومحمد عابد الجابري في مشروع ” نقد العقل العربي وحسن حنفي في مشروع “التراث والتجديد ” والذي أعقبه بكتابه ” من العقيدة إلى الثورة”، إلى جانب العديد من الباحثين والمفكرين من مختلف المشارب والمناهج أمثال حسين مروة ومحمد عمارة وفهمي جدعان وغيرهم .وتحمل هذا التيار على اتساعه مسؤولية نقد التراث من منطلق الوعي الذاتي أي على اعتبار التراث قاعدة مركزية في بنية العقل العربي وهو مموّل ثقافي و رؤيوي لعائلات فكرية متنوعة إلى جانب كونه سندا نفسيا لأمة تعيش نوعا من الاعتكاف والعزوف الحضاري والضياع الغائي. .
عبّر الاعتناء بالتراث عند التيار النقدي عن إحساس حاد بأن واقع المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة إلى حركة فكرية ونهضة ثقافية تبث فيه أسئلة الوعي وتدفعه لتحمل مسؤولياته ، كما تحدد أهدافه ومهامه الوجودية ، وتجيب الأجيال الحائرة عن سؤال الهوية ومعنى الانتماء .
لعل ابرز ما ميز هذا التيار هو تسلحه بالعقلانية النقدية وتحرره النسبي من سلطة التاريخ والواقع، ذلك أن النظر في التراث ليس سهلا لاعتبارات أهمها :
ـ طغيان سلطة الإيديولوجيا والرؤى المذهبية على النصوص التراثية نفسها .
ـ سلطة هذا التراث على الباحث باعتباره جزءا منه .
ـ الكم الهائل لهذا التراث وتنوع مجالاته ومدارسه . .
ويبدو أن محاولة قراءة التراث واتخاذ مواقف جادة منه تتطلب جهودا مؤسساتية وجماعية إلى جانب دعم المفكرين والمنشغلين بهذه المهمة النقدية أدبيا وماديا حتى يتمكنوا من إنجاز هذا المشروع الثقافي الكبير.

. 3 ـ الأطروحات والمواقف
أ: الفهم التراثي للتراث : وهو منهج يختار الحل السهل، إذ يختصر المسألة في ضرورة العودة إلى التراث الذي يحوي الحلول والإجابات لكل قضايا العصر، وهو أرقى ما توصلت إليه عقول المسلمين في العصور الزاهرة، ويحتج بقول الرسول الكريم: ” لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها ، كما يستندون إلى أن القرآن لم يفرط في شيء . ولعل أبرز ملامح هذا الطرح هو منطق التعميم الذي يستسهل المسألة ويختصر القرون والمسافات في مجرد لفتة صادقة، ويقفز على منطق التاريخ والواقع الموضوعي بتحولاته وتراكماته المختلفة .الأكيد أن الأوائل اجتهدوا وأصابوا ولكن اجتهاداتهم كانت تجاوبا مع أسئلة الواقع الذي عاشوه وانطلاقا من منهج توصلوا إليه في زمنهم، فهما وتفسيرا محددا لكتاب الله، ولكل عصر خصوصيات وأسئلة مغايرة، ثم إن المسألة الاجتماعية والسياسية قد مرت بعدة مراحل وتقلبات وأفهام، ولعل الفرق الإسلامية ـ على تنوعها واختلافها ـ أكبر شاهد على أن التراث ليس مدونة حلول، كما أنه ليس مهيأ للإجابة عن أسئلتنا المعاصرة، باعتباره سابقا لنا في الزمان، مختلفا عنا في الملابسات، يكفي التراث أنه أجاب عن أسئلة عصره وتجاوب مع مطالب معاصريه، ويكفي الأوائل أنهم كانوا في مستوى التحدي الواقعي والتاريخي الذي حف بهم، ولن يكونوا أنبياء ليصوغوا لنا بدائل ممكنة لعجز فينا أو كسل وخمول ثقافي وحضاري!
إن الرؤية التراثية للتراث تنافي النص القرآني نفسه، في شموليته وإطلاقيته، كما أنها تنافي العقل البشري المتطور باستمرار بوصفه أداة تفكير وتمييز واجتهاد، وتجمّد حركة التاريخ والواقع المحكوم أبدا بالتجدد والتغير، يقرّ القرآن بذلك صراحة في قوله تعالى:” تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون “{البقرة 134 }. النص القرآني مطلق ولا تُفهم إطلاقيته إلا في كونه مفتوحا على اجتهادات المسلمين عبر كل العصور، للتفسير وإعادة النظر وفق قواعد جديدة واستجابة لمطالب حادثة .
ب ـ الفهم الاستشراقي واللّيبرالي للتراث : المقصود بالفهم الاستشراقي هنا هو المستند إلى ما يقوله المستشرقون الأوروبيون عن التراث ويساندهم فيه الليبراليون العرب، ولذلك يُعتبر فهما من خارج، إذ يكتفي بالحكم السطحي ولا يسلط الضوء على المسألة من داخل بنيتها، بل يتوسل التعامل البسيط والطريق المختصر، بحثا عن موقف حاسم وجاهز ينطلق من الرؤية المركزية التي ترى نفسها مقياس الحقيقة، فعصور الازدهار العربي الإسلامي وأوج النهضة، هو في التقسيم الأوروبي للتاريخ عصور وسطى، وكل ثقافة أو حضارة خارج نسق الحضارة الأوروبية ذات البعد”العالمي” و”الإنساني”و”العلمي” هي مجرد هامش لا قيمة له وهو ما يأخذه بعض باحثينا ومفكرينا مسلمة علمية، فهاته الرؤية لا ترى في التراث ـ إن اعترفت به ـ غير لحظة عابرة في تطور البشرية ليست لها أية قيمة منهجية أو معرفية وقد تعرضنا إلى موقف طه حسين الذي دعا إلى الاتباع التام، أما التيار الماركسي فإنه يعتبر التراث ثقافة وهمية وخرافية لا علاقة لها بمنطق العلم، وأن الدعوة لمراجعته والتواصل معه رجعية مطلقة . إن مفكرا ماركسيا عربيا هو الدكتور توفيق سلوم يقول :” إن التوجه الفعال إلى الجمهور يجب أن يكون ـ كما علمنا لينين ـ باللغة التي يفهمها وفي هذا الإطار يندرج التحدث بلغة الرموز التّراثية التقليدية .”{4} يمثل هذا الرأي وعيا بسلطة التراث وهو حجة على أنه لا فرار للماركسيين من منافقة الجمهور ومخاتلته من خلال مجاراته والتجاوب معه على أساس ثقافته وانطلاقا من خصوصيته الحضارية، وهذه مهمة شاقة وصعبة لمن يتحملها ويعتمدها، إذ تجر عليه ارتباكا نفسيا وانفصاما شخصيا ونفاقا ثقافيا واجتماعيا يضطره إلى القلق والتوتر، ولعله أحد مظاهر الوعي الشقي.{5}
ت ـ التصور التوفيقي : وهو الرأي القائل بضرورة الربط بين المقاصد العامة للتشريع والجوانب المشرقة من التراث وبين النافع والصالح من منتجات الثقافة والحضارة
الغربيتين، وهو رأي يبدو معتدلا ورصينا إذ لا يميل يسارا ولا يمينا ولكنه يعتمد “الوسطية “والرغبة في التأليف، ولكن المتأمل في هذا الموقف يخرج بالملاحظات التالية:
ـ يؤدي هذا التصور التركيبي إلى خطاب مزدوج لأنه ينطلق من أرضيتين ثقافيتين مختلفتين .
ـ يتسم بتوتر منهجي ويسقط في الانتقائية لأن لكل ثقافة نسقا داخليا لا تصح تجزئته أو اختزاله .
ـ لا ينم هذا الخيار عن إبداع أو إضافة، كما لا يشتمل على منهج نقدي، وإنما هو عملية تركيب شكلية تتغاضى عن الاختلاف الجوهري بين الثقافتين .
ـ إن التأليف أو التحاور بين الثقافتين سوف يؤدي ضرورة إلى انصهار الثقافة الضعيفة والفاترة ـ وهي هنا الحالة العربية الإسلامية ـ في الثقافة الغربية القوية والفاعلة، وذلك لعدم التكافؤ المنهجي والمعرفي بينهما، الأمر الذي يؤدي إلى الاستتباع و الهيمنة .
ـ يعتبر الحوار بين العالم العربي و الإسلامي وبين العالم الغربي متأزما نظرا لما يمرّ به العالم بوجه عام من تحولات في بناه الثقافية والاقتصادية والسياسية، من ذلك ظهور النزعات القومية الاستقلالية والتكتلات والتحالفات التي تدخل العالم الغربي في دعم إحداها على حساب الأخرى كما تورط في تغذية تيارات ومواقف خدمة لمصالحه وتهميشا للقوى الحقيقية المعبرة عن هويات الشعوب والأمم، إلى جانب التوتر الحاد الذي يجتاح الشخصية العربية والإسلامية بفعل واقع المواجهة الصريحة مع الأطروحات الغربية ذات النزعة الاستكبارية المتعالية والداعية إلى الصدام.{6} كما أن انحياز أغلب الدول الغربية ضد المصالح العربية والإسلامية ومساندتها المطلقة لإسرائيل، يعتبر فشلا لاختبار قدرتها على التواصل والتفاهم، وبذلك ارتدت هذه الثقافة إلى حدودها الإيديولوجية وطبيعتها التوسعية ونزعتها المركزية. فالحديث عن التوفيق إذن لا بد له من مزيد التوضيح، وإلا عبّر عن مخاطرة ثقافية غير مأمونة النتائج.
4: آفاق التّجاوز
لن يكون تصور الحل وصفة إيديولوجية، إذ أن التراث بوصفه قضية كبرى تتطلب قدرا من التمعن والتروي الإجرائي،لأنها قضية عقل وتاريخ ومستقبل، قضية أمة، وكل مسألة لا ينظر فيها بعين نقدية وموضوعية لن تؤول إلى أمان. لابد من التنويه بالكتابات النقدية المعاصرة التي تجاوزت الخطابة والانفعال وحاولت اعتماد قدر من النزاهة والموضوعية في التعاطي مع الموضوع، على نحو ظهرت فيه مطبوعة بالجدية في الطرح والتحليل والاستنتاج ، لأنها ذات رؤى ومشاريع واضحة ومتكاملة الأركان. إن أبرز الخطوات المنهجية التي يمكن التعويل عليها في قراءة جدية وعلمية للتراث لا بد أن تنطلق من الآتي :
أ ـ محاولة الإحاطة قدر المستطاع بالمدونة التراثية، والاطلاع على ذلك الكم الهائل من خلال تصنيفه إلى مجالاته {أدب، فلسفة، تاريخ، تفسير، فقه …} ومراحله الزمنية وتبويب أغراضه .
ب ـ العمل على استنطاق النصوص وفهم مقاصدها وأغراضها بقراءتها وفهمها مع استبعاد الأفكار المسبقة، والمفاهيم المعاصرة إذ لا يمكن منهجيا أن نحاول فهم نص قديم من خلال مصطلحات ومفاهيم حديثة وغريبة عنه، فلكل عصر مفاهيمه ومصطلحاته، ولذلك لا يمكن للبنيوية منهجا حديثا أن تتسق مع النصوص التراثية المتنوعة، لأنها تعتمد منهجا شكلانيا جافا.
ت ـ تحليل هذه النصوص تاريخيا بهدف فهم الظروف الموضوعية التي نشأ فيها النص وتحرك، ويعني ذلك إعادة النص إلى حدوده الزمنية والمكانية، لفهم الآليات والعوامل المساعدة على انتاجه ، كالظرف الثقافي والسياسي، وقيس درجة تناغم ذلك النص مع محيطه العام في مفاهيمه ومقيمه ومواقفه، من حيث اتفاقه أو اختلافه مع السائد المعرفي والسياسي .
ث ـ التصنيف الإيديولوجي هو المرحلة التي تعقب التحليل التاريخي حيث يصل الباحث إلى معرفة الأهداف والخلفيات التي حكمت النص، ويتبين له الغرض الذي صبا إلى تحقيقه والرسالة التي أراد إبلاغها، وبذلك يعي الدور الذي قام به النص والغاية التي خدمها.
ج ـ التقييم : وهو مرحلة ضرورية يقع فيها فرز النصوص التي يمكن أن تشكل رصيدا ورافدا للتواصل مع الحاضر، إما بتطويرها أو تجديد النظر إليها، وهنا لابد من تشكيل لجان متخصصة في شتى مجالات المعرفة والتأليف للقيام بتلك المهمة.
ح ـ الاستلهام والدمج ونقصد في هذه المرحلة الربط مع التراث من خلال دمج المدونة التراثية بعد تبويبها في المجالات المعرفية التي تتصل بها كدمج النصوص الفقهية ضمن المادة القانونية والتشريعية الحديثة ومحاولة صهر الرؤى الأصولية والفلسفية التراثية ضمن الجهود النظرية والعقلانية المعاصرة {7}، وذلك إذا تمكن المختصون من ذلك. ويتطلب هذا الجهد مراكز بحث تشرف عليها الدولة ممثلة في وزارات الثقافة بالعالم العربي والإسلامي كما يتطلب إرادة تضحية وحسا وطنيا وقوميا وإسلاميا عاليا.
خ ـ الاجتهاد والتجديد هو المرحلة التي تتوج الخطوات السابقة وتكملها إذ يصبح العقل أبعد ما يكون عن الرهبة والتهيب والهواجس، وأقرب ما يكون إلى الوضوح والعزم الواعي بالمهمة الثقافية والحضارية الموكولة إليه، وذلك بعد أن يكون على استعداد منهجي لفهم طبيعة العصر والواقع المعيش. إن تدعيم العامل الثقافي أمانة ومسؤولية في أعناق المثقفين والعقلاء من الأمة لأن التجديد لا يتم إلا بإعادة تنشيط العقل ومراجعة الأفكار وبناء الرؤى المستقبلية. وإذا كنا لا نريد القطع مع التراث فإننا لا يمكن أن نظل مرتهنين لحدوده وآفاقه. لسنا مطالبين بإعادة تأول التراث فقط وإنما بقراءة النص القرآني الذي أسس التراث، وذلك باعتباره سلطة معنوية، واضعين في الاعتبار معطيات الواقع ومركزية العقل العلمي في أي مشروع ثقافي بناء وأصيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

{1} الجابري محمد عابد ، التراث والحداثة ، مركز دراسات الوحدة العربية، ط/1، 1991 ص :16

{2} …

{3} غليون برهان، الدولة والدين ، المركز الثقافي العربي، ط/1 سنة 2007ص: 42

{4} توفيق سلوم ، نحو رؤية ماركسية للتراث العربي، دار الفارابي، سنة 1988ص :42
{5} إشارة إلى الشعور بالازدواجية والتناقض لأنه وعي ممزق منفصل منقسم على نفسه.

{6} إشارة إلى كتاب “فوكوياما” “نهاية التاريخ” و فكرة “صدام الحضارات” للفيلسوف الأمريكي “هنتنغتون” .
{7} لمزيد التّوسّع يمكن العودة إلى د.فهمي جدعان في كتابه”نظرية التراث”، دار الشّروق، ط/1، سنة 1985

المصادر والمراجع :
1 ـ القران الكريم، رواية قالون عن نافع المدني
2 ـ د. جدعان فهمي في كتابه”نظرية التراث”، دار الشّروق، ط/1، سنة 1985
3 ـ حسين طه، مستقبل الثقافة في مصر ، دار المعارف، ط/2
4 ـ غليون برهان، الدولة والدين ، المركز الثقافي العربي، ط/1 سنة 2007
5 ـ سلوم توفيق، نحو رؤية ماركسية للتراث العربي، دار الفارابي، سنة 1988


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد