بلاغة الرد في الخطاب السياسي المغربي

ذ. علي بوراس – المغرب

يعيش الخطاب السياسي المغربي، هذه الأيام، غليانا شعبيا، على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب خوض نسبة كبيرة من المواطنين المغاربة حملة “مقاطعة” لعدد من منتجات بعض الشركات الخاصة بإنتاج بعض المواد الأساسية.
لا نريد أن نخوض في ظروف هذه الحملة وأسبابها، فهي واضحة لكل مواطن مغربي يستيقظ كل صباح على زيادات جديدة، أو اقتطاعات ليس كذلك بل عهدَها منذ زمن ليس بقريب.
بل؛ إن ما يلفت انتباهنا في مثل هذه المناسبات العكرة في جو الخطاب السياسي المغربي، هو ميلاد عدد من المصطلحات الجديدة، فبعد كل حملة أو بعد خروج إعلامي لأحد رجال/نساء السياسة لدينا (لا فضّ فوهم/هن) يمطرون المواطن المغربي بمفاهيم جديدة تصبّ الزيت في النار بقدر ما تقرّب المتلقي من واقع الأحداث.
فبعد مصطلح “جوج فرانك” سمعنا “طحن مو” و”الانفصاليون” وغيرها من المصطلحات، مرفقة بأقوال مستفزة تنفَّر المواطن المغربي من السياسة ومن الخطاب السياسي بكل أطيافه، أيا كان مصدره. فبعد هذا وُلد خلال اليومين الأخيرين مصطلح “المداويخ”، ومفهوم “اللعب الافتراضي”؛ كما وُلد معنى جديد لمفهوم “خيانة الوطن” وهي أن “تقاطع منتوج شركة” ربما لا يعلم محدثها الرسمي المعنى الحقيقي لخيانة الوطن، والذي من تجلياته تبخيس بضاعة الفقير واستغلالها بأشكال تلفيقية وفي عناوين براقة (كتضرب على الشعا).
إن المغزى من هذا، وكبد الإشكال فيه، أن بعض سياسيي هذا البلد لا يفقهون سياسة القول، -أو أنهم يخيِّرون أن يكونوا كذلك- ولا فصل القول في الخطاب، ولا يفقهون بجنايات اللسان، ومن هذه الجنايات التي يتلقونها بسبب عضوهم الفاعل في اللغة (بعبارة ابن خلدون وهو اللسان) أنه يجر عليهم سيلا من الانتقادات، ويعكس صورتهم سلبا في ذهن المواطن المغربي. ناهيك عن تدني مستوى تقنيات التواصل والتعبير لدى فئة عريضة من رجال السياسة، لدرجة اعتاد المواطن المغربي على مثل هذه الردود السياسية اللاأخلاقية أحيانا، والكاذبة حينا آخر، ففي كل أزمة اجتماعية أو اقتصادية أو احتقان حواري، يكون على استعداد وانتظار لمثل تلك الردود التي سمعناها عرض هذا الأسبوع. وهذا حال الخطاب السياسي والتفكير في السياسة، وقد لخصه بيير بورديو بقوله: “إن الحديث حول السياسة كالكلام حول المطر والجو الجميل، والتجاهل المستمر لروتين الأحداث هو ما يجعل اللعبة تستمر” . أي أن اللعبة ستستمر على هذا الحال ستولد مصطلحات جديدة، وأشكال أخرى من “التخوين” و”الانفصال”… وتستمر سياسة الإقصاء وتلفيق تهمة الخيانة والانفصال لكل من قدِم على سلوك يعكّر صفوة مزاج الحكومة أو الأحزاب….
إنه ليس من السهل أن تصف فئة عريضة من أفراد المجتمع، بـ “المداويخ” لسبب أنهم عبروا فقط عن رأيهم بصدد غلاء أسعار تلك المنتجات.
فمن الحكمة، ومن البلاغة في الرد، أن يحاول هذا المتحدث أو ذاك رأب الصدع، وأن يعالج الموضوع في جوانبه السلبية والايجابية (التي لا يمكن أن يقر بها وإن كان واضحة وضوح الشمس في نهار جميل، وهي أنها تعكس وعي المواطن المغربي بأشكال نضالية أكثر رقيا وسلمية).
إن غياب بلاغة الرد في الخطاب السياسي غالبا ما تكون السبب الأول في تفاقم الأوضاع، فتكون سببا في خروج هذا الخطاب من دائرة الحوار – وغالبا ما يوضع المواطن خارجها – إلى مزالق العنف والإعنات بتعبير الدكتور محمد العمري .
ومنه، إنه كلما ازداد وعينا بجنيات اللسان ازداد وعينا بحكمة الصمت وفضله، وكلما ازداد هذا الوعي وذاك نما حصرنا على نظم قولنا وعلى تأليفه ي آنق حلله، والتلفظ به في السياق الملزم له وإلا فلا . وأما خطابنا السياسي لا زال بعيدا عن مثل هذه البلاغة بأجيال.
فلسان من يدعون السياسة لدينا، إذا نطق فإنه كالصامت الناطق الذي لم يقو على تبليغ قوله، ولم يُغْن نفسه تكلف التلفظ به. وإن صمت فإن ذلك صمت العي، أو صمت التواطئ مع غير الحق، “لفرض سلطة الأمر الواقع من خلال سياسة الآذان الصماء والألسن الخرساء” وربما هذه السياسة الأخيرة أهون عليه من التكلم الذي يوقعه في جنايات اللسان، وهي جنايات أقوى من حد السيف، على حد قول الشاعر:
وجُرح السيف تدْمُلُه فيبرا //// ويبقى الدهرَ ما جَرحَ اللِّسانُ
ولهذا؛ قد يكون المعطلون القابعون على جنبات البرلمان قد نسوا تلك الهروات التي وقعت على أكتافهم وتركتهم في شلل مؤقت عن الحركة، ولكن لا أظن أن الشارع المغربي سينسى، وبسهولة، مصطلح “الانفصاليون” و”جوج فرانك” و”المداويخ” “والبراهيش” وغيرها من الردود التي لا ترقى إلى المستوى المطلوب لتُقال على مسمع العامة وفي وسائل إعلامية يُكِنُّ لها المواطن بعض التقدير.

الهوامش:
ـ [email protected]
ـ عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، تحقيق أبي عبد الرحمن عادل بن سعد، الدار الذهبية، باب علم النحو.
ـ بيير بورديو، التفكير في السياسة، ترجمة رضوان شقرون ومنير الحجوجي، مجلة فكر ونقد، ع 58، أبريل 2004.
ـ محمد العمري، دائرة الحوار ومزالق العنف، كشف أساليب الإعنات والمغالطة، مساهمة في تخليق الخطاب، افريقيا الشرق، 2000.
ـ مجموعة من الباحثين، الصمت في الخطاب، دار يافا للبحوث والدراسات، تونس، ط1، 2018.
ـ هشام موساوي، الصمت في الخطاب السياسي، نحو نمذجة للصمت في التواصل السياسي، ضمن كتاب الصمت في الخطاب، يافا للبحوث والدراسات، تونس، ط1، 2018. ص 406.
ـ الجاحظ، البيان والتبين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998، ج1، ص 167.

الكلمات المفتاحية: الخطاب السياسي، بلاغة الرد، المقاطعة، الصمت، بلاغة القول…


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد