ابن الرومي في مرآة العقاد … ربيع عبد العزيز

دكتور ربيع عبد العزيز: أستاذ النقد الأدبي والبلاغة والأدب المقارن، كلية دار العلوم، جامعة الفيوم.

للعقاد مكانته المرموقة في إبداع الأدب ونقده، ولابن الرومي تراث شعري بالغ الضخامة، وله شهرته الواسعة، لا بين شعراء العصر العباسي فحسب، بل في أدبنا العربي الحديث أيضا.
ويعد العقاد من الرواد الذين أرسوا بكتاباتهم مباديء المنهج النفسي في نقدنا العربي الحديث، وهو صاحب الرأي النقدي المدوي الذي يقول فيه: إن الشاعر الذي لا يعرف من شعره لا يستحق أن يعرف ولو كانت له عشرات الدواوين.
ومن هذا المنطلق أخضع شعر ابن الرومي لمباديء المنهج النفسي في النقد، ومضى يتقصى حياة ابن الرومي ويفتش عن دقائقها في شعره.
وكان من أثر ذلك أن خلص إلى نتائج نقدية عديدة تمس الحاجة إلى مراجعة بعضها؛ فمنها أن ابن الرومي رأيه في أن ابن الرومي كان لاذع الهجاء لإحساسه بضآلة الشأن واختلال الأعصاب، بحيث كان إقذاعه في الهجاء بمنزلة السيف الذي يشهره في وجه أعدائه، والذي يثني به سلفا من يفكر في إيذائه.
ومنها أن ابن الرومي كان شديد التطير وأن الجناس في شعره مرتبط أقوى الارتباط بتطيره، بل لقد قصر العقاد جناسات ابن الرومي على تطيره، فإذا لم يكن متطيرا فلا جناس!
ومنها أن ابن الرومي كان يستقصي المعاني حتى ينهكها إنهاكا حتى لا يدع مزيدا لمستزيد، وكان يحكم قصائده إحكاما يتعذر معه حذف بيت من القصيدة أو زحزحة بيت عن موضعه، كل ذلك ربطه العقاد بالعقلية الرومية التي تحسن التقصي وإحكام البناء على نحو لم تستطعه عقليات الشعراء العرب الخلص.
ومنها- أخيرا- أن ابن الرومي نظم على المهجور من حروف الروي في شعر أفحل الشعراء العرب، ليدرأ عن نفسه ظنة العجمة، وليثبت أنه قابض على زمام اللغة على نحو يميزه من الشعراء الذين تجري في عروقهم دماء عربية خالصة.
وأبادر-أولا وقبل كل شيء- إلى القول بأن شعر الشاعر ليس بالضرورة أن يكون مرآة لحياته جليلها وحقيرها، وأن مهمة الناقد لا يمكن أن تقتصر على البحث عن شخصية الشاعر في شعره، وإنما تمتد مهمة الناقد إلى فحص خصائص التراكيب، ووضع اليد على البصمة الأسلوبية للشاعر، ومعرفة المتفرد من صوره والأبكار من معانيه، وقدرته على الاشتقاق والاختيار والتوزيع وما إلى ذلك مما لم يتطرق إليه العقاد حين جعل البحث عن حياة الشعراء غاية رئيسة لا تضاهيها غاية من غايات النقد.
وإذا اختبرنا مدى صحة رأي العقاد في ربط تشاؤم ابن الرومي باختلال أعصابه فسوف نكتشف أن العقاد نَصَّبَ نفسه محللا نفسيا أو طبيبا متخصصا في اكتشاف آفات النفس وعللها، وأنه بدلا من أن يخضع لشعر ابن الرومي ويغوص فيه باحثا عن جمالياته، أخضع ابن الرومي ممثلا في شعره لمقولات علم النفس عن الكبت والفصام والنرجسية والوسوسة والتطير، تماما كما يفعل المتخصصون في علاج الأمراض النفسية في راهن أيامنا. وكان من أثر ذلك أن تغافل لا عن بناء الجملة في شعر ابن الرومي فحسب، بل عما في شعره من أساليب إنشائية : نداء واستفهام وأمر ونهي وتمن، مع أن هذه الأساليب بصفة عامة وأسلوب الاستفهام بصفة خاصة يمكن أن تكون مؤشرات قوية الدلالة على شخصية ابن الرومي!
إن الذي يقذع في هجائه لايمكن أن يكون مختل الأعصاب أو قوي الشعور بالاغتراب وضآلة الشأن؛ بدليل أن حسان بن ثابت أمطر قريشا بأقذع الصفات وهو بين أبناء قبيلته من الخزرج وإخوته من المهاجرين والأنصار. ولم يكن جرير أو الفرزدق يعاني اختلالا عصبيا، أو شعورا بالغربة، أو توجسا من مخاطر لا قبل لأحدهما بها، بل كان كلاهما بين ظهراني قبيلته ، وكان كلاهما يهجو الآخر بأحط النعوت السالبة لكل فضيلة تمجدها العرب.
وغير صحيح ما ذهب إليه العقاد من أن الجناس في شعر ابن الرومي ثمرة أصيلة لتطيره، وأسباب ذلك عديدة؛ منها أن لابن الرومي جناسات لا حصر لها لا يمكن أن تفيض عن نفس منقبضة بالغة التشاؤم. هذا سبب.
وسبب ثان هو أن ربط الجناس في شعر ابن الرومي بالتطير يفنده أن أبا الفتح البستي من أكثر الشعراء العرب تعاطيا للجناس ولم يرد في أخباره ما ينم من قريب أو بعيد عن أنه كان متشائما كثير التطير.
الجناس أداة لصيقة بالفن كما يقول الدكتور مندور، ولا علاقة له بما تضطرب به نفس الشاعر من العلل والأدواء.
وأما أن رومية ابن الرومي تقف وراء استقصائه المعاني وإحكام بناء قصائده بحيث يتحقق فيها مبدأ الوحدة العضوية؛ التي طالما ألح العقاد في البحث عنها، والتشهير بأحمد شوقي لتفكك أوصال قصائده، فتلك نتيجة لم يدعمها العقاد بشواهد من شعر شاعر تجري في عروقه دماء رومية كابن رشيق القيرواني.
حقا هناك قصائد عديدة تماسك بناؤها في شعر ابن الرومي، ولكن هناك قصائد يمكن زحزحة أبيات منها عن مواضعها وخاصة عندما يتعذر تحديد مراجع الضائر.
وأما أن ابن الرومي راض، في روي قصائده، أعصى الحروف ونظم على المهجور من الروي في شعر أفحل الشعراء‘ فتلك نتيجة صحيحة نسبيا، ولكنها بحاجة إلى اختبار حروف الروي في أشعار الشعراء العرب بدءا من العصر الجاهلي مرورا بعصر النبوة والراشدين وكذلك العصرين: الأموي والعباسي، وهو إجراء يحتاج إلى إعداد معاجم بحروف القوافي في المحقق من دواوين الشعر العربي القديم، وإلى أن يتم ذلك تظل نتيجة العقاد تحتمل الثبات والصدق من ناحية، وتحتمل الاهتزاز والتفنيد من ناحية أخرى.. هذه ملاحظة.
وملاحظة أخرى هي أنه ليس بالضرورة أن يكون دافع ابن الرومي إلى تعاطي المهجور والعصي من حروف الروي، هو رغبته في أن ينفي عن نفسه ظنة العجمة، فقد يكون راغبا في أن يثبت لنقاد عصره أنه الأحرى باهتمامهم.
ومهما يكن من أمر فقد حجبت آراء العقاد التي خلص إليها في دراسته عن ابن الرومي العديد من الأضواء النقدية التي يستحقها شعر ابن الرومي؛ ذلك أن بعض نفوذ العقاد يجعل العديد من الدارسين يتهيبون من مساءلة رأي العقاد في جناس ابن الرومي أو الوحدة العضوية في شعره.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد