ثقافة العنف وعنف الثقافة .. سماح علي عبده يوسف

سماح علي عبده يوسف: ماجستير في دراسات النوع الاجتماعي والتنمية – اليمن

“حينما يتكرر السلوك يصير عادة وحينما يترسخ يصير ثقافة” ق. م.
العنف هو كل سلوك عدواني يقوم به كائن إنساني أو مؤسسي ضد كائن أخر فردا أو جماعة، يتسبب بالحاق أضرار جسدية أو معنوية فيه وينقسم العنف إلى قسمين: العنف المادي والعنف الرمزي. العنف المادي هو كل فعل اعتداء عضلي يقوم به شخص أو جماعة ضد شخص آخر أو جماعة أخرى. والعنف الرمزي: هو سلسلة متنوعة من الأفعال الرمزية التي تحتوي على شحنة عُنفية ظاهرة أو خفية ناعمة أو خشنة، والتي تكون مبثوثة بالقيم والعادات والتقاليد والأقوال والحكم والأمثال والأعراف والشرائع والمعتقدات والصور والكلمات في ثقافة من الثقافات، وقد يكون العنف الرمزي هادئ لا مرئي ولا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه ، ويتمثل أن تشترك الضحية و جلادها بالتصورات نفسها عن العالم والمقولات التصنيفية نفسها ، وان يعتبرا معاً بنى الهيمنة من المسلمات والثوابت ، فالعنف الرمزي هو الذي يفرض المسلمات التي اذا انتهينا إليها و فكرنا بدت لنا غير مسلم بها ، وهي مسلمات تجعلنا نعتبر الظواهر التاريخية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاماً عابراً للأزمنة واشد أنواع العنف الثقافي هو الرمزي منه. وهذا ما يسمى بمفارقة المعتقد. ولا تكمن مشكلة العنف في أحداثه الواقعية الفورية أو فيما يحدثه من أثار وأضرار مادية ومعنوية فادحة أو بسيطة مباشرة أو غير مباشرة طفيفة أو عميقة في الأجساد والنفوس والمصالح والممتلكات والمؤسسات الخاصة والعامة وكل مجالات الحياة الاجتماعية المتنوعة بمستويات مختلفة بل تكمن مشكلته البالغة الخطر والتهديد بما يتركه وينمّيه من أثار غائرة في قلوب وأذهان الناس بمختلف شرائحهم الاجتماعية ومراحلهم العمرية لاسيما عند النساء والأطفال أكثر الفئات الاجتماعية ضعفا وتضررا في مواجهة العنف وأهدافه السهلة في الشيوع والانتشار مثل السرطان في خلايا الجسد الاجتماعي بصمت مريب وما يزرعه في من إحساس بالقهر والظلم والحرمان والرغبة بالانتقام على المدى الطويل وخطر ظاهرة العنف الذي نعيشه اليوم بمختلف أنماطه وأشدها قسوة وهمجية ووحشية التي ما برحت تفتك بحياتنا على نحو مستمر منذ عقود بما لم يشهد له تاريخنا مثيل تعد بكل المقاييس أسوأ كارثة في تاريخ الحضارة الإنسانية على الإطلاق ولا يكمن خطرها فيما نعيشه ونشاهده كل يوم من فضائع وجرائم ترتكب تحت رايات سياسية أو أيديولوجية وطائفية وثورية ووطنية وعنصرية وجهوية وقبلية وغيرها من الذرائع الجمعية أو الفردية التي في كل مكان من بقاع هذه الأصقاع العربية المسممة بالحروب والدمار والخوف والظلام والجريمة وما رأيناه من مشاهد دامية بالصور الثابتة والمتحركة في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن وغيرها مشاهد مروعة تقشعر لهولها الأبدان يتم بثها وتداولها في وسائل الإعلام والإعلام الجديد بما يمتلكه من وسائط الاتصال الاجتماعي باتت في متناول كل إنسان بما في ذلك الأطفال الذين يتداولها كما يتداولون ألعابهم المسلية أنما هو مؤشر بان العنف بات يتحول إلى حالة ثقافية عامة في المجتمعات العربية الراهنة بما يبذره وينمّيه و ينمطه من قيم أخلاقية وجمالية سلبية عند الأجيال الناشئة بوصفه من الأمور الاعتيادية والمؤلفة في حياتهم وحياة مجتمعاتهم التي تمارسه جهارا نهارا بحماسة ورغبة غير مستهجنة من جميع السكان وهنا يكمن خطر ثقافة العنف التي تجعله يحضر ويدوم بوصفه من الظواهر الاجتماعية التي يمكن التعايش معها مثله مثل غيره من الظواهر الاجتماعية المقدرة غير تقديرا في المجتمع. وهكذا يمكن تكرار التأكيد بان حوادث وأحداث العنف التي تتفاقم كل يوم في المدن والأرياف ويشاهدها ويشعر بها جميع الناس لا يكمن خطرها فيما خلفته من مئات الألاف من الضحايا لاسيما من النساء والأطفال أكثر الشرائح الاجتماعية تضررا من الحروب والنزوح والخوف والتهديد بل أن خطرها الحقيقي الذي يفزعني حقا يكمن في تلك القيم الثقافية التي ينمطها في سلوك ومواقف واتجاهات الناس من خلال انخراطهم المباشر أو غير المباشر في ممارسة العنف والعنف المضاد الواقعي والرمزي وعبر التعايش معه على المدى الطويل بتكرار ممارسته ومشاهدته والتكيف معه بوصفه من الظواهر المألوفة في حياتنا وبحسب القاعدة التي تقول : انه كلما طال أمد تعايش الناس مع ظاهرة من الظواهر كلما تكيفوا معها واستبطنوها في أذهانهم وضمائرهم ونفوسهم وسلوكهم وقيمهم وثقافتهم، وتلك هي مفارقة المعتقد كما سماها عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر بيير بورديو في كتابه المهم ( الهيمنة الذكورية ) بمعنى أن تكرار ممارسة العنف ومشاهده على المدى الطويل في مجتمع من المجتمعات يحوّله إلى ما يشبه العادة وما ادراك ماذا يعني تحول العنف المقدس إلى عادة وطبيعة ثانية للفاعلين الاجتماعيين الذين سرعان من يستبطنونه في حياتهم الداخلية وعلاقاتهم الاجتماعية وقيمهم الأخلاقية والجمالية ومعتقداتهم الأيديولوجية والدينية ويترسخ بوصفه ثقافة أي هابيتوس بحسب بيير بورديو كنسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الأفراد ونظرتهم الكلية إلى ذاتهم وغيرهم ومجتمعهم وحياتهم وعالمهم ، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. وأسلوب حياتها ونمط علاقاتها وتفضيلاتها القيمية. ووفقا لهذا التصور يعد “الهابيتوس” جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف المراحل العمرية منذ لحظة الإخصاب والأجنة والميل
اد والمهد والطفولة المبكرة والمتوسطة إلى مرحلة الشيخوخة والوفاة. كم مرت من السنين على ظاهرة العنف المستشري في البلاد العربية؟ وكم تعاقبت أجيال وعاشت في أتونه؟
ونقصد بالعنف هنا كل ممارسة من استخدام القوة الفجة خارج القانون ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص لغرض تحقيق مصالح وأهداف ظاهرة أو خفية، بما في ذلك عنف الدول والأنظمة والمؤسسات ضد الشعوب والمجتمعات. وحينما يتحول العنف إلى هابيتوس ثقافي للمجتمع تكون الكارثة قد حلت بكلكلها الموحش على كاهل الجميع، إذ يصير العنف ثقافة وأسلوب حياة للأفراد والجماعات والمجتمعات والثقافات، والثقافة هي في معناها الأنثروبولوجي العلمي ( ما يبقى بعد نسيان كل شيء ! وهكذا هو الحال كما تحدثنا الدراسات العلمية الميدانية للفقر على سبيل المثال؛ إذ يكون خطر الفقر فيما ينمطه من ثقافة في حياة وسلوك الفقراء المغلوبين على أمره في كل زمان ومكان! ولكن ليس هناك ما هو أخطر من العنف والتطرف والتوحش والاستخفاف بدماء وكرامة البشر حينما يتحول إلى عادة ثقافية للكائنات الاجتماعية التي تمارسه بتلقائية وحماسة وحمية وكأنما هو من الممارسات الطبيعية المقدرة على الناس المؤمنين به وبنتائجه المأساوية بوصفها من تدبير الرحمن الرحيم جل وعلى عما يصفون ويفعلون! الا تلاحظون أن العنف المادي والعنف الرمزي صار يجرف الجميع إلى دوائره الجهنمية في جميع البلدان العربية بمستويات مختلفة وعند كل فئات السكان من ألعاب الأطفال وحتى قنابل النابل عنف الحروب والدمار المستمر وعنف الإرهاب والتطرف وعنف الفقر والجوع وعنف النظم والسياسات الفاسدة وعنف الكلام والخطابات والصور والإعلام والتواصل والاتصال وهكذا بات العنف يحاصر الجميع في عالمنا العربي المسمم بالبؤس والجريمة في الأرض والفضاء يتدفق علينا ليلا نهارا بسيل من الوقائع والأخبار والصور من كل الاتجاهات فكيف السبيل إلى تربية الأجيال الناشئة في هذه البيئة الاجتماعية والثقافية الملغمة برموز وقيم شديدة العنف والوحشية ؟
ويعد العنف ضد النساء من أخطر أنماط العنف المسكوت عنها في مجتمعنا بعد أن صارت هابيتوسا ثقافيا متوارثا عبر الأجيال منذ ألاف السنين إذ هو أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة جسمية أو جنسية أو نفسية للمرأة، بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية ، سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أو الخاصة ” كما نص هذا الإعلان على وجوب أن يشمل مفهوم العنف ضد المرأة ، ولكن دون أن يقتصر على الآتي :
العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يقع في إطار الأسرة ، بما في ذلك الضرب المبرح ، والإساءة الجنسية للأطفال الإناث في الأسرة ، والعنف المتصل بالمهر ، والاغتصاب في إطار الزوجية ، وبتر الأعضاء التناسلية للإناث وغيره من الممارسات التقليدية المؤذية للمرأة ، والعنف خارج نطاق الزوجية ، والعنف المتصل بالاستغلال .
العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يقع في الإطار العام للمجتمع ، بما في ذلك الاغتصاب والإساءة الجنسية ، والتحرش والترهيب الجنسيين في العمل وفي المؤسسات التعليمية وسواها ، الإتجار بالمرأة والبغاء القسري .
العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي تقترفه الدولة أو تتغاضى عنه حيثما وقع .
كما تعتبر الأشكال التالية من العنف ضروب من الانتهاكات لحقوق المرأة الإنسانية :
النساء في حالات النزاع المسلح والنساء المهاجرات واللاجئات.
النساء اللواتي يتم استبعادهن عن مراكز السلطة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
حالات التعقيم القسري ، والإجبار بالقوة على تناول موانع الحمل ، وقتل الأطفال الإناث ، واختيار جنس الطفل قبل الولادة .
أفعال التهديد بالعنف سواء أوقع ذلك في المنزل أو في المجتمع بصورة عامة.
وهناك عدد واسع من أنماط العنف الممارس ضد الفتيات والنساء يمكن الإشارة إلى بعضها: العنف الجسدي والعنف الجنسي والعنف السيكولوجي والعنف الروحي والعنف السياسي والعنف الاجتماعي والعنف الحقوقي، والعنف الرمزي.
وتترتب على العنف الممارس ضد المرأة آثار جسمية ونفسية واجتماعية ،تصيب المرأة وتكون لها أثارها على الأسرة والمجتمع:
• أضرار جسدية ونفسية
• شعور المرأة بالخوف وانعدام الأمان
• الحد من إمكانية حصولها على الموارد
• منعها من التمتع بحقوقها كإنسان
• يعرقل مساهمتها في التنمية
• تضخم الشعور بالذنب والخجل والانطواء والعزلة وفقدان الثقة بالنفس و احترام
• الإجهاض وسوء تربية الأطفال.
المرأة المقهورة بسبب العنف الممارس ضدها لا ريب وأنها ليست سعيدة بحياتها، وعدم شعور النساء بالسعادة يتحول إلى حالات مرضية تصيب أطفالهن بضيق الخلق والاضطرابات النفسية. وهناك اثأر عديدة للعنف ضد النساء فيما يعرف بما بعد الصدمة، وقد توصلت الدراسات العلمية إلى في ظاهرة العنف القائم على النوع الاجتماعي إلى الحقائق التالية:
– نسبة العنف الموجه ضد المرأة تتناسب طردا من نسبة الشرور التي تفتك بالمجتمع.
– إن أردت أن تعرف حال مجتمع من المجتمعات فانظر الى حال نساءه.
– المجتمعات التي تعنف وتُحقر فيها المرأة تظل مجتمعات عنيفة وحقيرة.
– امرأة سعيدة = مجتمع سعيد.
ختاما: أقول لكم بان ليس هناك ما هو أخطر ولا أفظع من العنف حينما يكتسب صفة أيديولوجية مقدسة، العدوان متأصل في طبيعة الإنسان ولا مهرب من ذلك ، لكن يظل العنف معقول وممكن في حدود الطبيعة البشرية منذ أن قام قابيل بقتل اخوه هابيل ، وهذا هو معنى ((من يفسد في الأرض ويسفك الدماء)) كما جاء في التنزيل الكريم .والعنف في هذه الحالة يكتسب صيغة بشرية بوصفه عنفا بين الأخوة الأعداء, بين أشخاص متخاصمين , بين ذات وآخر , لكن الخطر يكمن حينما يتحول إلى عنف مقدس بين ملائكة وشياطين ! كما هو حال حروب الطوائف المشتعلة اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها, هنا يخرج العنف عن حدود معقوليته ويتحول إلى حالة ما قبل متوحشة, حيث ينشب المحاربين مخالبهم بعضهم ببعض كسراطين البحر حتى الموت ! .ومن هنا يمكن لنا فهم حجم القسوة المهول الذي يتميز به هذا النمط من أنماط العنف المقدس, انه لا يكتفي فقط بهزيمة الخصوم , لأنه غير موجودين هنا , بل هو سعي محموم لتخليص العالم من( شر مستطير ) هو الشيطان الرجيم عدو( الله سبحانه وتعالى برحمته عما يصفون ) , ومن يعتقد انه تمكن من الإمساك بالشيطان , ماذا تريده أن يفعل به؟ مع الشياطين كل شيء مباح ولا حرمات يمكنها إيقاف الغل المخزون من الاندياح ! كما يريد، لكن المسألة تكمن في عدوى العنف وانتشاره مثل النار بالهشيم . إن العنف المقدس المتبادل بين طائفتين كل منها تعتقد أنها ملاكا والآخر شيطانا , يشبه اللهب الذي يلتهم كل شيء يلقي عليها بغرض إطفاءه . انه غل مركب من الثأر الجاهلي والتعصب الطائفي. والذئب لا يأكل الذئب وأن كان جائعا أم الإنسان فيفترس الإنسان وهو شبعانا! وكل ما في هذا العالم من عدالة لا تساوي دمعة حزن واحدة من عيني طفل مفجوع!


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد