التغريبة الإنسانية في الشعر الجاهلي … عادل بوديار

د. عادل بوديار: كلية الآداب واللغات – جامعة تبسة – الجزائر

تمهيـد:
يمتلك الشعر مقدرة خاصة تمكن الشاعر من تقمص الأفعال على مستوى الكلمة بدافع من الانفعال المثير للرغبة في البناء، وإعادة التوازن لعناصر الحياة التي قد تعمل النواميس الكونية المختلفة على الإخلال بتوازنها، وهو ما يجعل القصيدة الشعرية تمثل الوجود المستقل عن الذات الإنسانية الواعية لما تكنُّه من حقائق تخرج إلى الوجود بالفعل من اللاوعي الإنساني الذي يختزن مجموعة من الرؤى القابلة للصياغة، وإعادة التناسق، والانسجام، والتي يمكنها التجلي من خلال العمل الإبداعي الذي يمثل « محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع، لا الماضية فحسب، وإنما المستقبلية أيضا، ولا ينحصر في الأحداث الخارجية وحدها، وإنما يشمل التجارب الذاتية » أيضاً التي يمر بها المبدع في لحظات حياته، التجارب الجماعية التي عاشها في مجتمعه.
1. الطبيعة الصحراوية:
ظلَّ الشعر الجاهلي يمثل نوعا من أنواع الحركة الدقيقة التي كان الشاعر الجاهلي يوظفها في شعره لرصد واقعه إما عن طريق الوصف التقريري أو عن طريق الخيال المبدع؛ وكانت محاولته تلك تعكس ـ في جانب منها ـ صراعه مع بيئته الطبيعية الصحراوية التي حرمته الاستقرار؛ إذ تعد جزيرة العرب من « أشد البلاد جفافا وحرارة، على الرغم من كون البحر يحيط بها من ثلاث جهات، إلا أن هذه المساحات من الماء لم تستطع أن التقليل من حدة ارتفاع الحرارة في تلك الجزاء الواسعة النادرة الأمطار، فدرجة الحرارة في داخل الجزيرة العربية مرتفعة عادة ولا تهبط في الصحراء.. فالجو البحري لم يتغلب على ظاهرة الجفاف؛ لأنه لا يكاد يصل إلى أواسط الجزيرة بسبب مقاومة رياح السموم الشديدة الحرارة التي تمنعه من التغلغل داخل الجزيرة » ، لذلك كان يرى أن مجرد الضرب في الفلوات والقفار ممتطياً ظهر ناقته يعد حركة وفعل هام وجوهري في تقييمه لنفسه وبنفسه، وكانت تعكس أيضا في جانب آخر منها صراعه مع بيئته الاجتماعية التي حرمه تفرده كذات مبدعة، وحرمته إنسانيته حيث كان سجين القيم القبلية، لذلك وجدنا أن حضور البيئة الصحراوية بصورها وما كان يرافقه من تجسيد الشاعر لأحاسيس القلق، والوحشة، والخشونة، وقسوة الطريق … في شعره، لم تكن إلا أنماطا تعبيريه عمد إليها لإثبات ذاته أمام الطبيعة :
وَهَـــاجَرةٍ كَــأوَارِ الْجحِيــمِ قَطَعْتُ إذَا الْجنْـدُبُ الجـوْلانُ قَــالاَ
ويبدو أن الظروف البيئية الطبيعية الخاصة التي تميزت بها الصحراء العربية وما كان يحدث فيها من تغيرات مناخية مختلفة من شدة للحرارة، وقلة للمياه، وشح للأمطار، وهبوب قوي للرياح الحارة الحاملة للرمال، استرعت جميعها انتباه الجاهلي الذي راح يراقبها، ويتابع حركتها وسكونها باهتمام بالغ، فوصف مظاهرها المتنوعة، ورسم لوحات شعرية جميلة كشف في بعضها عن إعجابه بجمال المناظر الطبيعية، وتنوع أشكال الحياة الطبيعية الصحراوية، وأبرز في بعضها الآخر خوفه ورعبه من مجاهل الحياة الصحراوية، وقدرتها على البطش به كإنسان ضعيف لا يمتلك من مكوناته البيولوجية ما يجعله يقاوم قسوة الطبيعة، فلولا عقله ـ الذي كرَّمة به الله ـ والذي هداه إلى اتخاذ أسباب مكنته من التعايش مع الطبيعة والإفادة منها، لكان الزوال مآله الأخير، فهو في صراع أزلي معها، بل إنه يتباهى ويفتخر بتحديها والانتصار عليها في جولة من جولاتها :
وتنــوفةٍ جَــرْدَاءَ مَهْلَـكَــةٍ جَـاوَزتُــها بنجـــائِبٍ فُتْــلِ
ولأن الطبيعة الصحراوية يميزها الحرّ الشديد نهارا، والبرد القارس ليلا، وندرة المياه، والقحط، والمحل الذي كان يدوم أياما وأعواما، فإن الجاهلي كان شديد التعلق بكل ما يمكنه أن يضمن له استقرارا بيئيا أو اجتماعيا، فهو في بحث دائم عن الأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي اللَّذين عبر عنهما القرآن الكريم في قول الله تعالى: ﴿ لإِيلافِ قُرَيْشٍ [1] إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [2] فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [3] الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [4]﴾[ سورة قريش]، وهو في ترحال دائم في سبيل اقتفاء أثر الحياة، واكتشاف مواطن العيش، إذ كان « العرب أزمان النجعة، ووقت التبدي، يراعون جهات إيماض البرق، ومنشأ السحاب، وجلجلة الرعد، فيؤمون منتجعين لمنابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، ويخيمون هناك ما ساعدهم الخصب، وأمكنهم الرعي ثم يقومون بطلب العشب، وابتغاء المياه، فلا يزالون في حلٍّ وترحال » يمارسون مع الطبيعة الكرَّ والفرَّ، همهم في معركتهم مع ظروفهم البيئية الفوز بالماء و تتبُّع مساقط المطر، و منابت الغيث، لذلك وجدنا الجاهليين يخشون الصحراء بما كانت تعنيه لهم من قوة قادرة على تدمير الحياة من خلال فعل الحرمان الذي تمارسه الطبيعة؛ فهي التي ظلت رافعة سلاح الحرمان في وجه الجاهلي، حرمان من الماء، وحرمان من الأمن :
وَقُـفٍّ تَظَـلُّ الرِّيــحُ عَاصِفَـةً بِهِ كَأنَّ قَرَاهُ في الضُّحَى ظَهْــرُ هَـوْزَبُ
شَجَجْتُ الصُّوَى مِنْ رَأْسِهِ أوْ خَرْمَتهُ بِشُعْـثٍ وأَنْقَـاضِ الوَجِيـفِ المـأوِّبِ
وَقَدْ وَقَفَتْ شمْسُ النَّهَـارِ وَأوْقَـدَتْ ظَهِيرَتُهَـا مَــا بَينَ شَـرْقٍ َو مَغْـرِبِ
وَدِيَقِـة يَـوْمِ ذِي سَمُـومٍ تَنـَزَّلَتْ بِهِ الشَّمْسُ في نَجْـمِ القَيْــظِ مُلْهِـبِ
وَقَدْ ظَـلَّ حِرْبَـاءُ السَّمُـومِ كَـأنَّهُ رَبِيئَـةُ قَــوْمٍ مَاثِـلٌ فَـوْقَ مَرْقَـبِ
ولكن الجاهلي الذي ظلَّ مُؤرَّقا بمظاهر البؤس البيئي الذي خيَّم على بيئته الطبيعية الصحراوية لم يستسلم لشقائه البيئي؛ لأن حضور الطبيعة في شعره لم يكن مجرد وصف لمظاهر طبيعة، بل إن حضورها كان يمثل عنصراً قوياً من عناصر بيان العلاقة بين الجاهلي وبين محيطه الطبيعي، « ولذا نراه قد حول المظاهر القفرية إلى تقييم لـه هو وإثبات وجوده وقدرته بدلا من امتثال لها والبكاء أمامها، وهنا وضعت الطبيعة الجاهلية اللبنة الثانية في تكوين الإنسان الجاهلي، لبنة حب التحدي وإثبات الذات، على الرغم من إحساسه العميق بالحقيقة السرمدية التي تتجسد في نفسه أولاً، والطبيعة من حوله ثانياً، فهو الهالك الفاني، والطبيعة الثابتة اللابسة لثوب البقاء والخلود. ومن هذه الصلة يحدث للشاعر الجاهلي التصور والتأمل، ومن الوحدة تنجم جملة من الأحاسيس العاطفية، وإذ يظل المطلق الأرضي هو الحافز على التيه النفسي والخيال، والتفرد، يظل يجذب الذات نحو الحركة في الداخل » ، والجاهلي في ضوء هذا التحدي كان يترجم ما كان يعانيه في قصيدة تتألف من مظاهر الوجود المختلفة التي أدركها إدراكا وجدانيا عن طريق الحواس بواسطة عين سحرية، ينفذ من خلالها إلى أعماق الأشياء فيبصر ما لا يبصره سواه، ويبلور هذا الإدراك في لغة شعرية تصور الأشياء وتركبها في صور شعرية بديعة وجديدة « ليستلمها الناس من جديد فتصبح مرة أخرى جزءا من تجاربهم » ؛ لأن الشعر يعتمد على شعور الشاعر بنفسه، وبما حوله شعورا يتجاوب هو معه، فيندفع إلى الكشف فنيا عن خبايا النفس أو الكون ، استجابة لهذا الشعور الذي يخالجه في لحظة من لحظات حياته؛ لأن ما تفيض به الطبيعة من صور مختلفة تكون مشحونة بدلالات موضوعية بسيطة، ولكنها لا تخلو من دلالات نفسية، وخيالية، ومثالية في الوقت نفسه، إذ من الطبيعي أن يبحث الشاعر الجاهلي عن وسيلة لتخفيف حدة الانفعال والرؤية.
2. المطر وقهـر الجدب:
لقد شكَّل المطر أهم مصادر الماء في البيئة الصحراوية الجاهلية التي ميزها الجدب والقحط، وندرة المياه، لذلك نجد الجاهلي قد أولى المطر عناية خاصة، وأكثر من ذكره في أشعاره حتى غدا معلماً رئيساً في بناءها لما كانت تحمله صورة المطر من دلالات معرفية، وقيم فنية جمالية متنوعة، فهو « يرى في الماء معاني الحياة المختلفة … وأنه كان أدق بصيرة وأنفذ فكرا، وأرقى تصورا مما كانوا يتوهمونه في البدوي الجاهل » ، وما دام الشعر الجاهلي ـ بوصفه تراكما معرفيا ـ يمثل المدوَّنة التي تحيلنا على ثقافة وفلسفة العصر الجاهلي، فإن ذلك أعطى النص الشعري الجاهلي الذي وصف المشهد المطير قدرة مكنّته من اختزان أبعاد كثيرة ومختلفة (إنسانية، ونفسية، ومعرفية، واجتماعية، وتاريخية..) لم يقلها الشاعر صراحة وإنما قدمها في شكل صور شعرية كثيفة الدلالات كانت تتشظى وتفيض بوهج من التوقعات التي تغرينا لنتماهى في فضاء النص، ونقتبس من نور يقين الشاعر :
كَمْ قَطَعْنَــا دُونَ سَلْمَـى مَهْمَهًــا نَـازِحَ الغَـــوْرِ إذَا الآلُ لَمَـــعْ
في حَـرُورٍ يُنْضَـجُ اللَّحْــمُ بِهَــا يَأخُذُ السَّــائِرَ فِيهَــا كَالصَّقَــعْ
وَتَخَطَّيْـتُ إِليْهَــا مِنْ عُـــدًى بِزَمَـاعِ الأَمْــرِ وَالهَــمِّ الكَنِــعْ
إنَّ سيطرة هاجس الخوف من الجدب والقحط والمحْل على فكر الجاهلي أقنعه باستحالة وجود حياة في غياب عنصر الماء في بيئة صحراوية جافة قاحلة، ولعله السبب الذي جعله يبالغ في الاهتمام بالماء، والمطر، والسحاب، وكل المظاهر الطبيعية الدالة عليهما من برق، ورعد، وصواعق، والرياح، وغيرها … وربما دفعه حرصه على الماء إلى معرفة أحوال المطر والسحاب، حتى صار على معرفة بالأنواء، ومساقط الغيث، والمطر، وأمكنه أن يشيم البرق ويتعرف على أمارات الغيث، وأن يتتبع الأماكن التي ينزل بها المطر ببراعة تدعو إلى الإعجاب، فقد كانت العرب تنسب المطر إلى نوء النجم، وتجعله عَلما للمطر ووقتا له، كما يجعلون الشتاء للبرد وقتا، والقيظ للحر وقتا، فيقولون: “مطرنا بمطر الثريا”، أو يجعلون الفعل للكواكب فيكون عندهم هو الذي أنشأ السحاب، وأتى بالمطر ، حتى ذكرت كتب الأنواء أن الاستسقاء بالنجوم كان من أهم المعتقدات الجاهلية :
سَقَـاهَا وَإنْ كَـانَتْ عَلَيْنَـا بخِيلَــةً أَغَرُّ سمَاكِيُّ أَقَادَ وَأَمْطَرَا

يَمَانيَّـةٌ تُمـْرِي الرَّبَــابَ كَــأنَّهُ رِئَالُ نَعَامٍ بَيْضُهُ قَدْ تَكَسَّرَا

وفي سبيل المطر كان الجاهلي يسهر الليالي، ويأرق في شيم البرق بعدما رأى في المطر القوة العظمى القادرة على قهر الجدب، والمحل، والتي يمكنها أن تبعث الحياة من جديد، لذلك نجد أن الصورة الشعرية التی رسمها الشاعر الجاهلي للمطر حملت في ثناياها صور الخصب، والحياة، والانبعاث، وفيها بدا الشاعر مناجيا، ومبتهلا من أجل نزول المطر وبث الحياة علی الأرض؛ « لأن الإنسان هنا، في هذا الوسط، كان يتعامل مع الطبيعة في حال عُذْريَّتها، أو قل في حال وَحْشِيَّتها » ، إنها الطبيعة الأم التي مثلت مصدر حياة المبدع ومصدر إلهامه.
وليس من شك في أن وصف الشاعر الجاهلي للمشهد المطير كان يبعث في نفسه بهجة وفرحة وأريحية يستمدها من تلك المشاهد المفعمة بالحركة والحيوية، والتي تشي بأنَّه كان شديد التأمل لواقعه البيئي فرغب في خلق قوة موازية تمكنه من كشف أسرار ذلك الواقع، والتعبير عن نفسه وعواطفه من خلاله، وهذا يعني أن القصيدة الجاهلية مثلت عاملا فنيا ساهم في كشف عقدة النقص التي ظل الجاهلي يعانيها في بيئته الصحراوية، إذ دفعه هذا الشعور إلى صناعة عالم مثالي يفيض خصبا، فهو يدرك أنه عاجز عن التحكم في مظاهر الطبيعة، ولكنه أحس أن تسجيل ما يراه ماثلا أمامه من أحداث الطبيعة سيخفف عنه الضغط النفسي، وهو يفعل ذلك لأن عاطفته تكشف له الحقائق الباطنية الكامنة وراء المظاهر الطبيعية، إذ ليس في النشاط الإبداعي « شيء لا دلالة أو لا وظيفة له، ولكن الدلالات والوظائف متنوعة ومختلفة لا تقع تحت حصر، ولعل الدلالة الشعرية من أغمض الدلالات وأعقدها وأدقها، فالشعر إدراك فني مجسد باللغة.. للعالم وأشيائه.. ودلالته الفنية مرهفة تتدثر بالغموض أحيانا كثيرة.. [ وهذا الإدراك الفني يكون ] استجابة لحاجات جمالية في واقع تاريخي اجتماعي محدد، وجزء من بناء ثقافي عام معبر عن مرحلة اجتماعية من مراحل تطور المجتمع، ولذا فإن الشعر لا يعبر عن ذات الشاعر فحسب، بل يعبر عن روح عصره أيضا » ؛ كما يعبر عن فكر الجماعة كذلك :
وَغَيْـثٍ مِنَ الوَسْمِــي أَسْحَــجَ فَارْتَوَى مِنَ المـاءِ حَتَّى ضَـاقَ بِالْمـاء طَالِقُه
أَجَشَّ دَجُوجِيٍّ إذَا جَــادَ جَــوْدَةً عَلَى البِيـدِ أوْفَـى وَاتْــلأَبَتْ دَوَافـِقُه
مُلِــثٌّ فُوَيْـقَ الأَرْضِ دَانٍ كَأنَّــهُ دُجَى اللَّيْـلِ أرْسَى يَفْحَصُ الأرْضَ وَادِقُه
هَزِيم يَسُـحُّ المــاءَ عَنْ كُلِّ فِيقَــةٍ مُــزْنٍ كَثِيرٍ رَعْـــدُهُ وَ بَـــوَاتِقُه
ولأن النص الشعري الجاهلي نتاج وعي الواقع، ووريث امتداداته التاريخية، وآفاقه في الحضارة الإنسانية، فإنه في الوقت نفسه ينتمي إلى الشاعر كإنسان … إنه تجربته الحياتية، وجربته مع الناس، وجربته مع الأرض، إنه تفاعل كل هذا مع النفس الإنسانية، ومع وعي الإبداع كطاقة تعبيرية وموقف ؛ لأن الشاعر الجاهلي من خلال شعر الطبيعة كان يعبر عن لحظة راهنة منحته شعور الاندماج مع الكون، وشعور الاندماج مع ذاته المبدعة، إنها اللحظة المثالية التي كثيرا ما حلم بها والتي أخرجته من حيز الرؤية الفردية الضيقة التي لا تتجاوز المصلحة الفردية إلى حيز الرؤية الإنسانية الواسعة، إنها اللحظة التي أخرجته من التعبير التعبيري إلى التعبير الرمزي :
إذَا جَلَّلَتْ أَعْجَـازُهُ الرِّيـحُ جَلْجَلَتْ تَوَالِيــهِ رَعْــدًا فَاسْتَهَلَّتْ رَوَاتِـقُه
إذَا مَا بَكَـى شَجْـوًا تَحَيَّـرَ مُسْمِحٌ عَلَى الجَــوْفِ حَتى تَتْلَئِـبَّ سَـوَابِقُه
فَأقْلَـعَ عَنْ مِثْـلِ الرِّحَـالِ تَـرَى بِهِ خَاظِيـلَ أَهْمَــالٍ تَجُــولُ حَـزَائِقُه
ويبدو أن غلبة الأسلوب التصويري على موضوعات وصف الطبيعة كان هو الملمح البارز في الشعر الجاهلي، بما في ذلك وصف السحاب، والبرق، والمطر الذي استمد الشاعر الجاهلي من هطوله ودفعاته، وتواليه، وسيوله صورا متنوعة وظفها لبث الحركة في كثير من صور الطبيعة الجاهلية التي ميزها نوع من « التمازج والاقتران بين التقليدية، والذاتية الفردية، فتتجلى التقليدية في وجود إطارات الأغراض، والمواضيع المحددة، هذه الأغراض التي تشكل القسم الأساسي التصويري من القصيدة ـ الرعد، والمطر بمختلف أشكاله، والغيوم والسحب (الغيوم الممطرة، والغيوم المتهدلة الأطراف، والسحب البراقة الربيعية الممطرة، والسحب الجافة التي لا تحمل المطر..)، والكثبان الرملية، المغطاة بالخضرة النادرة، وأدغال النخيل، والوديان بجداولها، والمروج، والربوع المزهرة، أما الذاتية فتتجلى في الظلال النفسية التي يسقطها الشاعر على هذه الأطر؛ الظلال المنبعثة من تجربته الذاتية والتي يعبر عنها بطريقته التعبيرية الخاصة » ، والتي لم يكن له بد من التعبير عنها إلا بواسطة الشعر، ولأن الشعر كإبداع فني لا يكتسب « البعد الإنساني إلا من خلال تشابك عناصر التجربة، وبخاصة في بعدها المكان زماني، فعلى قدر وعي الأديب بالواقع الذي يعايشه، وإدراكه لطبيعة الصراعات والعلاقات فيه يتضح موقف الفكر إزاءه، وتتحدد فلسفته في التعبير الفني معه » عن ذلك الواقع؛ فالشاعر الجاهلي لم يكن بدائيا في فكره بقدر ما كان بسيطا في وسائل عيشه، بعدما أكسبته تجاربه في حياته وهو ما يثبت بأن جهله كان جهلا دينيا، ولم يكن جهلا فكريا.
3. قوة الطبيعة وفاعلية المطر:
لمَّا كان الشاعر الجاهلي وهو يتأمل المشهد المطير ينظر إلى الظاهرة الطبيعية وفق منظوره التقليدي البسيط الذي كان يرى في الأشياء غير صورتها الظاهرية، فإنه من خلال تلك الرؤية أمكنه تقديم مفاهيم مختلفة عن عالمه الطبيعي، حيث نجده كثيرا ما يفاجئنا حين « يحيل المعطيات الأساسية أو الرموز ذاتها إلى أشياء لها أبعاد جديدة، هنا تكتسب الصورة كثافة فريدة وتصبح بالمدلول الحرفي للكلمة نقطة إضاءة في جسد القصيدة كلها، ونقطة يسقط عليها الضوء في الوقت نفسه » ، فتتوهج الصورة وتشع بألوان الحياة التي لا تتجلى خارج إطار الشعر، إذ تعبر اللغة الشعرية عن حركة الذات وتفاعلها مع الآخر، كما تتفاعل الألوان وتنسجم لتظهر صورة غاية الجمال والروعة.
وهذا يعني أن القصيدة الجاهلية التي وصفت مظاهر الطبيعة جسدت فكرة الصراع بين الشاعر الإنسان والطبيعة في جانب منها، ولم تقنع بمظاهر الجمال البشري إلا حين قرنته إلى مظاهر الجمال الطبيعي؛ حيث كانت هذه القصيدة تأتي دوما محملة بمعاني طبيعية، وكانت تتشكل من صور رمزية مثل: “الصحراء، البرق، المطر، الناقة، الثور الوحشي..” إذ إنَّ التجربة الشعرية الجاهلية في علاقتها بالطبيعة استطاعت أن تستوعب هموم الجاهلي بعدما جمعت كل المشاغل الإنسانية :
هَلْ هَاجَـكَ اللَّيْــلَ كَلِيــلٌ عَلَى أسْمَــاءَ مِنْ ذِي صُبُــرٍ مُخَيَّــلِ
أَنْشَــأَ في العَيْقَــةِ يَرْمِــي لَـهُ جَـــوْفُ رَبَــابٍ وَرِهٍ مُثْقَــلِ
فَالْتَـــطَّ بِالبُــرْقَةِ شُؤْبُــوبُهُ وَالرَّعْــدُ حَتَّى بُــرْقُهُ الأَجْــوَلُ
أَسْـدَفَ مُنشَـقٌ عُرَاهُ فَـذُو اَلْــ إِدْمَــاثِ مَا كَانَ كَــذِي الْموْئِـلِ
حَــارَ وَعَقَّتْ مُزْنُهُ الرِّيـحُ وَانْــ ـقَارَ بِهِ العَـــرضُ ولَم يُشمَــلِ
مُسْتَبْــدِرًا يَزْعَــبُ قُدَّامَـــهُ يَرْمِـي بِعُــمٍّ السَّمُــرِ الأطْـوَلِ
وعليه فإنه يمكننا أن نتلمس عللا كثيرة لوصف الجاهلي المطر، واهْتِمامه بالماء، وَكَلَفِهِ بكلّ ما يسيل فتختصب له الأرضُ، ويربو له النبت؛ منها أنّ البلاد العربيّة تميل طبيعتها إلى الجفاف والإمحال، وإلى اليبس والجدب، فهي شحيحة الماء قليلة المطر، ومنها لما كان يرى من أهمية الماء، من حيث هو عنصر للحياة، وللمطر من حيث هو وسيلة للخصب والعمران، ولما كان الجاهلي يرى من تهالك الأحياء على التنافس على مساقطه، وربما التحارب على غدرانه ومدافعه، شاء أن يسجّل، في شعره مشاهد الماء، ومناظِرَ المطر، وَمَرائِيَ العيون والغدران ، ولكن الجاهلي الذي كان منتبها لكل التغيرات التي مست بيئته الطبيعية لم يفت أيضا أن يسجل سنون الجفاف والجدب التي كانت تصيب تدخله غياهب الخوف والفزع، فيشتكي منها، ويرجو أن تمرَّ تلك السنون سريعة وإلا هلك وجرَّت عليه البلاء :
وَصُـرَادُ غَيْــمٍ لاَ يَــزَالُ كـأنَّهُ مُــلاَءٌ بأشْرَافِ الْجِبَــالِ مَكَــورُ
طَخَّاءٌ يُبَـارِي الرِّيحَ لاَ مَـاءَ تَحْتَـهُ لَهُ سُنَـنٌ يَغْشَـى البِــلاَدَ طَحُــورُ
وعليه تحولت عملية التركيز على المظاهر الطبيعية التي كان يمارسها الشاعر الجاهلي لحظة مكاشفته الشعرية إلى نوع من الإطلالة على الغياب الكامن في الحضور، وعندها فقط ينفذ إلى ما وراء الظاهر العيني من أبعاد لا تراها العين التي لا تنشغل بالغياب ولا ترى الخفاء، فتتلبس الموجودات والمدركات بأبعادها الرمزية التي تملؤها حياة فتطفح بالخيالي الكامن فيها ، مما يجعل من القصيدة الشعرية الجاهلية تعبيرا رمزيا يستمد دلالته من تقاليد شعرية راسخة حولت مجموعة من التجليات الشعرية تراثا فنيا متكاملا، وشحنته بالدلالات المواشحة المكثرة والفنية ؛ لذلك فإننا حين نتأمل تجليات المطر في القصيدة الجاهلية نجد أن مخيال الشاعر الجاهلي لم يكن ينظر إلى كل مظاهر الطبيعة النظرة نفسها، ولم يكن ينزل هذه المظاهر منزلة واحدة؛ فموقفه من المطر مثلا كان موقفا متباينا ومتناقضا في الوقت نفسه، فهو يصوره حينا على أنه نقمة وعذاب، وقوة فاعلة قادرة على الهدم والتدمير عندما يكون سيولا جارفة :
عـَلاَ الأَكَمَ مِنهُ وَابـلٌ بَعْـدَ وَابـلٍ فَقـَدْ أرْهَقَتْ قِيعَانُــهُ كُـلَّ مُرْهَـقِ
أو هو يصوره حينا آخر على أنه نعمة ورحمة، وقوة فاعلة قادرة على الإحياء وإعادة البناء عندما يكون مطرا هادئا، فيسقي الأرض ويخرج النبت، ولا يعفي الأطلال، ويبدل الوحشة أنسا، الخراب عمارا، والحزن فرحة وأريحية بما صنعته الطبيعة:
تَنَطحَ بالأَطلالِ مِنْه مجَلْجَل أحَمُّ إذَا احموْمَتْ سَحَائبُه انسَجَلْ
بِريحٍ وَبَرْقٍ لاَحَ بَينَ سَحَائِب وَرَعْدٍ إذَا مَا هَبَّ هَاتِفهُ هَطَلْ
فَأنْبَتَ فِيهِ منعُ شمسٍ وغَنطشٌ وَرَقرقَ رمـلٌ وَالرُّفَيْلـةُ والرَّفَـلْ
ويبدو أن هذه التغريبة الإنسانية التي سكنت فكر الجاهلي من حيث هو رهين بيئته الطبيعية الصحراوية، قد دفعت به إلى البحث ـ من خلال الشعر ـ عن تشكيل نفسي وفني جديدين يعيدان إلى نفسه حرارة الأمل، ويبعثان فيها دافعية الحياة، ويغسلان عنها آثار القنوط واليأس؛ لأن حالة الإحباط التي عايشها الشاعر الجاهلي نتيجة تغريبته الإنسانية أربكته وأفقدته توازنه النفسي.
ولقد كان الجاهلي يشعر ويحس أن الموت يتربص به في كل محطات حياته « وقد زاد من شدة الشعور والإحساس في نفس العربي ما أحاط به من ظروف العيش القاسية التي حفلت بأسباب الهلاك المتربصة في كل آن لأن تشده إليها، وتخرجه من حظيرة العيش إلى عالم الفناء. لعل الخوف المستحكم فيه من ذلك المصير المرتقب هو الذي جعله يبدو في الشعر أكثر الأحيان قلقا، مضطرب النفس، مشغول الفكر والبال تجاه حياته المهددة دائما بالزوال » ، ذلك أنَّ حياة البداوة التي عاشها الشاعر الجاهلي جعلته ينظر إلى بيئته الطبيعية وهو يحمل مشاعر متناقضة تنوعتت بين الخوف والرجاء، خاصة أن فكرة الصحراء بوصفها « حقلا دلاليا أصليا، لا تعني شيئا في الشعر سوى الموت والهلاك، وكل ما يتفرع عنها من دلالات فرعية تزكي هذا المعنى » الذي ظل مسيطرا على فكر الجاهلي، وظل موجه للتجربة الشعرية الجاهلية في وصف الطبيعة الصحراوية.
إنَّ قراءة فاحصة للقصيدة الجاهلية التي تحدث فيها الجاهلي عن البيئة الطبيعية تكشف أن أحاسيسه ومشاعره لحظة الوصف كانت تتلون بألوان الطبيعة نفسها، فجاءت متنوعة بين أحاسيس الفرح حينا و أحاسيس الحزن حينا آخر، أو تباينت بين مشاعر التفاؤل تارة ومشاعر التشاؤم تارة أخرى … وقد تكشف الصور الشعرية التي ظل الجاهلي تكررها في أشعاره أنه كان يزاوج بين حالته النفسية وبين ما يحدث في بيئته الطبيعة من تقلبات وتغيرات مناخية مختلفة، فشعره في وصف الطبيعة يشاكل نفسيته التي كان يعتورها حالات مختلفة ومتناقضة في كثير من الأحيان، وهذا يجعل من شعر الطبيعة الضمير المسموع الذي كان يقول بصوت عال مكنونات الجاهلي النفسية، وما كان يشيع فيها من اطمئنان، ورضا، ومن قلق، واضطراب، وسخط ، واحتجاج أحيانا؛ لذلك فإنه يمكننا أن ننظر إلى شعر الطبيعة في القصيدة الجاهلي على أنه يمثِّل المتنفس الذي مكَّن الجاهلي من البوح بالسِّر وقول الحقيقة، ومكنّه أيضا من تجاوز التعبير عن قضايا قبلية ضيقة غارقة في الفردية إلى التعبير عن قضايا إنسانية أوسع وأشمل.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد