المستوى الإيقاعي في الحديث النبوي الشريف … عزيز العمراني الإدريسي

العمراني الإدريسي عزيز: باحث دكتوراه في علوم التربية – المغرب

مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل القرآن وعلم البيان وصلى الله على من أوتي جوامع الكلم، وروائع الحكم، محمد بن عبد الله، إمام البلغاء، وسيد الفصحاء.

وبعد:

عرف الرماني (ت386هـ) البلاغة بقوله: ” إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ” ([1]) . وقد كانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تطرق الأسماع فتصل إلى القلوب التي تعي ما يقال وتسعى إلى الامتثال. وقد استعان صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذا الإبلاغ والتأثير بمجموعة من تقنيات التعبير، أهمها وضوح المعنى ومراعاة مقتضى الحال والتصوير وجزالة الألفاظ. وسنحاول في هذا البحث الوقوف على خاصية من خصائص التعبير النبوي ويتعلق الأمر بالجانب الموسيقي الإيقاعي والذي يتجاوز إحكام النطق وكيفية الأداء بالمحسنات اللفظية من جناس وسجع إلى ” ترتيب الكلام ترتيبا نفسيا يوافق اهتزاز المشاعر وتموجات النفس ” ([2]) . وهو ما يسمى بالموسيقى النثرية الخفية.

وهكذا يشمل البحث الخطوات التالية:

  • مقدمـــة.
  • المبحث الأول: إحكام النطق وكيفية الأداء.
  • المبحث الثاني: الموسيقى النثرية الخفية.
  • المبحث الثالث: الموسيقى الداخلية للألفاظ والعبارات.
  • المبحث الرابع: السجع.
  • خاتمـــة.

المبحث الأول: إحكام النطق وكيفية الأداء

اتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بمجموعة من صفات الفصحاء، من بينها ضلاعة الفم وحسن الصوت.

فعلى مستوى حسن الصوت، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ” كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل، أو ترسيل ” ([3]).

وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ” والتين والزيتون ” في العشاء، وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه أو قراءة ” ([4]).

وعلى مستوى ضلاعة الفم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، فيعطي لكل كلمة حقها ومستحقها من حيث المخارج وإشباع الحروف. هذا إضافة إلى حسن الأداء حيث كان يعتمد التمهل والإبانة وإعادة الكلام ثلاثا. ورد في الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ” إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا، حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثا ” ([5]). هذا إضافة إلى اعتماد نبرة الصوت للتمييز بين مختلف وضعيات الخطاب (الترغيب، الترهيب، النصح، الإرشاد، الخطبة، الحرب)، والاستعانة بالإشارة والحركة المعبرة.

المبحث الثاني: الموسيقى النثرية الخفية.

يقول الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه البيان النبوي: ” الموسيقى النثرية ليست حركة لفظة وإنما هي كالموسيقى الشعرية صورة حركة نفسية أو هي ترجمة صوتية عن ترجمة للكاتب من شأنها أن تعين اللغة والكلمات على أداء المضمون الروحي للكاتب، وبعبارة أخرى أن تعبر الألفاظ عن المعاني بذواتها فإذا نسقت هذه الألفاظ تنسيقا خاصا اكتسبت من موسيقاها معاني جديدة، وهذا هو الذي يقصده البلاغيون من ألفاظ العذوبة والرقة والجزالة والفخامة، والطلاوة والسماحة التي تفصح عن موسيقى الأدب وأثرها في نفوسهم ” ([6]) .

وهي تتجاوز المحسنات البديعية من سجع وجناس وتواز ومقابلة إلى ترتيب الكلام ترتيبا نفسيا، يوافق اهتزاز المشاعر، وتموجات النفس بأن يعبر الأديب عن خواطر تطرد وتتدفق منسجمة في نسق خاص، فكأن سلكا خفيا ينظمها نظم الدر، وهذا ما يعرف بالموسيقى الخفية.

ويرى الدكتور محمد البيومي أن من علامات هذه الموسيقى أن القارئ لو سكت فجأة لشعر السامع بوجود نشاز ما، ولعل هذا الحديث النبوي الشريف مثال جلي في ذلك، روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ” ([7]) .

ففي الحديث تنسيق محكم للمعاني في معرض دقيق من الألفاظ، حيث تشعر ببناء محكم لو حذفت لبنة لانهار الجدار بأكمله، إنه بمثابة سلم نصعد أدراجه الواحدة تلو الأخرى ونترقى من فكرة إلى أخرى وفق ما يتصور الذهن وما يناسب الإحساس.

المبحث الثالث: الموسيقى الداخلية للألفاظ والعبارات.

بالنسبة للموسيقى الداخلية للألفاظ والعبارات، فقد كانت ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم منسجمة الأصوات والحروف، وتتمتع بجرس موسيقي هائل يريح الأذن ويتناسب والسياق، ويتضح ذلك من حديث البراء بن عازب الذي رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرا ” ([8]) .

ففي الحديث كرر حرف التاء اثنتي عشرة مرة وهو صوت مهموس يتناسب وجو النوم الهادئ حيث الطمأنينة والسكينة مادام العبد يتوجه إلى الله عز وجل ويسلم نفسه إليه وهذا سر تكرار لفظة ” إليك ” التي كانت بمثابة قفل أو فاصلة تنهي مقاطع الحديث.

والملاحظ هنا أن تكرار هذه اللفظة لم يشن الكلام، بل زانه وأكسبه جمالا وإيقاعا موسيقيا. وهذه الألفاظ لا بد أن تشاكل المعاني و تتناسب معها حيث يخدم إيقاع اللفظ معناه ودلالته. ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن حبان من حديث ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ” ([9]) .

فكلمة يغرغر هنا ساعدت على تصوير المعنى وتقريبه إلى ذهن السامع لأنها تحكي صوت من يحتضر ويصارع الموت.

المبحث الرابع: السجع

أما السجع فقد عرفه الخطيب القزويني (ت 739هـ) ([10]) بأنه: تواطؤ الفاصلتين، وهو في النثر كالقافية في الشعر وهو ثلاثة أنواع:

أ- السجع المطرف: وهو ما اتفقت فيه الفاصلتان في الحرف الأخير واختلفت في الوزن، ومثاله ما رواه ابن حبان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ” رب تقبل توبتي، وأغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي ” ([11]). نلاحظ أن دعوتي وحجتي تتفقان في الفاصلتين ” تي ” وتختلفان في الوزن.

ب- السجع المتوازي: ما اتفقت فيه الفاصلتان في الحرف الأخير والوزن، ومنه ما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ” ([12]). نلاحظ تشابها في الحرف الأخير، وفي الوزن بين زانه وشانه.

ج- السجع المرصع: وهو ما اتفقت فيه كلمات الجملة الأولى مع كلمات الجملة الثانية في الوزن والحرف الأخير، ومثاله ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ” ([13]) .

فهذا التوازن والتقابل أكسب الحديث لحنا وإيقاعا، إذ أن الجملة الثانية لا تزيد عن الجملة الأولى بشيء ف ” أعط ” الثانية قابلت الأولى، وهما معا فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وممسكا قابلت منفقا، وهما معا اسم فاعل منصوب باعتباره مفعولا به، وتلفا قابلت خلفا، وهما مصدران على نفس الوزن أيضا، ومنصوبان باعتبارهما مفعولا به ثانيا.

وتجدر الإشارة إلى أنه من الخطإ التكلف في الموسيقى الداخلية وجعلها أداة توجه معاني الكاتب، وإلا صارت ضريبة مفروضة كالبديع الذي حين يتكلف فيه ويخرج عن المعنى المطبوع يصبح مكروها؛ لأنه عوض أن يزين الكلام يقبحه وينزل به إلى أحط الدركات. ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سجع الكهان لما فيه من تصنع وتكلف واضحين.

ولعل سياق النهي يوضح ذلك، فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء في البخاري ([14]) من رواية أبي هريرة، بدية لجنين قتلته امرأة من هذيل وأمه الحبلى به، فقال ولي المرأة التي غرمت: يا رسول الله كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فاستشعر النبي صلى الله عليه وسلم التكلف والتصنع، ونهى عن هذا النوع من السجع؛ لأنه شبيه بسجع الكهان. إذن فالنهي لا يشمل جميع أنواع السجع وإلا ما وجدنا الأحاديث المسجوعة في كلامه صلى الله عليه وسلم.

خاتمـــة:

نخلص من خلال هذا البحث أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتاز بمجموعة من الصفات الدالة على بلاغة كلامه وفصاحة لسانه، والمتمثلة في:

– جمالية الصوت.

– حسن الأداء.

– التناسق بين عبارات كلامه للتأثير على نفسية المخاطب.

– التناغم في الإيقاع الداخلي للحروف والكلمات والعبارات التي كان يستعملها.

– المحسنات البديعية وخاصة السجع والجناس.

كل هذه الصفات ساهمت بشكل كبير في نجاح حواراته صلى الله عليه وسلم مع الآخر، وفي إبلاغ رسالته.

الهوامش:

([1]) النكت في إعجاز القرآن، للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلو إسلام، دار المعارف، مصر، الطبعة: الرابعة، ص:75.

([2]) البيان النبوي، لمحمد رجب البيومي، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1407هـ-1987م، ص:249.

([3]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.

([4]) صحيح البخاري، كتاب الأذان-أبواب صفة الصلاة-، باب القراءة في العشاء، تحقيق الدكتور مصطفى البغا، الطبعة: الأولى، مطبعة الهندي، دمشق، 1976م.

([5]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.

([6]) البيان النبوي، للبيومي: 250.

([7]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية، 1414هـــ-1993م.

([8]) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ” أنزله بعلمه والملائكة يشهدون “.

([9]) صحيح ابن حبان، كتاب الرقائق، باب التوبة، صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية، 1414هـــ-1993م.

([10]) الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح وتعليق وتنقيح محمد عبد المنعم خفاجي، الجزء الثاني، المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة: الثالثة، 1413هـ/1994م: 6/109.

([11]) صحيح ابن حبان، كتاب الرقائق، باب الأدعية.

([12]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق.

([13])صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: ” فأما من أعطى واتقى “.

([14])صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الكهانة.

لائحة المصادر والمراجع:

  • إعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي، تحقيق سعيد العريان، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425هـ-2005م.
  • الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح وتعليق وتنقيح محمد عبد المنعم خفاجي، المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة: الثالثة، 1413هـ/1994م.
  • البيان النبوي لمحمد رجب البيومي، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1407هـ-1987م.
  • الحديث النبوي، مصطلحه، بلاغته، كتبه، علومه، للدكتور محمد بن لطفي الصباغ، الطبعة: السادسة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1972م.
  • سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.
  • الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية، لمحمد بن عيسى الترمذي، تعليق عزت عبيد الدعاس، الطبعة: الأولى، دار الإرشاد، حمص، 1991م.
  • صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية، 1414هـــ-1993م.
  • صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا، الطبعة: الأولى، مطبعة الهندي، دمشق، 1976م.
  • صحيح مسلم، تحقيق فؤاد عبد الباقي، الطبعة: الأولى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1375هـــ-1955م.
  • النكت في إعجاز القرآن للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلو إسلام، دار المعارف، مصر، الطبعة: الرابعة.

نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد