مفهوم الخطاب في الدرس اللساني … جعفر لعزيز

جعفر لعزيز: باحث بسلك الماستر بالمدرسة العليا للأساتذة، جامعة محمد الخامس بالرباط

حاولنا في مادة الفلسفة وتحليل الخطاب، أن نحدد الانتقالة التي شهدها مصطلح “الخطاب”، من حيث الإسم والمسمى من جهة، ومن حيث التصور المعرفي والفلسفي من جهة أخرى، وبرز على هذا أن حددنا بعض الأعلام في هذه المسألة وخاصة مفهوم الخطاب عند هاريس، وسوسير، وإميل بنفينيست، لا لاعتبار أنهم من تناولوا الخطاب تعريفا ودراسة وتفصيلا، بل لكونهم الفئة التي برزت في هذا المخاض النسقي والمعرفي لمفهوم الخطاب، وقلنا إن هذا المصطلح كانت بواذر ظهوره مع العالم التوزيعي “هاريس” سنة 1952م، وما وقع فيه هذا الرجل أنه اهتم بالنحو التوزيعي للجملة ومغزاه “أن التأليف بين أجزاء اللغة لا يتم اعتباطا، وإن لكل عنصر موقعه الخاص في علاقته بالعناصر الأخرى”، ويمثل للجملة بمجموعات من المركبات، ويعتبر هذا النموذج محط انتقاد النحو التوليدي مع “تشومسكي” من تجاوزها، وسأورد ههنا ما اختص به النحو التوزيعي، ونمثلها فيما يأتي:
أول هذه النماذج هو التمثيل المعلب، إذ نمثل فيه للجملة على شكل جملة، نبدأ من الأسفل نحو الأعلى، وترقيم كل خانة برقم خاص.
النموذج الثاني هو:التقويس المعنون، نمثل فيه للجملة داخل جدول، مع عنونة كل خانة بنوع المركب الموجود فيها.
والنموذج الثالث هو: التمثيل بالأقواس، ونمثل فيه أيضا للجملة على شكل أقواس، مع ترقيم كل قوس برقم معين.
هذه هي النماذج التي زبر بها النحو التوزيعي في مسألة الجملة وتشجيرها وانتقاله من مستوى الجملة إلى مستوى الخطاب، الذي اعتبره مجرد جمل لها معنى، والحال أن هناك بون شاسع بين مصطلح الخطاب والجملة من حيث المعنى اللغوي والإصطلاحي، ومن الملاحظ التي يمكن إيرادها حول صنيع هاريس أن لا مجال لمفهوم الخطاب عنده، وحينما نقول المفهوم فقصدنا الخطاب الذي استقر عليه الحال فيما سيأتي بعده، ومجال اشتغاله التحليل التوزيعي للجملة لا الخطاب .
رغم هذا فله الفضيلة في التقعيد للمصطلح كاسم فقط، إلا أنه بعد سبع عشرة سنة، أصدر “بيشو” كتابه “التحليل الآلي للخطاب” سنة 1969م، وكتاب “حفريات المعرفة” “لفوكو”، وهنا بدأت نظرية تحليل الخطاب تنحو المنحى التطبيقي، ومقاربتها للمناهج اللسانية فيما يخدم مصلحتها، ويمكن أن نقول: إن نظرية تحليل الخطاب بمثابة بيت وُضِعت له أسسه، بمعنى النسق والتصور، ولكي يكتمل البناء (التصور) حاول الأخذ من العلوم الأخرى فلسفية كانت أو أدبية، وهذا التكامل والتناسب بين الخطاب ومختلف المعارف لم يتم اعتباطا، ونحن نعلم أن العلماء إذا قاموا بشيء نجد لهم تبريرات وغايات في ذلك.
وبناء على ذلكم على الفرش المعرفي نقول إن نظرية تحليل الخطاب تفاعلت مع مناحي شتى من المعارف، إما ارتضاء أو امتحاء، أو نقدا، “وعليه فهو يبني تصوراته النظرية، وآلياته المفاهمية (الخطاب) على أسئلة المناهج الأخرى، وتبعا لتنوع زاويا النظر تتنوع زاويا أشكال القراءة، وطرق الممارسة” وتجاذب المناهج “من أجل الغربلة والتكييف ثم التجاوز”.
 الخطاب في لسانيات سوسير:
إن الذي استقر لدينا أن سوسير لم يرد مفهوم الخطاب في مشروعه المعرفي، وإن يعتبر البعض الكلام مردافا للخطاب عنده، والحال يظهر غير هذا القول لا عتبارات كثيرة منها أن الخطاب أعم، ويحوي ما هو أشاري وما هو مكتوب، والكلام هو ملفوظ لا غير، وتتباين دلالات المفاهيم بتباين أصلها اللغوي من جهة، وإذ لا ترادف في اللغة من جهة أخرى، وعليه لا يمكن جعل الخطاب هو الكلام عند سوسير.
ولبيان غياب مفهوم الخطاب في اللسانيات السوسيرية نحدد مفهوم اللغة باعتبارها منظومة أو بنية مغلقة، بحيث لا يمكن معرفة القوانين المتحكمة فيها ما لم نتهم بدراستها ككل، فلا معنى إذن لجزء منها إلا في إطار الكل، الذي هو بنية اللغة، وقد قدم كتاب المحاضرات لفيفا من الثنائيات، والتي تهمنا ههنا، هي: “ثنائية اللسان والكلام”.
إذن اهتمام سوسير بدراسة اللغة كبنية مغلقة في ذاتها ومن أجل ذاتها، بمعنى الدراسة العلمية، جعله يغفل مفهوم الخطاب، باعتبار أن الرجل اثر الأهمية للسان على الكلام، في كون أن الأول هو: “نسق لغوي قائم في ذاته، وخاص بكل مجتمع على حدة وهو…مجموعة من العلامات العرفية والاصطلاحية، التي يتم التوافق حولها، ليستعملها أفراد المجتمع، للتعبير عن حاجاتهم اليومية العامة والخاصة”
والكلام هو الممارسة الفعلية للقواعد والعلامات اللسانية، أو هو الجانب الإبداعي الفردي من اللغة، وهو مرتبط بالذات المتكلمة، وهكذا يأتي الكلام في المرتبة الثانية بعد اللغة، فلا يمكن للمتكلم أن يستعمل اللغة ويوظفها ما لم يكتسبها ويتعلم قواعدها، ويقول سوسير: ”إن الكلام هو مفهوم ينتمي إلى اللسان ويشمل ما يشمل ما يعتري أداء الفرد اللسان من ملامح فردية”.
وعليه فإن اللسان نسق بنيوي مغلق، لا يمكن للفرد المتكلم أن يغيره أو يتصرف فيه، ولكن يأخذه بالقوة عن المجتمع الذي يعيش فيه، وقواعده ليست غريزية، بل هي مكتسبة، وهذا المجتمع هو الذي يجعل الفرد المتكلم يكون على استعداد لغوي في الإطار الجماعي الذي ينتمي إليه. وأما الكلام فهو ظاهرة شخصية وسلوك فردي خاص، تدخل فيه الذات الفردية.
ولعل السبب الرئيس الذي غيب مفهوم الخطاب عند سوسير هو الغاية التي حددها فور تعريفه للغة أولا؛ لأن التعريف فرع عن التصور العام للمنهج المعتمد، وقدم لنا بأنه سيتناول اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وللوصول إلى هذه الغاية قصر الدراسة على مفهوم اللسان، لتوافر الشروط العلمية فيه، فهو ثابت، ونسق منغلق، ومؤسس على قواعد اجتماعية لا يمكن التصرف فيها، وهو شكل للعلاقات القائمة بين العلامات اللسانية، وفي كونه النسق الذي تنتظم عليه اللغة، ويحدد قيمة كل علامة لسانية داخل أي تركيب، وجل هذه الشروط، أولت سوسير أن يهتم باللسان أكثر من الكلام، الذي لا يسعفه لتحقيق هدفه الأسمى، فهو غير ثابت لا يمكن التحكم فيه، وعرضي غير متجانس ومتعلم، وكما اعتبر اللغة بمثابة لعبة الشطرنج، التي بنيت على قانون واحد أجمع عليه الناس لا يمكن تغيره، وهذه القوانين هي اللسان، وتمارس اللعبة ببيادق معينة هي الكلام، ويمكن استبدالها ببيادق أخرى ولن يتغير شيء، ولذلكم فلعبة الشطرنج لغة، تنتظم وفق نسق وبنية تتكون من أربعة وعشرين مربعا، واثنتي عشر بيدقا، وهي اللسان ونعتبرها مجموعة من القواعد والعلامات، واستثمار هذا النسق يكون من قبل الكلام، عن “طريق تحويل العلامة اللسانية” وتفعيليها.
بعد هذا الفرش النظري تأتى لنا أن سوسير لم يول الأهمية للذات المتكلمة في منجزه، ونحن نعلم دور الذات في الخطاب، ولا يمكن أن نلومه على ذلك، لأن التصور والغاية قد حكماه ليتجه اتجاها يدرس فيه اللغة كبينة مغلقة لا دخل للأبعاض فيها(الذوات)، ونعلله أيضا بأن الرجل انعزل عن الكتابة، وما كتب فهو مجرد محاضرات يلقيها على الطلبة، ونحن نعلم أن ما يقال شفويا مخالف للدقة التي نجدها في المكتوب، ولكنه رغم ذلك فقد تنبأ لعلم تحضره فيه الذات الإنسانية بشكل كبير، هو علم النفس الاجتماعي، وهذا أمر جعل الرجل يقع في تذبذب بينما حدده وصرح به في مشروعه- هو دراسة اللغة دراسة علمية- وبين ما تنبـأ به، وهو “علم النفس الاجتماعي”، الذي يدرس العلامات في المجتمع، وههنا رد الاعتبار إلى الذات المتكلمة.
هذا فَسْرٌ للخطاب في اللسانيات السوسيرية، نؤكد فيه غياب الخطاب مفهوما واصطلاحا، وغيابه شرع الأبواب لظهور مناهج أخرى تجيب عن هذا الإشكال، وتملأ فرغاته، ونقول إن البدايات الأولى دائما ما تكون متواضعة، وتواضعها يكون له أجر لنحث مفاهيم أخرى، ومناهج مؤسسة على ما لم تهتم به سابقتها، وهذا أمر ستتجاوزه لسانيات التلفظ مع إميل بنفينيست.

 الخطاب في لسانيات التلفظ:
بنا إميل بنفينيست تصوره اللساني في كتابه “مسائل اللسانيات العامة” على التصور السوسيري، وصرح بأنه لن يقف عند ما تناوله الرجل، وإنما يسعى لتجاوز ذلك وانتقاد أطروحته القائلة باعتباطبة الدال والمدلول، وعدم كفاية الكلام لدراسة اللغة دراسة علمية، وقدم حججا على هذا النقد، الحاصل بعملية القراءة المشاكسة في منحاها الإيجابي، والاعتماد على التكييف والتطويع ثم التجاوز، وبناء على هذا فنجد حضور مصطلح الخطاب في لسانيات التلفظ، والاهتمام بالذات المتكملة، والأخذ بما اعتبره سوسير غير مسعف لتحقيق مبتغاه البينوي العام، ولبيان هذه المسائل لا بد وأن نورد المفاهيم الرئيسة داخل النسق الابستمولوجي للسانيات التلفظ، على اعتبار أن المفاهيم من مبادئ العلم عند المناطقة، ولأن تعريف الشيء فرع عن تصوره:
ونورد هذه المفاهيم فيما يأتي:
1. مفهوم اللغة: يعتبر بنفينيست اللغة نظاما مجردا أو طاقة مخزنة في ذهن الإنسان، لا تتحول إلى كلام حقيقي، ولا إلى جملة أو نص أو خطاب إلا عند عملية التلفظ، بمعنى بعد انتهاء الملفوظ، الذي يكتسب صورته أو نتيجته في التلفظ، باعتباره فعلا ذاتيا للغة، وهذا التعريف كاف لمعرفة البون بين لسانيات سوسير الذي يعتبر اللغة بنية مغلقة لا مجال للذات المفردة فيها، وبين تصور “إميل” الذي يجعل اللغة نسقا، ولكن يتم عبر فعل ذاتي يسخر كل ما استقر لذيه في ذهنه من العلامات والقواعد والإحالة بالضمائر، وظروف الزمان والمكان وكل ما هو سياقي يحيل على المتكلم والمستمع، “أنا هنا الآن”.
2. الخطاب: هو الذي يتم عبر مستويين أولهما الملفوظ باعتباره قولا، والتلفظ لكونه إجراء فردي وفعل ذاتي لما قيل، ومسخر للقواعد في استعمال اللغة، ويقابل الكلام عند سوسير، بمعنى إنه صورة وليس شكلا، وعليه “فالخطاب كل مقول يفترض متكلما ومستمعا” ، بغية التأثير والتأثر.
3. مفهوم التلفظ (Énonciation):
لا يمكننا الحسم في تعريف واحد للتلفظ، باعتباره كيمياء بين مجالات متعددة تارة تجده في الجانب اللساني، وتارة أخرى في الجانب السيميائي، وفي ميادين أخرى، ونقصر الأمر فيما يدل على المقصود في هذا الموضع:
يقول مانغونو: ” التلفظ هو: تسخير اللغة بواسطة الفعل الفردي للاستعمال، وهكذا فإن التلفظ مباين للملفوظ كتباين الفعل عما يترتب عنه” .
يقول ديكرو: “التلفظ هو الحدث المكون بظهور الملفوظ”
التلفظ إجراء والملفوظ نتيجة” ص505.
 بمعنى أن التلفظ فعل فردي عن طريق استعمال اللسان في لغة ما، ننتج من خلاله ملفوظا، هنا أصبحت للسان أهمية في تحقق الخطاب.
 التلفظ هو فعل القول، والملفوظ هو ما قيل.
 وضع اللغة في حركة بمقتضى فعل فردي في الاستعمال.
4. الملفوظ Enoncé : يقول مانغونو: ” هو وحدة اتصالية تبليغية أولية ومتوالية لغوية ذات معنى وتامة من حيث التركيب، كما هو الحال في: « Léon est malade »”.
يجعل ديكرو النص مساويا للملفوظ وذلك بقوله: ” الملفوظ وحدة مساوية للنص أي متوالية لغوية منوطة بمقاصد نفس المتلفظ والتي تشكل كيانا لنوع خطابي معين: نشرة جوية، ورواية، ومقالة صحفية..“
في تحليل الخطاب: ” قال “غسبان بين الخطاب والملفوظ تأثير أكيد ” والملفوظ متوالية الجمل المرسلة بين بياضين دلاليين وتوقفين في عملية التواصل، والخطاب هو الملفوظ منظورا إليه من وجهة الآلية الخطابية المتحكمة فيه” .
بناء على هذه المفاهيم يمكن لنا بناء التصور العام لحضور مفهوم الخطاب بنفينيست، ونحدده أولا في تعريفه للغة؛ إذ جعلها بمثابة اللسان عند سوسير، بمعنى هي نسق يتم عبر فعل ذاتي أو فردي عن طريق التلفظ مقابل الكلام، وقد يظهر لك أن هذا مجرد إعادة لقول سوسير، في كون أن اللسان مقابل اللغة، والكلام مقابل التلفظ، نقول هي إشارة لطيفة، نجيب عنها بأن سوسير أولى الأهمية للسان على الكلام، وغيب الذات، وإميل سار على خلافه فاهتم بالتلفظ لكونه الجانب الفعلي الذاتي للسان.
ويمكن أن نحدد الخطاب كنقطة ثانية في الاهمتام بالجانب العرضي عند سوسير الذي قال عنه، إنه غير ثابت، وانتقده إميل فقال: يمكن حصر الكلام (التلفظ)، عن طريق الإحالات التي تحيل عن المتكلمين داخل الخطاب وهي الضمائر، وظروف الزمان والمكان.
وعليه فالخطاب عند إميل بنفينيست يقتضي حضور الذات المخاطبة والمتكلمة، ويتم بينهما في مستويين، مستوى الملفوظ كمنجز مستقل عن الذات، وباعتباره مجموع الوقائع اللغوية التي تظهر في التلفظ كمستوى ثان في العملية التواصلية، وفيه يتم تسخير النسق اللغوي في استعمال اللغة وربطها بالفعل الذاتي للقول، و”إن اللغة تقترح بوجه من الوجوه أشكالا فارغة مناسبة لكل متكلم يمارس الخطاب، يعلقها بــ“شخصه“ معرفا نفسه بوصفه ”أنا“، ومعرفا شريكا له في الوقت ذاته بوصفه ”أنت“ .
خاتمة:
قدمنا في هذه الورقة مفهوم الخطاب داخل النسق اللساني، الذي يعتبر اللغة بأنها بنية مغلقة، عرجنا من خلالها على التصور الذي يعتبرها سلسلة من المتواليات الجملية، عبارة عن مركبات صورية، وتصور يدرسها في ذاتها ولذاتها، وآخر يدرس كيفية استعمالها انطلاقا من الفعل الذاتي للغة نفسها، ومفهوم الخطاب عندهم بقي منحصرا فيما يسميه فوكو بالقواعد الصورية ذات النسق اللغوي المغلق، التي تسعى إلى البحث عما هو تواصلي فقط، وجاء تصور فلسفي يقدم لمفهوم الخطاب تصورا آخر تداخلت في انتاجه فلسفة العلوم، والمعارف، والعلوم المعرفية، وتضافر جهود الباحثين، وخاصة بُحاث المدرسة الفرنسية لتحليل الخطاب.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد