من عيون المدائح النبوية في العصر الحديث … محمد مبارك البنداري

د. محمد مبارك البنداري: عضو هيئة التدريس في جامعتي الأزهر وأم القرى

أَحبّ المسلمون النبي – صلى الله عليه وسلم – وعبَّروا عن حبّهم له بشتى الوسائل ، وذلك باتباع سنته من قولٍ أو عملٍ أو تقرير ، واتّخاذه قدوة حسنة في حياتهم ، قال تعالى : ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ” ( الأحزاب / 21 ) .

والشعراء بدورهم عبّروا عن حبّهم له – صلى الله عليه وسلم – من خلال قصائد اختاروا لها السبك الجيّد ، والكلام العذْب ، وحسن البلاغة ، وصدق العَاطفة ، وسُميت هذه القصائد ” بالمدائح النَّبويّة ” فإنّها وإنْ أتت بصورَ مختلفة وأساليب متباينة وذلك حسب قدرة الشاعر وتصوره ، إلا أنّها كلّها أجمعتْ على حبّه – صلى الله عليه وسلم – وتعظيمهِ وتقديرهِ .

والممعن النظر في اختيار حروف مفردة ” حب / ح. ب. ب” يجد أنهم اختاروا الحاء وهي تخرج من أقصى الحلق ، وهو مكان قريب من القلب موطن الحب والكره ، والباء تخرج من الشفتين ، فكأن الحب متغلغل من أول نفس حتى آخره ، ومن صفات الحاء الهمس والحب في أوله سهل ، والباء وقد تكررت ، من صفاتها الشدة والحب في آخره صعب ؛ لأن المحبّ يشقى باتباع المحبوب والسير على نهجه .

وحبّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالاتباع لا بالابتداع ، قال تعالى : ” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ” ( آل عمران / 31 ) .

وبما أنّني واحد من هذه الأمّة التي أحبَّت نبيها أردتُ أن أُعبّر -أيضًا – عن حبّي وتقديري له – صلى الله عليه وسلم – باختيار أجمل القصائد التي قيلتْ في مدحه – صلى الله عليه وسلم – في العصر الحديث / القرن العشرين ، ورتبتها ترتيبًا زمنيًّا قدر الإمكان ، واكتفيت بذكر بعض الأبيات من القصيدة بعد التعريف الموجز بقائلها ، وهي لا تعدو أن تكون مختارات ربما يهتدي بها بعض الباحثين ويقوم بعمل دراسات مكتملة حولها وغيرها من عيون المدائح النبوية في القرن العشرين .

وفي النية إن أمدَّ الله في نَفَس كاتب المقال سوف أنشر هذه المختارات وغيرها مع تحليل بسيط ، وذكر للوزن والقافية ، واللهَ أسأل أن يبارك لهؤلاء الشعراء في أعمارهم وصالح أعمالهم وفي عقبهم ، وأن يتغمد السلف الراحل برحمة منه واسعة ، ظاهرة وباطنة .

( 1 )

ذِكرَى المَولِد

ذكرى المولد لأمير الشعراء أحمد شوقي ، أشهر شعراء القرن الماضي ، مولده ووفاته بالقاهرة ( 1868-1932م ) ،وقد مدح النبي –صلى الله عليه وسلم – بأكثر من قصيدة : ذكرى المولد – نهج البردة – مولد الهادي ، وقد تناول النقاد قصائد شوقي بالتحليل والشرح ، وحفظها جلّ العالم الإسلامي وتغنَّى بها .

يقول في مطلع ذكرى المولد :

سلوا قلبي غداة سلا وتابا .. لعل على الجمـــال له عتــابــــــــا

ويُسأل في الحوادث ذو صواب .. فهل ترك الجمَال له وابا ؟

ويقول في مطلع نهج البردة :

ريمٌ على القاع بين البان والعلم … أحلّ سفك دمي في الأشهر الحُــرُم

رمى القَضاء بعينَيْ جؤذُرٍ أسَدًا … يا ساكن القاع ، أدرك ساكن الأجمِ

وصار فيها على نفس الوزن والقافية لبردة كعب بن زهير – رضي الله عنه- في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – .

ومن أشهر أبياتها :

يا لائمي في هواه – والهوى قدرٌ – … لو شفَّك الوجدُ لم تعذلْ ولم تلُمِ

ويقول في مطلع قصيدته مولد الهادي : –

ولد الهدى فالكائناتُ ضياءُ ..وفم الزمان تبسُّمٌ وثنــــاء

الروح والملأُ الملائك حولهُ … للدين والدُّنيا بهِ بشراءُ

(2)

وقفتُ أمامَ قبركَ باكيًا

قصيدة لنزار قباني من أشهر الشعراء الدبلوماسيين وأكثرهم جدلًا في العصر الحديث ، ولد في دمشق 1923م وحصل على الحقوق 1945م وعمل في السلك الدبلوماسي، وتوفي إثر نوبة قلبية في لندن 1998م ودفن في دمشق بناء على وصيّته .

يقول في مطلعها : –

عزّ الورود وطال فيك أُوامُ … وأَرِقتُ وحدي والأنام نِيــــــــــامُ

ورد الجميع ومن سَناك تزوّدوا .. وطردوا عن نبع السَّنا وأقاموا

ومُنعتُ حتى أن أحومَ ولم أكَد …وتقطعتـ نفسي عليك وحامــــوا

قصدوك وامتدحوا ودوني أُغلقتْ….بوابُ مدحك فالحروفُ عِقامٌ

أدنو فأذكر ما جنيتُ فأنثني …خجلا ..تضيقُ بحملي الأقـــــــدامُ

أمنَ الحضيض أريد لمسًا للذرى …جلّ المقامُ .. فلا يطالُ مقامُ

ويقول في نهايتها :-

يا طيبةَ الخيراتِ ذلَّ المسلمو… ن ولا مجــــــــيـر وضُيّعتْ ..أحلامُ

يُغضُون إن سَلب الغريبٌ ديارهم … وعلى القريبِ شذا التُّرابِ حرامٌ

باتوا أُسارى ..حيرةً وتــمزّقًا …فكأنهــــم بين الـــــــــــورى أغنـــامً

ناموا فنام الذل فوق جفونهم …لا غرو … ضـــاع الحزمُ والإقــدامُ

يا هادي الثقلين هل من دعوةٍ … تُدعَــى ..بها يستيقـظ النــــــــــُّوّامُ

(3)

مَطلعُ القمرِ

للشاعر د.غازي القصيبي وهو دبلوماسي ووزير سعودي له أعمال أدبية كثيرة ، ولد في الهفوف /الأحساء 1940 ، كان سفيرا للسعودية في لندن ، وتولى أكثر من وزارة ، وكتب مقالات سياسية ، واقتصادية … في كثير من الصحف ، توفي 1431هــ .

يقول في مطلع قصيدته :-

تلك الثنيات فاذكر مطلع القمر … واخشعْ معَ الأَلَقِ الطَّافي على الذكرِ

في يوم مولده أو يومِ بعثته … أو يومِ هجرته ما شئـــــــــتَ من عِبَرِ

في سيرةٍ لم يرَ التاريخُ توأَمها … برغم ما أبصرتْ عينــــاهُ من سِيرِ

تلا الرسولُ كتاب اللهِ فالتفتتْ ….دُنيا بأكملها تصغـــــي إلى السُّـــورِ

بطيبةَ الطيبِ أرسى الحقُّ دَولتَه …فالكـــــونُ في موعدٍ ثرٍّ مع القَدرِ

ويبدو أنه كتبها في الستينن عمره ، إذ يقول في خاتمتها :-

إذا رأيتُ خطايايَ التي احتشدتْ .. أوشكتُ أهْلِكُ من خوفي ومن حذري

حينًا وأذكُرُ عفوَ الله تشفعُ لي … ستّونَ عامًا من الإيمانِ ذا عُمُــــــــري

فيا أبا القاسمِ المختارَ ما حبطتْ … أعمال ملتجيءٍ لله معتـــــــــــــــذرٍ

صلّى عليكَ إله الكونِ ما ابتسمتْ … شمسٌ وما أجهشَ الباكونَ في السَّحَرِ

(4)

عناقيدُ الضِّياءِ

للشاعر د.عبدالرحمن صالح العشماوي وهو شاعر عربي ولد في الباحة بالمملكة العربية السعودية 1956م ، تخرج في جامعة الإمام وحصل على الدكتوراة 1409هـ ، وهو شاعر إسلامي كبير خرج بالشعر الإسلامي من الظلام إلى النور ، وأعاد إليه بريقه ورونقه في عصر الغناء والطرب .

يقول في مطلع قصيدته :-

هلّ الهلالُ فكيف ضلَّ الساري … وعلامَ تبقى حيرةُ المُــــــــحتارِ

ضحك الطريقُ لسالكيه فقل لمن … يَلوي خُطاهُ عن الطريقِ حذارِ

وتنفّسَ الصُّبحُ الوَضيءُ فلا تَسلْ … عن فرْحهِ الأغصانِ والأشجارِ

غنَّتْ بواكير الصباحِ فحرّكتْ … شجْوَ الطيورِ ولهفةَ الأزهــــــــارِ

غنّت فمكةُ وجْهها مُتألّقٌ … أملًا ووجهُ طٌغاتِها مُتـــــــــــــــوارِي

وهي قصيدة طويلة تناول فيها واقع الأمة وحبّ الصحابة للنبي –صلى الله عليه وسلم – وكيف يكون الحب الحقيقي … يقول فيها : –

يا سيّد الأبرار أُمّتك التَوتْ… في عصرنا ومَضَتْ مع التيَّارِ

شَرِبتْ كؤوسَ الذلّ حينَ تعلَّقتْ … بثقافةٍ مسمــــومةِ الأفكارِ

إني أراها وهْي تسحبُ ثوبها … مخدوعةً في قبضةِ المسمارِ

إني أراها تستطيبُ خضُوعها .. وتلينُ للرهبـــانِ والأحبـــارِ

إني أرى فيها ملامح خطّةٍ .. للمعتدين غريبـــةِ الأطــــــــوارِ

كبُرتْ دوائر حزننا وتعاظمتْ … في عالمٍ أضحى بغيرِ قرارِ

ويقول في خاتمتها :-

يا سيّد الأبرار حبّك في دمي …نهرٌ على أرضِ الصَّبابة جاري

يا من تركتَ لنا المحجّةَ نبعها .. نبـــــــــــع اليقينِ وليلها كنهارِ

…..

علمتنا معنى الولاء لربنا … والصبر عند تزاحم الأخطـــــــار

ورسمتَ للتوحيد أكمل صورةٍ …نفضتْ عن الأذهانِ كلَّ غُبارِ

فرجاؤنا ودعاؤنا ويقيننا … وولاؤنا للواحـــــد القهــــــــــــارِ .

(5 )

عطِّر مدَادَك

وهي من أقوى القصائد الشعرية ، وتعتبر في نظر بعض النقاد السعوديين من المعلقات الشعرية في العصر السعودي الحديث ، والشاعرة ميّ رشيد فايز السُّبيعي شاعرة وكاتبة سعودية معاصرة ، فازت بهذه القصيدة بالمركز الأول في مسابقة :” فن تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم -مع الآخرين ” ، وهي تدافع بها عن الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- .

تقول فيها :-

عَطِّرْ مِدَادَك َ باسم الله يا قلمُ … …..واكتبْ فِداؤك ما خَطّــــُوا ومـــا رسموا

وارْقُمْ على جبهةِ التاريخ قافيةً ……أنا بها بين كلّ الشــــاعراتِ فَــــــــــــمُ

أَسْمِعْ صَرِيْرَكَ آفاقَ المدى جَذَلاً … وَتِهْ على الشِّعر أنت الصَّادِحُ الرَّنِــــمُ

عانِقْ بِحرفك هاماتِ العُلا شرفاً ……. بسيِّدٍ الخلق مَنْ يسمـــو به الكَــــلِمُ

اللهُ يا فرحةَ الأكوان ِ مُذْ بَزَغَتْ ……. أنوارُهُ بات ثغــــــرُ الدَّهْرِ يَبْتَسِـــمُ

الحقُّ والعدلُ بعد الموت قد بُعِثا …… بمبعثِ النور وانزاحـــت به الظُّلـــَمُ

مَنْ مِثْلُهُ طاهرٌ عَفٌّ وذو خُلُقٍ …. مِنْ بَعْضِهِ تُسْتَقى الأخلاقُ والشِّـــــيَمُ

الحلمُ والفضلُ من أنواره اقتُبِسا …… وَمِنْ بقايا نَداهُ يَنْبُـــــتُ الكــــرمُ

مَنْ حرَّر الناس من أغلالِ داهيةٍ ….. دهياءَ منها صروح العدل تنــــهدمُ

مَنْ شَجَّ بالعلم رأسَ الجهلِ فانحسـ ….. مَتْ أذيالُهُ فَهْوَ مبتورٌ ومُنْحَسِــــــــمُ

مَنْ أَصْدَقُ الناسِ قولاً غيرَ ذي هَزَلٍ …. مَنْ أَفْصَحُ الناسِ لا عِيٌّ ولا فَدَمُ

أبو اليتامى ومَن ضاقت معيشتــهُ …….. غِنَى الفقيرِ به يُسْتَبْرَأُ السَّـــــــقَمُ

مشى على الأرض قرآنا ً مُصَوَّرةً…… آيــاتُهُ منهجاً أسوارُهُ حـــــــــــَرَمُ

للهِ تلك الوصايا البيضُ ساطعةً …… تكسو القواريرَ مجداً ليــــس ينثلمُ

مَن مِثْلُهُ أَنْصَفَ الأنثى وأَنْزَلهَا …….. منازلاً دونها الأعـــــلامُ والقِمَــــمُ

جناتُ عدنٍ لدى أقدامهنّ فَلا ….. يُلَمْنَ إنْ نالهنّ العُجْـــــبُ والشَّـــــــــمَمُ

يا سيدي هاكَ حُبًّا لا حدود لهُ …. لك المحبّة في الأجواف تضـــــطرمُ

فداؤكَ المالُ والأهلون َ كلُّهمُ ….. فداؤك الناس إن جلُّوا وإن عظـــــــموا

واللهِ لو رامَ كلُّ الخلقِ مَمْدَحَةً …. ما أنصفوك وإن قالوا وإن زعمـــــوا

أقولها وأنوف الكفر راغمةٌ …. محمّدٌ خيرُ مَنْ تمشي به قـــــــــــــــــدم

(يتبع)


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد