سد الذرائع عند الإمام الشاطبي، ضوابطه ومقاصده

د: موفق عبد الرحيم: أستاذ مادة التربية الإسلامية بثانوية عبد الله كنون بمدينة وجدة المغرب

(بسم الله الرحمان الرحيم)
*مقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
جاءت الشريعة الإسلامية لترسم للعباد منهج حياة متكامل في الزمان والمكان، ولتحقيق مصالحهم في المعاش والمعاد، ولا سبيل إلى إدراك معالم هذا المنهج الرصين إلا بتحصيل أصول وقواعد الأحكام الشرعية ومقاصدها الكلية والجزئية.
ومن بين الأصول الشرعية التي ميزت الاجتهاد الفقهي في المذهب المالكي نجد: سد الذرائع فقد أعمله المالكية في العديد من فتاويهم واختياراتهم المذهبية، واشتهروا بالتوسع في تطبيقه حتى نسب إليهم.
والإمام الشاطبي رحمه الله من بين هؤلاء الأعلام الذين توسعوا في التأصيل له، فقد أفرده بالدراسة والتقسيم في كتابه الماتع الموافقات، والهدف من هذا البحث هو الوقوف على الضوابط المنهجية التي حددها شيخ المقاصديين في إعماله لهذا الأصل وعلاقته بالنظر المقاصدي، وذلك من خلال المبحثين التاليين:

المبحث الأول: حجية سد الذرائع عند الإمام الشاطبي، وضوابط إعماله.
المبحث الثاني: علاقة أصل سد الذرائع بالنظر المقاصدي.

المبحث الأول: حجية سد الذرائع عند الإمام الشاطبي، وضوابط إعماله.
المطلب الأول: مفهوم سد الذرائع وحجيته
أ مفهوم سد الذرائع
* سد الذرائع لغة.
سد الذرائع مركب إضافي يحتاج إلى تعريف جزأيه، وهما السد والذرائع.
– السد لغة: مصدر سد يسد سدا، وهو إغلاق الخَلَل ورَدْم الثَّلم. والسَّدّ والسُّدّ: الجبل والحاجز.
– الذّرائع لغة: جمع ذريعة وهي السبب إلى الشيء، وأصْلها الناقة التي يَسْتَتِر بها الرامي لِلصيد، بأن يمشي جنبها حتى يقترب من الصيد فيرميه، ثم أطلقت على كل شيء أدنى من شيء وقرب منه.
ومنه ما أنشده ابن الأعرابي:
وللمنية أسباب تقربها *** كما تقرب للوحشية الذرع.
ومما تقدم يكون معنى سد الذرائع في اللغة إغلاق الوسائل والأسباب المفضية إلى الشيء.
* سد الذرائع اصطلاحا.
الذريعة في الاصطلاح هي: الوسيلة أو الطريقة الموصلة إلى الشيء المراد أو المقصد، ومعنى سدها: حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع من ذلك الفعل، وقد تعددت عبارات العلماء في تعريف سد الذرائع، ومن بينها:
– تعريف القاضي أبي الوليد الباجي:”هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور.”
– والتعريف نفسه ذكره ابن رشد الجد رحمه الله في المقدمات:”الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور.”
– وقال ابن العربي رحمه الله:”الذرائع أصل من أصول الفقه، وهو كل فعل جائز في ذاته موقع في محظور، أو محظور لعاقبته.”
أما شخصية دراستنا الإمام الشاطبي فقد عرفها بقوله:”حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.”( ودرءا لأي غموض قد يعتري هذا المعنى فيفهم منه المعنى العام، أورد الشاطبي أمثلة تجلي المعنى المراد منه فقال:” فعل مأذون فيه، لما فيه من مصلحة لكنه يؤدي إلى المفسدة كثيرا لا غالبا.”
ب: حجية سد الذرائع عند الشاطبي
* استدلال الشاطبي على أصل سد الذرائع.
وظف الشاطبي رحمه الله الاستقراء والتتبع لإثبات مراعاة الشريعة لهذا الأصل، يقول رحمه الله:” أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها، وكإتمام عثمان الصلاة في حجه بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة، كقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعن) (البقرة/104)وقوله:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (الأنعام/108) وفي الحديث: “من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه” وأشباه ذلك، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال.”
كما اعتمد أصل النظر في المآل لإثبات القول بسد الذرائع:” النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.”
* حجية سد الذرائع في المذاهب الأربعة.
المشهور أن المالكية والحنابلة يقولون بسد الذرائع بقوة بخلاف الأحناف والشافعية، وهو ما أشار إليه الشاطبي في سياق تقريره لأصل مراعاة المآل:” وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه.” واعتبر ابن القيم رحمه الله تعالى أن أصل سد الذرائع ربع الدين، يقول رحمه الله:”وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المَفْسَدة، فصار سد الذرائع المُفْضِية إلى الحرام أحد أرباع الدين”
أما أبو حنيفة والشافعي فبالرغم من أنهما لم يصرحا باعتبار هذا الأصل إلا أن الشاطبي رحمه الله صنفهما في دائرة من يقول به جملة من غير تفصيل وإن لم يصرحا به، يقول رحمه الله:” أما الشافعي، فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة، وذلك عند الشافعي ليس بحجة.” وقال أيضا:” فلا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو، وهو دال على القصد إلى الممنوع، فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر.” .
والأمر نفسه نسبه هو ما نسبه لأبي حنيفة، جاء في الموافقات:” وأما أبو حنيفة، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح، إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها، وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان كذلك، فلا إشكال.”
هذا التعميم في الأخذ بأصل سد الذرائع نجده قبل الشاطبي عند الإمام القرافي رحمه الله الذي اعتبر أن ما يميز المالكية هو كثرة الأخذ به لا أنه خاص بهم، يقول رحمه الله:” وحاصل القضية أننا قلنا بأصل سد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا.”
إلا أن كلام الشاطبي وغيره من فقهاء المالكية فيه نظر لأن الشافعية لا يعتبرون سد الذرائع أصلا قائما بذاته ولا يطبقون الذرائع تحت مسماها غالبا، وإن كان الشافعي قد استعمل كلمة الذرائع في كتاب إحياء الموات، إذ قال بعد أن ذكر النهي عن بيع الماء ليمنع به الكلأ.” وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى.فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام.” وقد نسب أبو العباس بن الرفعة القول بسد الذرائع للشافعية بناء على هذا النص، كما أكد ذلك الزركشي، مضيفا أن:” بعض المتأخرين -نازعوا ابن الرفعة- وقال: إنما أراد الشافعي تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل مستلزمة المتوسل إليه. ومن هذا بيع الماء فإنه مستلزم عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام. ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل. قال: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.”
فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلبه على الظن وشتان بينهما.
وما أخلص إليه أنه يصعب تخريج الذرائع من كلام الشافعي، لأن قواعده تأبى ذلك لشدة ظاهريته في العقود وإجراء الأحكام عليها، يقول رحمه الله:” إذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها ولا يفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها.” وهكذا فقد أجاز الشافعي كثيرا من المسائل التي منعها غيره بناء على مبدأ سد الذرائع، ومن بينها: بيوع الآجال، وبيع ما يؤدي إلى مفسدة كبيع العنب لمن يعصره خمرا.
كما يفهم من كلام الشاطبي السابق موافقة أبي حنيفة لمالك في أصل سد الذرائع عموما مع الخلاف في بعض التفاصيل، لكن الأحناف يقولون بسد الذرائع في حدود ضيقة، فهم يمنعون بيوع الآجال لأنهم يشترطون لصحة العقود خلوها من شبهة الربا، لأن الشبهة ماحقة بالحقيقة، ومثال ذلك تأجير دار للذمي ليتخذها كنيسة فقد نقل عن أبي حنيفة قولان:
– الأول: المنع إذا كان شرط اتخاذها كنيسا ثابتا في العقد، يقول الكساني:”أما إذا شرط بأن استأجر ذمي دارا من مسلم في مصر من أمصار المسلمين ليتخذها مصلى للعامة لم تجز الإجارة؛ لأنه استئجار على المعصية.”
– الثاني: الجواز ، وهو ما نقله ابن قدامة:”وقال أبو حنيفة: إن كان بيتك في السواد، فلا بأس أن تؤجره لذلك.” وقد خالفه صاحباه في ذلك
مما سبق يتبين أن أصل سد الذرائع يتجاذبه اتجاهان:
– الإتجاه الأول: مذهب مالك وأحمد يعتمد على سد الذرائع كأصل يرجع إليه ويتعاون مع أصول أخرى وقواعد في المذهب ليكون توجها فقهيا يجعل الشريعة معللة ومعقولة المعنى ينظر فيها إلى المآلات وتصان فيها مرامي الأحكام.
– الاتجاه الثاني: يرفض الاعتماد على سد الذرائع كأصل يعتمد عليه في استنباط الأحكام، ويمثله الإمامان أبو حنيفة والشافعي.
ومن بين أسباب الخلاف بين الاتجاهين، أذكر:
– تجاذب الأدلة: يقول الشاطبي رحمه الله:”لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني، ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له، ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه، فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه.”
– أدلة جزئية تتعلق بسد الذرائع:
وبخاصة في بيوع الآجال أو العينة، ففي حين يعتمد المالكية ما روته العالية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، إني بعت من زيد بن أرقم عبدا إلى العطاء بثمان مئة درهم، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الأجل بست مئة، فقالت عائشة رضي الله عنها:«بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى قد أبطل جهاده إن لم يتب.» ، يعتمد الشافعية على حديث تمر خيبر.
– الإستصحاب والاحتياط:
المانعون اعتبروا أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يترجح جانب المنع ولا يعدل عنه إلا بقيام دليل على ثبوت الضرر، وما دام لم يثبت فلا عبرة بالتهمة، أما المثبتون للذرائع فبنوا على الاحتياط ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وذلك كاف في إلغاء الإذن.
المطلب الثاني: أقسام الذرائع وضوابطها عند الشاطبي
أ: أقسام الذرائع
قسم الشاطبي رحمه الله الذرائع باعتبارات عدة وهي كالتالي:
* باعتبار ما أجمع العلماء على سده منها وفتحه.
وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1: ما أجمعت الأمة على سده كحفر الآبار في طريق المسلمين.
2: ما أجمعت الأمة على عدم سده كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر.
3: ما اختلف فيه هل يسد أم لا كبيوع الآجال عند مالك ومن تابعه.
والتقسيم نفسه نجده عند الإمام القرافي في الفروق.
* باعتبار ما يلزم الوسيلة من أضرار تلحق العامل بها أو غيره.
وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثمانية أقسام:
1: ذريعة لا تفضي إلى ضرر.
2: ذريعة تفضي إلى ضرر بقصد إضرار عاما.
3: ذريعة تفضي إلى ضرر بغير بقصد إضرارا عاما.
4: ذريعة تفضي إلى ضرر بقصد بغير قصد إضرارا خاصا يلحق صاحبه بمنعه ضرر.
5: ذريعة تفضي إلى ضرر بغير قصد إضرارا خاصا لا يلحقه بمنعه ضرر ويؤدي لمفسدة قطعية.
6: ذريعة تفضي إلى ضرر بغير قصد إضرارا خاصا لا يلحقه بمنعه ضرر ويؤدي لمفسدة نادرة.
7: ذريعة تفضي إلى ضرر بغير قصد إضرارا خاصا لا يلحقه بمنعه ضرر ويؤدي لمفسدة كثيرة لا نادرة غالبة كبيع السلاح لأهل الحرب.
8: ذريعة تفضي إلى ضرر بغير قصد إضرارا خاصا لا يلحقه بمنعه ضرر ويؤدي لمفسدة كثيرة لا غالبة كبيوع الآجال.
هذه الأقسام الثمانية التي ذكرها الشاطبي يمكن تلخيصها إلى أربعة أقسام إذا اعتمدنا عامل قوة الإفضاء إلى المفسدة دون اعتبار عامل القصد، لأن الذريعة لا يشترط فيها القصد بخلاف الحيلة.
– الذريعة المفضية إلى مفسدة قطعية.
– الذريعة المفضية إلى مفسدة نادرة.
– الذريعة المفضية إلى مفسدة كثيرة لا غالبة.
– الذريعة المفضية إلى مفسدة كثيرة غالبة.
ويمكن القول من خلال هذين التقسيمين أن الذريعة عند الشاطبي قسمين رئيسيين:
– ذريعة مفضية لأمر محرم قطعا وهي ممنوعة بلا خلاف.
– ذريعة مفضية لأمر مباح لكنه قد يقصد بها التوصل إلى مفسدة وهذا النوع محل خلاف بين العلماء.
ب: ضوابطها
من مقاصد الشريعة الإسلامية اليسر ورفع الحرج والمشقة عن المكلفين والمبالغة في الأخذ بسد الذرائع يؤدي إلى تضييق مصالح الناس وتعطيلها، لذلك كان لا بد من تقييد أصل سد الذرائع بمجموعة من الضوابط والقيود حتى لا يخرج عن هدفه وهو حماية الشريعة من التلاعب، ومن بين الضوابط التي وضعها الإمام الشاطبي لهذا الأصل أذكر:
– أن يكون الفعل المباح يؤدي إلى المفسدة قطعا لا ظنا كما هو واضح في تعريفه:” التوصل بما هو مفسدة إلى مصلحة.”
– أن تكون مفسدة المآل كثيرة لا نادرة ولا متوهمة كما أشرت لذلك في تقسيمه للذرائع.
وهو ما نص عليه أيضا الشيخ الطاهر بن عاشور، حيث قال:” فاعتبار الشريعة بسد الذرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدة المآل على مصلحة الأصل. فهذه هي الذريعة الواجب سدُّها.”
– أن تكون المفسدة المتذرع إليها مساوية أو راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه، وذلك ما عبر عنه بقوله:” ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد.”
المطلب الثالث: الفرق بين الحيلة والذريعة عند الشاطبي
تلتبس الذريعة بالحيلة فكلتا هما وسيلة للتوصل إلى غاية، وأغلب الفقهاء يعبرون عن كل واحدة بالأخرى، إلا أن البعض حاول تمييز الحيلة عن الذريعة، وسأعرض من خلال هذا المطلب لموقف الشاطبي من المفهومين.
أ: مفهوم الحيل
*لغة:
تطلق الحيلة على المكر، والخديعة، والكيد، فتطلق على الفعل الذي يقصد فاعله به خلاف ما يقتضيه ظاهره، وأكثر ظهورها في الفعل المذموم، الذي يقصد فاعله به إنزال مكروه بغيره، وقد يقصد بها الوجه المحمود، ومنه ما وصف جل شأنه ذاته بالمكر فإنه سبحانه منزه عن صفات النقصان.وقال الجرجاني” اسم من الاحتيال وهي التي تحول المرء عما يكرهه إلى ما يحبه” وقد أطلقها الفقهاء على مايخرج من المضائق، بوجه شرعي لتكون مخلصا شرعيا لمن ابتلي بحادثة دينية، على اعتبارها نوعا من الحذق وجودة النظر.
* اصطلاحا:
التحيل بوجه ما، لإسقاط حكم، أو قلبه إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو ينقلب إلا مع تلك الحيلة.وقد عرفها الشاطبي بقوله:”تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر.” وأضاف في موضع آخر:” إن مآل العمل في الحيلة خرم قواعد الشريعة في الواقع.”
ب: أقسامها
قسم الشاطبي الحيل إلى ثلاثة أقسام:
1: الحيل التي تهدم أصلا شرعيا وتناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها.
كحيل المنافقين والمرائين.
2: الحيل التي لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها كالنطق بكلمة الكفر إكراها.
3: متنازع فيه هل يلحق بالأول أو الثاني كنكاح التحليل، وبيوع الآجال.
المطلب الثاني: الفرق بين الحيلة والذريعة
سأعرض في الجدول التالي مقارنة بين الحيل والذرائع عند الشاطبي بغية تلمس أهم الفروق بينهما.

الحيل الذرائع
التعريف
تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة

التقسيم قسمة ثلاثية:
– الحيل التي تهدم أصلا شرعيا وتناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها.
– الحيل التي لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها
– متنازع فيه هل يلحق بالأول أو الثاني قسمة ثلاثية:
– ذريعة تسد اتفاقا، كسب آلهة المشركين
– ذريعة لا تسد اتفاقا، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذه للخمر.
– ذريعة مختلف فيها، كبيوع الآجال.
الأمثلة بيوع الآجال، حفر البئر لإهلاك الناس فيه، الفرار من الزكاة بهبة المال أو إتلافه. بيوع الآجال، حفر البئر لإهلاك الناس فيه، المنع من زراعة العنب خشية اتخاذه للخمر
يتبين من خلال هذا الجدول أن كلتا المفردتين لمعنى واحد وإن كان بينهما عموم وخصوص، فالحيلة بالمعنى العام تلتقي مع الذريعة من حيث إنه يتوصل بكل منهما إلى غرض معين دون أن نحدد نوعية هذا الغرض. ويختلفان عندما تخص الحيلة في استعمالها العرفي على نوع خاص من التصرف هو استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعا أو عقلا أو عادة، وهذه أهم الفروق بينهما:
– اختصاص الحيل بخرم قواعد الشريعة خاصة تكون أخص من الذريعة على هذا الاعتبار.
– الذريعة لا يلزم أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها للتخلص من المحرم.
المبحث الثاني: علاقة أصل سد الذرائع بالنظر المقاصدي عند الشاطبي
لايمكننا الحديث عن سد الذرائع عند الإمام الشاطبي دون الكشف عن علاقة هذا الأصل بعلم المقاصد، وهو العلم الذي انبرى له شيخ المقاصديين ونظر له وقعد قواعده وأصوله، وقد خصصت هذا المبحث لبيان مرتكزات هذه العلاقة انطلاقا من المطالب التالية:
المطلب الأول: سد الذرائع خادم للضروريات الخمس.
اعتبر الشاطبي رحمه الله أن سد الذرائع مقصد من مقاصد الشريعة وخادم لها في الآن نفسه، وقد عدد رحمه الله النصوص الشرعية المثبتة لأهمية سد الذرائع في خدمة الضروريات الخمس وصيانتها، منها:
– قوله سبحانه:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (الأنعام/108) فنهى عز وجل المؤمنين عن سب آلهة المشركين حتى لا يكون ذلك ذريعة لسبهم الله تعالى، وهذا من صميم مقصد حفظ الدين.
– وقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) (البقرة/104) وفيها نهي للمؤمنين عن قولهم للرسول : راعنا. لأن اليهود جعلوا ذالك ذريعة إلى شتمه بصرفه إلى معناه في لغتهم – اسمع لاسمعت- وهذا أيضا مقصد من مقاصد حفظ الدين، بحفظ مقام المبلغ لهذا الدين.
– وأيضا قوله جل جلاله:(يا أيها الذين آمنوا ليستاذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات)(النور/58) فجعل الإستئذان في الأوقات المذكورة سدا لذريعة اطلاع المماليك والصبية على العورات، وذلك خدمة لمقصد حفظ العرض والنسل.
– كما أن نصوص السنة مستفيضة بالأحاديث التي تراعي أصل سد الذرائع حفاظا لمقاصد الشارع ومنها نهيه عن الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، قال :”الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه.”

المطلب الثاني: علاقة سد الذرائع بالمصالح والمفاسد
جاءت الشريعة لجلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، ولاشك أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن دفع المفاسد إغلاق السبل المؤدية إليها والطرق الموصلة لها، قال ابن فرحون رحمه الله:”والذريعة الوسيلة إلى الشيء، ومعنى ذلك: حسم مادة وسائل الفساد، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل وهو مذهب مالك رحمه الله.”
وقد وظف الشاطبي رحمه الله سد الذرائع في الترجيح بين المصالح بحيث تتدافع ولا تتعارض، وما مفهوم سد الذرائع إلا ذلك، وهو دفع المصلحة الأقوى الراجحة للمصلحة الأضعف المرجوحة.
والمصلحة عنده متضمنة لمصالح الدارين، ذاك أن:” وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا.” ولحفظ المصالح ورعايتها بنوعيها وجب حسم آخر مصدر للفساد يمكن أن يتطرق إليها، وذلك لا يتأتى إلا بسد الذرائع إذ أنها تمنع اتخاذ الوسائل طرقا لتحقيق الأغراض غير المشروعة.
ونخلص من ذلك أن أصل سد الذرائع يحارب الفساد، وبالتالي فهو منوط بالمصلحة سدا وفتحا، فمتى أفضت الوسيلة إلى مصلحة كانت المصلحة في فتحها، ومتى أفضت إلى فساد كانت المصلحة في سدها، وذلك معنى كون السد والفتح منوطان بالمصلحة وجودا وعدما.
المطلب الثالث: سد الذرائع واعتبار المآل
اعتبر الإمام الشاطبي رحمه الله سد الذرائع أصلا يجسد التطبيق العملي لنظرية المآل، بالنظر إلى ما تفضي إليه مقاصد الأحكام التكليفية، مما يحسم سبل التذرّع بما هو جائز إلى ما يناقض مقصود الشرع، إذ أن الشريعة مبنية على الاحتياط، والأخذ بالحزم والتحرّز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة.
إذ أن نظر الأصولي لا يقتصر على الأفعال في حد ذاتها مجردة عن أبعادها، بل ينظر إلى الأفعال وإلى ما تؤول إليه، فإن كانت تنحو نحو المصالح والغايات كانت مطلوبة بمقدار ما تحققه من مقاصد، وإن كانت مآلاتها تنحو نحو المفاسد فإنها تحرم بمقدار المفاسد التي تنتهي إليها، وهذا هو جوهر أصل سد الذرائع فالمجتهد لا يستطيع سد الذريعة إلا إذا تيقن مما تفضي إليه في مآلها، وهذا ما نص عليه الشاطبي في تأصيله لاعتبار المآل في مقاصد الشرع، يقول رحمه الله:” النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.”

• خاتمة:
اشتهر المالكية رحمهم الله بالتوسع في الأخذ بسد الذرائع واعتبروه من الأصول الشرعية الهامة في استنباط الأحكام، وقد سار الإمام الشاطبي على نفس درب الأصحاب، فالنظر المقاصدي عنده يقتضي النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه، سواء أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإذا كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو منهي عنه.
ومستنده رحمه الله الاستقراء، فقد دلت نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم على الأخذ به، كما أن التوازن بين المصالح والمفاسد يقتضي مراعاته، وتجنبا للمبالغة في الأخذ به، مما يؤدي إلى تضييق مصالح الناس وتعطيلها قيده بمجموعة من الضوابط والقيود حتى لا يخرج عن هدفه وهو حماية الشريعة من التلاعب.
وهذا النوع من التفكير الفقهي جعل المذهب المالكي خصبا لا يجمد على ظواهر الأمور، بل يحكم عليها ببواعثها وغاياتها، ويعطي الوسائل حكم المقاصد تحليلا و تحريما.
وأخيرا نسأله سبحانه التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.

فهرس المصادر
– القرآن الكريم
– إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي (ت:474هـ )ت:عبد المجيد تركي ط:2/1415هـ – 1995 م د الغرب الإسلامي بيروت.
– إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية(ت: 751هـ) ت : طه عبد الرءوف سعد. د: الجيل، بيروت.
– الأم للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ط:2/1983 د الفكر بيروت.
– البحر المحيط في أصول الفقه لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي(ت:794هـ ) ط:1/1414هـ – 1994م د: الكتبي، الجيزة مصر.
– بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ط:2/1402هـ 1982م، د الكتاب العربي بيروت.
– تاج العروس من جواهر القاموس لمرتضى، الزَّبيدي، ت: مجموعة من المحققين، دار الهداية.
– تبصرة الحكام في أصول والأقضية ومناهج الأحكام للإمام العلامة برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم ابن الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن فرحون البيعمري المالكي(ت:799هـ) تعليق الشيخ جمال مرعشلي ط:2/1428هـ 2008م د الكتب العلمية بيروت.
– التعريفات لعلي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (ت:816هـ) ت:جماعة من العلماء (ط:1/1403هـ -1983م) د: الكتب العلمية بيروت.
– الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي ت: محمد زهير بن ناصر الناصر،ط:1/1422هـ، د:طوق النجاة.
– السنن الصغير لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، ت: عبد المعطي أمين قلعجي ط:1/1410هـ1989م جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي.
– شرح تنقيح الفصول شرح تنقيح الفصول لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي(ت: 684هـ )ت: طه عبد الرؤوف سعد ط:1/ 1393 هـ – 1973 م شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة.
– الفروق وأنوار البروق في أنواء الفروق للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي(ت: 684هـ) ضبطه وصححه خليل المنصور، ط:1/1418هـ 1998م د: الكتب العلمية بيروت.
– لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، ط:1 د: صادر، بيروت.
– المسالك شرح موطأ مالك لابن العربي تعليق محمد بن الحسين السليماني وعائشة بنت الحسين السليماني ط:1/ 1428 هـ 2007م د الغرب الإسلامي بيروت.
– المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (ت:211هـ) ت:حبيب الرحمن الأعظمي ط:2/1403 المكتب الإسلامي، بيروت.
– المغني لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي(ت:620هـ) ط:1/1404هـ 1984م د الفكر، بيروت .
– مقاصد الشريعة الإسلامية لفضيلة العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ت: محمد الطاهر الميساوي ط:2/1421هـ2001م د النفائس، الأردن.
– المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي(ت:520هـ) ت: محمد حجي ط:1/1988م د الغرب الإسلامي، بيروت.
– الموافقات في أصول الشريعة لإبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي المالكي(ت:790هـ) ت: عبد الله دراز، د:المعرفة بيروت.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد