من ديداكتيك الترجمة اللغوية إلى بناء المعرفة الثقافية … ياسين سماح

ياسين سماح: ماجستير تدريسية اللغة العربية ـ كلية علوم التربية بالرباط

لا شك أن موضوع الترجمة (traduction) قد استأثر اهتمام كثير من الباحثين نظرا لأهميته التي ترجع في الدرجة الأولى إلى اللغة، و” لعل هذه الأخيرة هي الهدف والموضوع في كل عمل يتغيا الترجمة المكتملة من حيث المعنى والتمعني”، وإنه من السذاجة المنطقية فصل اللغة عن ثقافتها، إذ هي الحاملة للثقافة والوعي المجتمعي، وأداة السلطة ووسيلة تنفيذها الأولى، وعليه يتوجب على مدرس الترجمة مراعاة الجوانب والأبعاد اللغوية والثقافية من أجل الحصول على عملية تدريسية فعالة للترجمة، ومما لا ريب فيه أن العائق الذي يحول دون فهم صحيح للترجمة اللغوية هو فصل التفكير باللغة المراد ترجمتها عن اللغة ذاتها ، وهي نقطة أساسية لا يمكن إغفالها، بل إنه من الواجب الربط منطقيا بين اللغة والفكر، إلا أن التغاضي عنهما أوقع الترجمة في الرداءة وقصور التأويل، وهذا ما نجد له صدى في مؤسساتنا التعليمية بالتعليم الثانوي التأهيلي التي تأخذ من الترجمة مادة تكميلية بل تقترب من انعدامها، وإن غياب استراتيجية ديداكتيكية لتدريس الترجمة اللغوية لمن شأنه أن يُضعِفَ الاحتمالات الممكنة لترجمة سليمة تراعي مقتضيات اللغة المصدر ونظيرتها، أي اللغة الهدف، ولعل طبيعة اللغة أيضا تفرض نوعية المسار الذي سيسلكه المترجم لاِستيفاء الخصائص الثقافية واللغوية في ترجمته، وهنا يجب الاحتكاك بالمجال الديداكتيكي لبناء أسس الترجمة اللغوية وضرورة ربطها بالثقافة ما دامت اللغة حاملة للثقافة، وهنا أيضا يجب تنبيه المتعلم وإرشاده إلى استحضار ثقافة اللغة المراد الترجمة إليها، وهي طبعا تنبيهات تؤطرها العملية التعليمية التعلمية، ويضع المدرس ركائزها الأولى لدى المتعلم، لكنها تنبيهات وعمليات تبقى حبيسة التنفيذ والإنجاز ما لم يتم التعرف على الترجمة والترجمة اللغوية وأهدافها، وكيفية الاِنتقال من ترجمة لغوية إلى ترجمة ثقافية، وكذا تداخل اللغة مع الثقافة واستحالة فصلهما، ولعل هذه القضايا هي محور وبؤرة هذا الموضوع من حيث بيانها وكذا الدفاع عنها في الحقل التربوي بعد الحقل اللساني .

1-الترجمة والترجمة اللغوية: تعد الترجمة تحويلا للغة إلى أخرى، فهي بذلك عملية بين قطبين، قطب المصدر وقطب الهدف، ويعتبر القطب الأول قطب الامتلاك؛ والإحاطة بحيثياته أمر حتمي من أجل استعداد كاف لتحويله إلى قطب الهدف، ولتحقيق هذه المهمة وجب التمكن أولا من جزئيات قطب المصدر والاطلاع الكافي على جزئيات قطب الهدف، وليكن قطب المصدر هو اللغة، ولنفترض أنها اللغة العربية، والقطب الثاني اللغة الفرنسية لغة الهدف؛ فإن تحويل القطب الأول إلى القطب الثاني يستدعي المعرفة الجيدة بخصائص اللغة العربية من الناحية المعجمية والتركيبية والدلالية والتخاطبية، ومعرفة سياقات الاستعمال التي تختلف تبعا للظروف والمقامات، ولعل لكل نظام من أنظمة اللغتين تأثير ضعيف أو قوي على الترجمة، ” فالنظام الصوتي أقل الجوانب تأثيرا في الترجمة، والنظام الصرفي قد تؤثر فروقه في درجات دقيقة وقليلة من جوانب المعنى، أما النظام التركيبي فهو موضع النظر والبحث وهو بذلك جدير، فإذا كانت اللغة العربية ذات بنية : [ف + فا + مف] ، فإن اللغة الفرنسية ذات بنية : [فا + ف + مف] ، أما النظام المعجمي وهو المفردات ، فإنها في اللغات السامية تكاد تكون واحدة نظرا لطبيعتها الاشتقاقية “، الشيء الذي يتجاوز بالترجمة تلك العلاقة التحويلية التي تجمع النص (س) مع النص (ز) الموجود قبله، فبإمكان نص أن يقلد نصا آخر وأن يحاكيه وأن تكون محاكاته ساخرة وأن يبدعه من جديد وبحرية ويشرحه بإسهاب ويستشهد به ويعلق عليه؛ وأن يكون خليطا من كل ما تقدم، فهناك كما بين باختين (Bakhtine) وجينيت (Genette) وكمبانيون (Compagnon) بعد أساسي لما هو أدبي. وكل هذه العلاقات التحويلية تتوفر على رباط توالدي حر شبه لهواني (quasi ludique)، وذلك انطلاقا من ” أ ص ل ” ما. وتعتبر هذه العلاقات، من منظور البنية الشكلية، قريبة من الترجمة ” ، وعليه فاللغة (س) لها ترجمة لغوية (س) واللغة (ب) لها ترجمة لغوية (ب)؛ وسيكون من العبث المنطقي وعدم التمكن اللغوي اعتماد ترجمة (ب) للغة (س) والعكس كذلك، إذ لا يجب اعتماد ترجمة (س) للغة (ب)، ولا يقتصر هذا المنظور على الترجمة اللغوية فحسب، بل يشمل كل الترجمات،” ومثال ذلك أن المترجم الفني قد يجازف إذا ما حاول ترجمة فن بغير خصوصيته، وعندما يغذي تفاصيل النص المراد ترجمته بمعرفته الخاصة لحالات مماثلة لتلك التي وردت في النص، يمكنه استنباط المعنى المحتمل لمثل هذا النص الغامض، وفي ظروف من هذا النوع تقترب الترجمة الفنية إلى حد خطير من الجهد الشخصي الناشئ من موضوع مستقى من النص المراد ترجمته” ، و هذا ما يفضي إلى القول بأن “الترجمة كباقي الأنشطة التي يهدف إليها الإنسان، فهي علم وفن؛ فن ينبني عن علم، وعملياتها تُعنى بالمشاكل اللغوية وغير اللغوية” . إن الترجمة اللغوية لا تنحصر فقط في أدوار التحويلات اللغوية من لغة إلى أخرى، وإنما تستلزم الوقوف على الحدود الدلالية والمعنوية، وكذلك الأنظمة التخاطبية التي تميز كل لغة على حدة، “وتضمن التماسك الشديد بين أنظمة اللغة والأجزاء المشكلة للخطاب المترجم، والاهتمام فيه بالوسائل اللغوية، التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب أو خطاب برمته مع رصد الضمائر والإشارات المحلية، والإحالات القبلية والبعدية، ووسائل الربط المتنوعة كالعطف والاستبدال والحذف والمقارنة والاستدراك وغيرها من أجل البرهنة على أن النص اللغوي المترجم يشكل كلا متآخذا ” . وإذا كانت الترجمة اللغوية تأخذ بين طياتها صعوبات ترجع إلى خصائص لغوية بالأساس، فإنها تفرض على معلميها اعتماد أسس ديداكتيكية ومنهجيات تدريسية فعالة، تجعل درس الترجمة اللغوية أقرب ما يكون إلى دروس اللغة المتعلمة باللغة المصدر التي صنفناها في القطب الأول، و”جعل منطلق تدريسها يرتكز على ثلاثة مستويات، أولهما المحادثة بالكتابة، وثانيهما المستوى المعجمي، وثالثهما المستوى النحوي” ، مما يقوي البناء اللغوي للترجمة عبر التدرج من الممكن نحو الأمكن .

2-المسوغات الديداكتيكية لصعوبات الترجمة اللغوية: من الواضح أن العملية التعليمية التعلمية في جميع الأطوار التعليمية ابتدائية كانت أو إعدادية أو ثانوية أو جامعية، تختص بطريقة تدريسية معينة؛ يؤطرها مجال بيداغوجي واسع، وهذه الطريقة تتنوع في عمومها وخصوصها تبعا لطبيعة المادة المدرسة والسلك التعليمي، ويمكن للتدرج في مستويات النقل الديداكتيكي (transposition didactique) أن يصل بالمتعلم إلى ترجمة سليمة على المستويين اللغوي والدلالي، من معرفة علمية ممتَلكة (savoirs savant) ذات بعد أكاديمي إلى المعارف التعليمية (savoirs à enseigner) والتي تتميز بدرجات من التبسيط، وذلك عبر النقل الديداكتيكي الخارجي (transposition didactique externe) لتبدأ عملية النقل الثانية التي تنقل بموجبها المعارف التعليمية إلى معارف متعلمة ((savoirs ensiegnés عن طريق النقل الديداكتيكي الداخلي (transposition didactique interne ) لتكون النتيجة في النهاية معرفة حاصلة (savoirs appris)” ، ولعل هذا التنوع في الطرق والوسائل ومسارات التخصص هو ما يطرح العديد من الصعوبات لدى مدرس الترجمة اللغوية، ولا شك أن أول صعوبة يواجهها مدرس الترجمة ؛ تتعلق بوضع التصور العام الذي ستكون عليه اللغة المصدر بعد تحويلها إلى اللغة الهدف ، وهذا راجع إلى انعدام البناء الديداكتيكي للتمثلات الإبستيمولوجية التي من المفروض أن تكون في وضع أبسط من وضع التفكير في الحالات المعقدة، ومادام” الديداكتيك مادة تربوية موضوعها التركيب بين عناصر الوضعية البيداغوجية” ، فإن حالات الترجمة المستعصية لا تعدو أن تكون وضعية من بين الوضعيات الديداكتيكية المتعددة، وعليه فالربط بين عناصرها سيتيح إمكانيات كبيرة لتجاوزها أو لتسهيل التمكن منها . ولئن كانت الصعوبات الأولى ترتبط بالتمثلات، فإنه لابد من صعوبات تتوالى تبعا لطبيعة اللغتين أي: اللغة المصدر واللغة الهدف، ولعل المراجعة الفردية الذاتية للرصيد اللغوي بالنسبة للغتين يقف حاجزا ليصبح تقويما تشخيصيا للذات، وبالتالي الشك في قدراتها اللغوية عوض جعله تقويما تشخيصيا لمكتسبات المتعلمين وإمكاناتهم اللغوية، ومما لا ريب فيه أن المسوغ الديداكتيكي لهذا العائق راجع إلى ضرورة التعرف على “ميكانيكية النمو للكشف عن المستويات الضرورية التي تحدد كل خطوط تطور الفرد، وهي بذلك تصلح لتوقيت العمليات التعليمية المختلفة و ترتيبها في وحدات متتابعة متعاقبة ” ، وهذا من شأنه قياس مدى توفر المستويات اللغوية لدى المتعلمين وإمكاناتهم في الترجمة اللغوية، ومن الصعوبات التي يُفترض أن نجد لها تسويغا ديداكتيكيا، هناك مسألة التقابل المعجمي بين لغة المصدر ولغة الهدف؛ وعدم وجود مفردة في اللغة الهدف مقابلة لنظيرتها في اللغة الأصل؛ ومرجع هذه الصعوبة ديداكتيكي بالأساس لأن المدرس المترجم لا يأخذ في الحسبان خصوصية كل لغة وتفردها، وبالتالي فهو في وضعية ديداكتيكية تستلزم تفريغ رصيده المعجمي مرفوقا بالرصيد الدلالي أملا في إيجاد مفردة لها من الخصائص المعنوية والصرفية والنحوية ما يقارب المفردة في اللغة الأصل، إلا أن إمكانيات تحقيق ذلك قليلة نظرا لتميز اللغات وتفردها ، ويبقى ضروريا الارتكان إلى المنظورات الديداكتيكية للترجمة لتجاوز الصعوبات اللغوية ما أمكن .

3-الطرائق الديداكتيكية ونظرية الترجمة: إن الترجمة أعسر من التأليف من حيث إنها تتطلب الدقة والأمانة في نقل المعنى دون زيادة أو نقصان أو تشويه، أما في التأليف فللمنشئ كل الحرية في أن ينصرف عنه إلى ما يقاربه، وفي باب الأمانة للأصل للرومان قول مأثور: ‘ الترجمة خيانة’، وقديما قال الجاحظ: ‘ والشعر لا يجوز عليه النقل ‘، ذلك أن في الشعر وزنا وقافية يجعلان ترجمته أعسر من النثر فضلا عما فيه من خيال وبيان وإيجاز” ، وإنه لحقيقة صعوبة الترجمة وعسرها، تتطلب من الأمانة ما ليس بالقليل ومن الدقة ما هو بالكثير، ولعل الجانب الديداكتيكي قد يوجِد حلولا أولية لتدريس الترجمة ؛ كأن يتم التفكير أولا فيما سيتم التعبير عنه، ثم جعل ما تم التفكير فيه على صيغة معينة في اللغة المصدر، و ترجمة تلك الصيغة في اللغة الهدف ليحصل في النهاية التعبير باللغة الهدف” ، وبالنظر إلى الطرائق الديداكتيكية لتدريس الترجمة لا بد من استحضار نماذج سايمون شاو التي تعطي نظرة عامة على بعض الطرق المعتمدة في تدريس الترجمة، ويشمل ثلاثة اتجاهات وهي الإتجاه النحوي والإتجاه الثقافي، والإتجاه الاستنتاجي، فأما الاتجاه الأول فيعتمد على منظور ألسني مصغر لعملية الترجمة، فالمدرس المترجم حسب هذا النموذج لا ينظر إلى أي عنصر غير المكونات اللغوية الخالصة، وبالتالي فإنه سيعتمد على نقل المواقع النحوية من لغة إلى أخرى ويسلك في تدريس الترجمة اللغوية الطريقة النحوية التقليدية ، وسيحاول من خلالها أن يوجد في اللغة الهدف مقابلا نحويا ومعجميا لما هو في لغة المصدر من خلال مفهوم عام للنحو، ويرجع اهتمام هذه الطريقة إلى المعاني النحوية مثل الفاعلية والمفعولية والظرفية ، ويرى تشاو أن هذه هي الطريقة المفضلة لدى المتعلمين الذين لا يملكون قدرات كافية في لغة الهدف، حيث يصبح بإمكانهم اعتماد المبادلات الرياضية في الترجمة ” ، وإذا كان اعتماد المبادلات النحوية سبيلا للمدرس وطريقة من الطرق الديداكتيكية الفعالة لتقريب دروس الترجمة اللغوية وجعل تعلمها مقبولا من قِبل المتعلمين، فإن التمكن منها يتطلب ما هو أعمق منها، وهنا تأتي الطريقة الألسنية الشكلية، فإذا كانت الطريقة الأولى تعتمد على المعاني، فإن الطريقة الثانية تعتمد على تحليل المستويات الفونولوجية والمورفولوجية والتركيبية للغة، فالمدرس المترجم حسب هذه الطريقة يصل إلى النتائج بنفسه بعد أن كان في الطريقة الأولى يعتمد على الوصف السابق للغة، وغالبا ما يتنبه المتعلمون حسب هذه الطريقة إلى الفروق بين اللغة المصدر واللغة الهدف ” .

وإن الأساس الديداكتيكي الذي يفرض إثبات النموذج الأول من شأنه فرض نموذج ثان ونهج سبيله، ولكونه لا يقل أهمية عن النموذج الأول، فقد شاء أن يكون خارج اللغة أي سياقيا بالأساس ويتعلق الأمر بالنموذج الثقافي، فإذا كان النموذج الأول يركز على المقابلات النحوية بين اللغة المصدر واللغة الهدف، فإن النموذج الثاني يركز على المعاني، وتنضوي تحته طريقتان أساسيتان هما الطريقة الإثنوغرافية المعنوية وطريقة المعادل الديناميكي،” فأما الطريقة الإثنوغرافية المعنوية فتعتبر المعنى ظاهرة ثقافية إثنوغرافية ويركز فيها المدرس على تعليم المتعلمين الأسس الثقافية للغة المصدر، وذلك حتى يمكنهم من نقل ما يقابلها في اللغة الهدف، وتركز هذه الطريقة على الفجوات الثقافية بين اللغات، وتحاول ملء هذه الفجوات بطريقة معقولة” . واضح أن اعتماد الطريقة الإثنوغرافية في تدريس الترجمة له دور كبير في توجيه المتعلمين نحو الإحاطة بمستلزمات الترجمة اللغوية، ولعل اكتمال الرؤية وشمولية الإحاطة تستدعي الاستعانة بالطريقة الثانية ضمن النموذج الثقافي وهي طريقة المعادل الديناميكي، و” تختلف هذه الطريقة عن سابقتها في كونها تعترف أن الأشياء التي تقال في لغة ما يمكن قولها في لغات أخرى، إلا أنها تواجه مشكلة حين يكون الشكل أساسا لا يمكن الاستغناء عنه كما هو الشأن في لغة القرآن الكريم ” ، على هذا المنوال الثنائي يكتمل الشق الثاني في الجواب عن إشكال تدريس الترجمة، وتبقى نهاية الإشكال مرهونة بالنموذج الأخير والمسمى بالنموذج الاستنتاجي،” هذا النموذج تطور عن البويطيقا وعلم النص ويتضمن طريقتن؛ طريقة تحليل النصوص والطريقة الهيرميوناطيقية، فأما الأولى فإنها تركز على سياق العمل من خلال النص المصاحب ويعني ذلك أن المدرس سيركز على الموقف الاتصالي بأَسره، وبالتالي سوف يركز على تحليل عناصره مما يجعل النص خاضعا لكل الإمكانيات المشروعة مثل استخدام النحو المقارن والثقافة المقارنة وعلم الاجتماع والأسلوبية والنقد الأدبي، أما الطريقة الثانية فتقوم على أسس فلسفية ظاهراتية، وتعتمد على شخصية المدرس ورؤيته الوجودية للنص ومن ذلك امتلاكه حرية كاملة لتعديل لغة النص، وذلك لإنشاء علاقة حوارية بينه وبين النص تساعده على كتابة نص جديد في اللغة الهدف مستندا على النص الموجود في لغة المصدر” . معلوم أن الطرائق التي ذكرناها مهما كانت فعالة لن تحقق الغاية المتوخاة ما لم تكن مقرونة بوعي ديداكتيكي يأخذ في أولوياته مسؤلية الأمانة التي تتطلبها الترجمة أكثر من غيرها، كما يستوجب التأسيس لقاعدة تدريسية تأخذ في الحسبان إمكانات المتعلمين وتطلعات المدرس من خلال الطرائق المعتمدة .

4- تداخل اللغة والثقافة وسؤال الترجمة: إن اللغة حمالة أوجه ومتعددة المنافذ، وبديهي أن تكون الثقافة وجها من وجوهها، بل إن التداخل بين اللغة والثقافة يجعل الترجمة أعسر، لأن” ترجمة لغة ما لا تكفيها دراسة هذه اللغة بل يجب أيضا دراسة الثقافة المقابلة لهذه اللغة دراسة أساسية ومنظمة وليس مجرد قراءات عابرة وتكميلية ” ، ومن المسلمات المنطقية الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر، فإذا كان التفكير يتم باللغة والتعبير عن الثقافة يتم أيضا باللغة، بل أحيانا نجد ثقافة اللغة، فإن اعتبار كل واحد منفصل عن الآخر أمر قد يفضي إلى الفراغ اللغوي والثقافة الجافة، كما أن التوافق بين اللغة والفكر من جهة واللغة والثقافة من جهة أخرى من شأنه أن يؤسس لثنائية الثقافة اللغوية واللغة الثقافية، وإن اللغة ظاهرة مرافقة للفكر وملازمة له تنمو بنموه وتضعف بضعفه،” فلو أخذنا كلمة ” المروءة ” أصلها في اللغة كلمة المرء وتعني الرجل المكتمل وهذه اللفظة في معناها الحسي لا تدل إلا على الشخص، وهذه اللفظة تدل على ما في الرجل من صفات مثل: القوة، الهمة، الشعور بالرجولة، والنخوة والشهامة، والأمانة وغيرها من الدلالات الحديثة ” ، هذه الدلالات التي تحتويها لفظة المروءة ترتبط بالسياق الثقافي، وبالتالي فترجمتها ستكون تحويلا من الثقافة المصدر إلى الثقافة الهدف، ذلك أن المعاني التي تحملها في اللغة المصدر لها خصوصيتها وعند ترجمتها تتحول هذه الخصوصية إلى مشترك، وإن اللغة اجتماعية كما الإنسان ترتبط بالفرد والزمن، وبالحياة الاجتماعية، استنادا إلى مبدأ الاحتكاك بين اللغات المختلفة التي تقع في تخوم الأنثربولوجيا، مما ينتج فرضية وجود ترابط ضيق بين بنى اللغة وبنى الفكر” ، والواقع أن العلاقة بين اللغة والفكر لا يمكن اختزالها في مجال ضيق، وما يؤيد ذلك هو استحالة التعبير بمنأى عن التفكير، لكونهما عمليتان مرتبطتان ارتباط الجسد بالروح، ومما لا جدال فيه أن اللغة تحمل الفكر والفكر حامل للثقافة، وعلية فترجمة اللغة لن تكون عملية أحادية، بل هي ثلاثية المستويات، يقع المستوى الأول في اللغة والمستوى الثاني في الفكر والثالث في الثقافة، مما يجعل تعليم الترجمة اللغوية لا يقتصر على اللغة دون تجاوزها بل يمتد إلى الثقافة، فيكون استحضار ثقافة اللغة الهدف أمر حتمي لاستيفاء متطلبات اللغة المصدر ومتطلبات اللغة الهدف، وهذا تأسيس لعملية تدريسية تتجاوز النقل الديداكتيكي للغة إلى النقل الديداكتيكي للثقافة، وإذا كانت الترجمة اللغوية ذات أبعاد لغوية وأخرى أنثروبولوجية ثقافية، فإنها تعمل على أساس الجمع بينهما من خلال عملية التحويل الواقعة بين اللغة المصدر واللغة الهدف، ولن يتم ذلك الجمع إلا في حضور طريقة تدريسية تراعي في عملية النقل الجانب الثقافي للغتين وتجعل اكتمال الترجمة مرهون بوجود هذا الجانب، ويفترض تدريس الثقافة موازاة مع اللغة والتأكيد على العلاقة التي تربطهما من أجل التمكن السليم من الترجمة والاطلاع على مجريات عملية التحويل، ما إن كانت تتجه نحو الدقة والصواب جامعة بين الرؤية اللغوية والثقافية أم ضعيفة هشة تنحو منحى الفصل بين اللغة وثقافتها، وبالتالي تكون قاصرة ولا ترقى إلى مستوى الترجمة المكتملة من حيث المعنى والتمعني؛ وهذا يؤكد ما ذهب إليه إدموند كاري (Edmond cary ) أن الترجمة تعد واحدة من بين الوسائل الأساسية في التواصل الثقافي” .

5 ـ الترجمة اللغوية والبناء التدرجي للمعرفة الثقافية: لا غرو أن الترجمات عموما والترجمة اللغوية على الخصوص تنماز بالنقل التدرجي ( transposition gradual ) للمعرفة، بل إنها الوسيلة الأكثر ريادة في نقل العلوم والمعارف، ولذلك كان من البداهة بناء صرح ثقافي متجانس بحسب اللغات الخاضعة للترجمة، ويشكل تعدد اللغات والخصوصية الثقافية لكل لغة عنصرين أساسيين لبناء ثقافة معينة من ترجمة لغة من تلك اللغات، “بدءا بترجمة الكلمات الثقافية والأكثر عموما عند ترجمة النص، حيث هناك أمور يجب التفكير فيها، من قبيل ؛ من سيقرأ هذا النص ؟ ومن هم القراء؟ وقد أكد سڤان (Svane) على ضرورة التنبؤ بأن متلقي النص ليس هو نفسه بعد الترجمة، يعني أن قراء الترجمة يمتلكون ثقافة أخرى، فالكلمات الثقافية الواضحة للقارئ من خلال النص الأصلي في اللغة المصدر، ليست هي نفسها بالضرورة الواضحة للقارئ من خلال النص المترجم في اللغة الهدف، لأن قارئ النص المترجم لا يشارك نفس الثقافة مع الكاتب” ، فيكون الاطلاع على النص المترجم اطلاع على ثقافة جديدة تمتح من خصوصية الثقافة الأصل، وهو الشيء الذي يجعل الانتقال من النص الأصلي إلى النص المترجم؛ انتقال بين ثقافتين، مما يوضح واقع النص المترجم وما يطرحه من مشاكل بمقاربة ومعادلة الثقافتين واللغتين، ” علما أن الثقافات قد تتقارب في حين أن اللغات تختلف” ، وإذا كان الاختلاف بين اللغة المصدر واللغة الهدف، ولكل لغة ثقافتها المحددة رغم التشابهات القائمة بين هذه الأخيرة، فإن ترجمة كل لغة من تلك اللغات يعمل على إرساء التنوع الثقافي والاطلاع على ثقافات جديدة، وكل ترجمة من الترجمات اللغوية تسمح بالتدرج في المعرفة الثقافية، “وإذا قابلنا بين اللغة والثقافة من حيث هما نظامان يدخلان في كل مستويات الحياة البشرية، لرأينا أن الثقافة تسوس السلوك اليومي للفرد، كما تسوس اللغة كلامه اليومي، وإذا كان الأفراد الذين يخضعون لقواعد اللغة، يحدثون فيها تغييرا كلما استعملوها وفق حاجاتهم ووفق تطور وسائل التواصل فيما بينهم، فإن الأفراد كذلك يطورون ثقافتهم مع مرور الزمن، عبر عمليات التواصل التي يقومون بها في ما بينهم داخل المجموعة الواحدة. ويعبر ليفي ستراوس عن هذا الترابط بقوله: ” من الجانب النظري، تبدو اللغة شرطا أساسيا لوجود الثقافة؛ لكون الثقافة تتمتع ببنية شبيهة ببنية اللغة، فكلاهما يقومان على تقابلات وارتباطات متبادلة؛ أي بعبارة أخرى، على علاقات منطقية ” ، وتعتبر هذه العلاقة بين اللغة والثقافة مبررا كافيا لإبراز دور الترجمة اللغوية في البناء المعرفي للثقافة، حيث لا يمكن ربط أي لغة كيفما كانت بثقافة أخرى ربطا اعتباطيا، بل يجب أن يكون ربطا منقيا ينبني على مبدأ أن لكل لغة ثقافتها الخاصة، وعليه فإن الترجمة المكتملة المستوفاة لخصائص الثقافة، ستنطلق من افتراض أن كل لغة تتشابه مع ثقافتها وتختلف عن لغات أخرى، فالترجمة لن تكون منهجية لبناء المعرفة الثقافية ما لم تكن عملية تواصلية وناقلة لرسائل لغة الانطلاق المسماة باللغة المصدر إلى لغة الوصول المسماة باللغة الهدف، ” وهذه الطريقة هي رؤية و تسمية الأشياء منتشرة بكثرة داخل نظرية الترجمة ، فحمولتها الاستعارية التقنية ثقيلة ، ويتعين التأمل فيها، لأنها تساوي في آخر المطاف بين ترجمة نص تقني وترجمة عمل إبداعي، من منطلق أن الأمر يتعلق في الحالتين برسالة موجهة من طرف مرسل (émetteur ) داخل لغة ( س ) ومنقولة إلى لغة ( ز ) من أجل متلق (récepteur ) ” ، ولعل اعتبار الترجمة اللغوية رسالة للكشف عن الثقافة الأخرى من شأنه أن يؤسس بالتدرج لبناء معرفة ثقافية تسمح لطرفيها المرسل والمتلقي باطلاع كل واحد منهما على ثقافة الآخر، ولو بشكل جزئي، كما أن جعل الترجمة طريقة تواصلية ووسيلة لربط الثقافات يسهل تعليمها ويمنحها مرونة كبيرة على احتواء القضايا اللغوية مرفوقة بالقضايا الثقافية في قالب ديداكتيكي مقبول تربويا و مكيف معرفيا. ويمكن القول إجمالا: إن تدريس الترجمة اللغوية يدمج مقاربتين أساسيتين، مقاربة لغوية لسانية ومقاربة إثنوغرافية ثقافية، وبذلك فهي عملية تحويل وتحول، تحويل من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف وتحول من ترجمة لغوية إلى ترجمة ثقافية، وبناء على هذا التصور فإن الترجمة لن تكون فقط تحويلا لغويا، بل إن هذا التحويل اللغوي يأخذ في طياته تحويلا ثقافيا، وبالتالي سنكون أمام ثنائيتين متقابلتين، ثنائية الأصل المتمثلة في اللغة المصدر والثقافة المصدر وثنائية الهدف المتجسدة في اللغة الهدف والثقافة الهدف، ويمكن تحقيق غايات الترجمة المكتملة في حال اعتماد طرق ديداكتيكية تتوخى قدرات المتعلم اللغوية، وإمكانات المدرس التربوية واطلاعه الواسع على ثقافة اللغتين مع مرونة النقل الديداكتيكي ومراعاة الثمثلات المعرفية المسبقة لنجاح درس الترجمة لغة ومضمونا، متمثلا لخصوصيات اللغة ومراعيا لتداعيات الثقافة، وعلى هذا الأساس يتم بناء معرفة ثقافية جامعة بين الإحاطة باللغة المصدر وثقافتها والاطلاع الكافي على اللغة الهدف وثقافتها.

أولا : المراجع العربية:

1ـ أشار بيار، سوسيولوجيا اللغة، تعريب الدكتور تزو عبد الوهاب، منشورات عويدات، بيروت لبنان، ط 1، 1996. 2ـ أحمد قايد نور الدين وسبيعي حكيمة، التعليمية وعلاقتها بالأداء البيداغوجي والتربية، مجلة الواحات للبحوث والدراسات العدد 8، 2010. 3ـ البقاعي محمد خير، ثقافة النص المترجم، الترجمة وتحريف الكلم، مجلة الدرعية، العدد23، نونبر2003. 4ـ العزب محمود، إشكاليات ترجمة معاني القرآن الكريم، نهضة مصر للطباعة والنشر، ط1، أبريل2006. 5ـ الزواوي خالد، إكساب وتنمية اللغة، مؤسسة حورس الدولية للطباعة والنشر، ط 1، أبريل 2006 . 6- برمان أنطون، الترجمة والحرف أو مقام البعد، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2010 . 7 ـ بركة بسام، الترجمة إلى العربية، دورها في تعزيز الثقافة وبناء الهوية، سلسلة دراسات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012 . 8- خطابي محمد، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، ط 1،1991 . 9- صانع فيليب، عقل جان، أوضح الأساليب في الترجمة والتعريب، مكتبة لبنان ناشرون، ط 5، 1993 . 10ـ عبد الرحمان حماد أحمد، العلاقة بين اللغة والفكر، دراسة للعلاقة اللزومية بين الفكر واللغة، دار المعرفة الجامعية ،1985. 11ـ مونان جورج، علم اللغة والترجمة، ترجمة أحمد زكريا إبراهيم عفيفي، المشروع القومي للترجمة، ط1، 2002. 12 ـ نور عوض يوسف، علم النص ونظرية الترجمة، دار الثقة للنشر والتوزيع،ط1 .

ثانيا : المراجع الأجنبية:

ـ1 chevalier christoph , traduction et didactique des langues, l’institut français d’amerique latine de mexico et l’IFM. 2- Clerc jean-benoît, minder patrick, roduit guillame , 2006. ـ3 durdureanu ioana irina, traduction et typologie des texte , pour une définition de la traduction correcte, université AI.I.Cuza, Iasi. 4 ـlindsten sara, comment traduire la culture ? étude sur la traduction des mots culturels dans la traduction d’un roman de Mons kallentoft, göteborgs universitet, inst för spa koch litteraturer, framska. ـ5 Martinez melis micole, evaluation et didactique de la traduction, le cas de la traduction dans la langue étrangère , departement de traucció i d’interpetació, universitat autònomade barcelona . 5- Munteau petronela,traduction et culture. ـ6 olifrenko anniina, traduire la culture – les mots étrangers, les mots transferts et les allusions culturelles dans les romans purge et les vaches de staline de sofi oksanen, université de tampere .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد