قادة لا مدراء !

بقلم: مهند النابلسي

[email protected]

يتوقع الخبراء أن تحتل المعرفة الدور الذي احتلته “الموارد الطبيعية” في بدايات الثورة الصناعية ، والمعادلة بسيطة فأنت لا تستطيع تطبيق المعرفة دون ادارة ناجحة، كما لا تستطيع ان تكون مديرا ناجحا ان لم تكن قائدا فذا. كما يؤكد النمو الاقتصادي المذهل الذي تشهده بعض دول العالم المقولةَ التي تنص على أن التعقد التكنولوجي سوف يقوي طبقة المدراء على حساب الأيديولوجيين والعسكريين، فالمدراء مؤهلون للعب دور بالغ الأهمية في المستقبل، ولا زلنا نجهل أهمية هذا الدور، لأن نظرتنا التقليدية للإدارة عاجزة عن استيعاب التغيرات الهائلة في عالم اليوم.

ولكي نتبين مدى الركود في فهمنا لدور الادارة او القيادة الإدارية، لنلق الضوء على المستجدات الحديثة : أصدر الباحث الأمريكي “اوتول” تقريرا شهيرا (2003) انتقد فيه العلاقة السائدة بين العمل والكسب المادي، واعتبرها علاقة غير فعالة لا تدفع بالجهد البشري في الطريق المطلوب، واقترح تعريفا جديدا للعمل ينص على ان العمل هو الجهد الفعال الذي ينتج عنه شيء قيم ومفيد للناس الآخرين. ويتطلب هذا التعريف الثوري الجديد تصنيف وتحديد قائمة بالأعمال ذات القيمة المضافة ، والاخرى التي لا تضيف قيمة ، والتفكير جديا في فرزها واستبعاد بعضها ! لكن هذا التعريف لا يصف بدقة طبيعة العمل الطوعي لربات المنازل ، فهي قادرة على انجاز كم كبير من الأعمال العظيمة الأهمية لأعضاء الاسرة التي هي نواة البشرية، وهي تقوم بذلك بمثابرة وتضحية ودون شعارات كبرى من منطلق حرصها على تحقيق متطلبات الاسرة وإسعادها، وليس من منطلق الرغبة بالتقدير والحصول على المكافأة المالية، وخذ قياسا على ذلك كل العاملين بالأعمال التطوعية لخدمة المجتمع ومعظم العاملين في المؤسسات غير الربحية وجمعيات المجتمع المدني (شريطة النزاهة والاخلاص بالعمل) .

ثم جاء الياباني “نيشتبوري” فسلط الأضواء على مفهوم العمل التقليدي ، وأفاد بأن العمل يجب ان يحتوي على ثلاثة عناصر هي الابداع ويقصد به متعة التفكير ، والنشاط الجسمي ويقصد به متعة العمل بالأيدي والحركة ، والنشاط الاجتماعي ويقصد به متعة مشاركة الآخرين نجاحهم وفشلهم ، وما يترتب على ذلك من تفاعل وتقدير وتكاتف وشعور بالانتماء. لنلاحظ استخدام هذا الباحث لكلمة “متعة” التي ترتبط عادة بأذهاننا باللهو والتسلية واضاعة الوقت، وكيف أدى انتقالها لمجالات العمل لثورة هائلة في مجال الانجاز، نلاحظها جليا في تطور المنتجات والخدمات وتنوعها ، فعندما يصب الابداع الذهني والفني في الأعمال المادية اليومية ضمن اطار تفاعلي من النشاط الاجتماعي ، لا بد ان ينتج عن ذلك معجزات سلعية-انتاجية –خدمية ترقى بالحضارة البشرية لمستويات غير مسبوقة ، لنتامل فقط كمثال التطور المذهل الذي طرأ ويطرا على سوق الهواتف الخلوية الذكية والحواسيب المحمولة …الخ ، ولو قبلنا وطبقنا كعرب معادلة الياباني بجدية ، وتخلينا عن التكاسل والركود والخمول الفكري والتقاعس عن انجاز الأشياء بشكل صحيح متكامل ! لنتخيل المستويات الجديدة للانتاج ومستوى المواصفات وروعة السلع والنجاح الاقتصادي المتمثل بفتح واستمالة الأسواق المحلية والاقليمية والعالمية ، ولنضرب مثالا بسمعة بعض المنتجات المحلية الناجحة ورواجها خارج الاردن وحتى في دول الغرب وامريكا .

كيف يتحول مفهوم العمل البسيط الى قدرات صناعية انتاجية تكنولوجية معقدة ومذهلة ومنظمة ؟ يكمن الجواب في فن القيادة الادارية ، الذي ما زلنا كعرب نفتقد حقيقة للكثير من عناصره الحيوية ، فالقيادة تعني القدرة على اقناع الاخرين بقبول أهداف المجموعة والعمل بانسجام وتناسق وهارموني تماما كالجوقة الموسيقية ، والسعي الحثيث لانجاز الأهداف ، كما يؤكد عالم الجودة الشهير ديمنغ على وحدة الهدف لدى الجميع ، وعلى القائد ان يتفق مع جميع العاملين على ان هذه الأهداف الموضوعة تستحق الجهد والمثابرة والتعب ، وبالتالي فهو لا يعتبر منصبه وجاهة ومنصة ومركبة لتحقيق أهدافة واجنداته الشخصية والخاصة بقدر ما يعتبره موقعا وطنيا لتحقيق رسالة ورؤيا ومهمات المؤسسة التي يعمل بها ، وأكاد اجزم ان معظم حالات اخفاقنا على المستوى القومي والسياسي والتنموي تعزى لعدم قناعة المسؤولين العرب بهذا الموضوع ، ولانعدام الشفافية وضعف المساءلة ، فالشركة العامة الكبيرة التي تم تخصيصها منذ عقد وتمتنع منذ أكثر من سنتين عن توزيع الأرباح على المساهمين بحجج عديدة غير مقبولة ، هي شركة فاشلة بامتياز حتى لو كانت تدار من قبل الناسا ! وينطبق نفس المثال على العديد من الشركات والمشاريع المحلية المتعثرة ، فيما تجد رواتب الادارة العليا تتجاوز آلاف الدنانير عدا عن تكاليف السفر والمياومات والعلاوات !

لم أقصد أن تتحول هذه المقالة لمواعظ ادارية –اخلاقية-سلوكية ، ولكننا بالفعل نعاني من خلل واضح في هذا السياق : فالقائد يجب ان يتحلى بالرؤية والحكمة وقوة الارادة ، والقدرة على كسب دعم العاملين ، وعليه ان يكون قدوة للعاملين والموظفين ببذله لجهود اكبر وبدوامه المبكر وتأخره في مواقع العمل ، وليس كما يفهم الكثيرون …بالتفويض المبالغ به ، والتبجح بالانشغال الدائم ، بحيث يكاد يتحول المسؤول الأول في المؤسسة الى واجهة شكلية اعتبارية يعاني من التقاعس والكسل والاسترخاء الزائد ، مما يجعله يفقد المامه التقني بتفاصيل العمل . ثم هناك القدرة على القيادة والتوجيه في ظل الظروف الصعبة وفي أجواء الأزمات…حيث يجب على المدير-القائد أن يجتاز بمؤسسته الى بر الامان دون التضحية بالآخرين كما يفعل معظم المدراء العرب ،ساعيا لحصد نتائج النجاح لشخصه وقيادته الفذة المزيفة (وربما لفساده المقنع) ، ومسندا أسباب الفشل والاخفاق لموظفيه ، حتى يصل الأمر للتضحية ببعضهم دونما احساس بالتعاطف الانساني !

وحتى لا يبدو كلامي نظريا فسأروي قصة عملية معبرة حدثت معي شخصيا : فبعد ان اشتريت كتاب جيب خاص بالجودة المتقدمة من امريكا ، وبعد ان تصفحته لمرتين تبين لي أنه لا ينسجم كثيرا مع متطلباتي المعرفية وحاجتي العملية ، فأبديت لهم ملاحظة عابرة بهذا الخصوص ، ثم طلبت شراء كتابين جديدين بعد ان نصحتني دار النشر باقتنائهما ، وبعد برهة وجيزة وصلتني رسالة اعتذار من المسؤولة موضحة أنها سترسل الكتابين الجديدين وبدون اي مقابل مالي كتعويض عن عدم رضاي عن مستوى الكتاب الأول ! ان هذا السلوك المهني الرفيع – الراقي يفوق أطنانا من الممارسات غير المهنية والشعارات البراقة المتشدقة التي تخترق انماط حياتنا العملية يوميا ، والتي ينصب معظمها تحت عناوين : التسويف والمماطلة والتبجح واضاعة الوقت ” والتخويت” !

قصيدة يابانية :

انها قصيدة طريفة معبرة تلخص الفرق بين المدير والقائد ، ويسرني ترجمتها لأنها بالفعل ترشدنا للمفهوم المطلوب تعميمه :

دعونا نتخلص من الادارة

فالناس لا يريدون ان يداروا

ولكنهم يريدون ان يقادوا

من سمع منكم بمدير للعالم ؟!

لا احد

وقد سمعنا كلنا “بقائد عالمي” :

قائد تربوي – قائد سياسي

زعيم ديني- قائد كشافة

رجل مجتمع – قائد نقابي- رجل اعمال !

فكلهم يقودون

ولكنهم لا يديرون !

فالجزرة تفوز دوما على العصا

واسأل حصانك !

فأنت تستطيع قيادة حصانك للماء

ولكنك لا تستطيع “ادارته” ليشرب !

واذا ما أردت ادارة شخص ما

فابدأ بادارة نفسك اولا

واحرص على ان تفعل ذلك جيدا

فبعدها ستكون قادرا للتوقف عن الادارة

والبدء بالقيادة !


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد