العلوم الإنسانية في التراث العربي الإسلامي.

محمد بنعمر – باحث في علوم التربية المغرب

تقديم
يزعم البعض ويدعي بدون سند علمي أو مرجع معرفي أن العلوم الإنسانية التي تشتغل على الإنسان في عدد من أبعاده ومستوياته ظلت غائبة في التراث العربي الإسلامي ،وطال غيابها ليغطي هذا الغياب أمدا بعيدا ويستغرق مدة زمنية طوية تحت دعوى أن الاستحواذ والقوة والهيمنة والغلبة في علوم التراث العربي الإسلامي كانت للعلوم الدينية والفقهية على حساب العلوم الدنيوية .

-السند في الدعوى
إن المستند في هذا الادعاء أن ما يجمع العلوم الدينية هو تغليبها المنزع البياني ، اعني تعلقها وسعيها نحو الارتباط بفهم وفقه النص الشرعي على حساب الاشتغال على القضايا المرتبطة مشاكل الإنسان وبحاضره، وبراهنيته وباكراهاته وبمشاكله وبمستقبله.

-بيانية العلوم في التراث
إن المشترك بين العلوم الإسلامية ،وعلى الرغم من اختلاف أسمائها وتباين أهدافها وتعدد مواضيعها ،فهي كانت تشتغل على البيان والتفسير والفهم، لان العلوم الإسلامية تبدو من الناحية الابستمولوجية علما واحدا ، مهمتها وغايتها الكبرى استثمار النصوص الشرعية لاستخلاص المعنى منها، والوقوف على المقصد فيها.
فسواء تعلق الأمر بالعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه وعلم الكلام ،أو بالعلوم اللغوية كالنحو والصرف والبلاغة والمعجم والدلالة ،فان مادة البحث المشتركة في هذه العلوم هو الانطلاق من النص والاشتغال على المعنى المحمول في هذا النص ……
-مستندات في الدعوى
إضافة إلى هذا اخذ المناصرون لهذه الدعوى بهذا التوجيه واستندوا إلى شواهد و نصوص ونقول فلسفية مأخوذة ومقتطعة من كتب اشتغلت على تاريخ العلم ،وهو أن الإنسان عبر التاريخ راكم معارفا كثيرة تخص معرفة العالم المادي والطبيعي بتنوعاته وتعقيداته ،ونجح كثيرا وتفوق في فهم الظواهر الطبيعية ،وحل كثيرا من المعضلات التي ترتبط بالعالم المادي للإنسان ،وانتهى بهذا الإنسان المطاف إلى النجاح في امتلاك كثير من النظريات الكثيرة والعديدة حول أصل الكون ،وحول أصل الحياة ….

لكن بالمقابل هناك إحساسا عاما وقويا لدى العلماء أن العالم النفسي والعقلي والوجداني للإنسان لا يزال في بداية الاستكشاف والمعرفة،وقد حان الوقت في أكثر من أي وقت مضى للتوجه نحو المعرفة العلمية الدقيقة إلى العالم النفسي لهذا الإنسان.
لكن الأمر ليس كما يدعي المناصرون لهذا الاتجاه ،أو كما يزعم أصحاب هذا الاختيار ،لأن السند الذي استندوا إليه في دعاويهم يحمل أدلة ضعيفة ويستند إلى حجج ساقطة ونقول واهية ،بحيث أسسوا مقدماتهم في الاستدلال على الاقتصار على سرد وعرض عناوين و أسماء العلوم الإسلامية المصنفة في تاريخ الإسلام بدون القيام بفحص شامل أو بتحليل كامل للمضامين والمحتويات المعرفية أو للقضايا المحمولة في تلك هذه العلوم .

علما أن كثيرا من العلوم الإسلامية تحمل في ثناياها عددا من المسائل والقضايا والإشكالات، جامعها المشترك هو الاشتغال على الإنسان وعلى شخصية هذا الإنسان في جميع أبعادها ومستوياتها ومكوناتها.

مرجعها في هذا الاشتغال وسندها في هذا الاهتمام هو النص المؤسس للعلوم الإسلامية وهو القرءان الكريم والسنة النبوية واجتهادات علماء الإسلام الذي تفاعلوا بشكل مباشر مع هذا النص في جميع امتداداته الزمانية والمكانية.
وكان النص المؤسس مستحضرا للإنسان،بل هو نص في جميع امتداداته خطاب صريح للإنسان.

وهو ما يدل على أن الإنسان ،كان دائما هو المحور والموضوع المشترك والجامع لجميع العلوم التي نشأت وتطورت في أحضان التراث العربي الإسلامي .

حضور العلوم الإنسانية في الإسلام
إن العلوم الإنسانية لقيت عناية فائقة ومتابعة خاصة واهتماما أوسع عند علماء الإسلام الذين اشتغلوا على هذا العلم منذ وقت مبكر .
والأمثلة على إسهام العلماء المسلمين ومشاركتهم في التأليف والكتابة والتصنيف في العلوم ذات الصلة بالنفس وبالتربية وبالتعليم وبالأخلاق كثيرة.
ومن أهم الدراسات التي تؤكد مدى حضور العلوم الإنسانية في التراث الاسلامي:
-الدراسات النفسية عند علماء الإسلام لرفيق العجم المؤسسة العربية للدراسات والنشر: 1981.
-النزعة الإنسانية عند فلاسفة المسلمين عاطف احمد وآخرون إصدار مركز القاهرة:2000.
-التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية لمحمد عزالدين توفيق كتاب في مجلة حصاد مجلد:-8-العدد:-96-السنة:الفكر2000.
-تربية الطفل عند أبي حامد الغزالي لعباس ارحيلة مجلة دعوة الحق المغربية: عدد مزدوج :355-356السنة:2000.

الخطأ في الدعوى
يرجع الخطأ الذي سقط فيه هؤلاء الدارسون إلى عدم فهم واستيعاب وإدراك البناء والنسق العلمي المركب للعلوم الإسلامية ، ذلك أن طلب العلوم التراثية تقتضي من طالبها ومتلقيها ، والباحث فيها وعنها ، أن يعمل على استحضار قبلي لهذا الإشكال المعرفي الذي يعد من احد مركبات ومكونات العلوم والمعارف في الإسلام ،وهو أن العلم الواحد كان يجمع أكثر من تخصص ،ويجمعه أكثر من علاقة مع غيره من العلوم،إذ كان يتقاسم معها الموضوع ويتداخل معها في المنهج ،وأحيانا يشترك معها حتى في المفاهيم وأيضا اللغة المصطلحية، لان ما يؤلف هذه العلوم هو اشتراكها في قواسم مشتركة محددة في مجموعة من القضايا المعرفية ، والمسائل النظرية .

وهذا مؤشر واضح أن العلوم الإسلامية ذات وحدة معرفية متكاملة ومواضيع منسجمة،وأقطاب متجانسة متماثلة لا تقبل التفرقة بين أجزائها، ولا تقبل التبعية لغيرها…….

التداخلية بين العلوم الإسلامية
إن عدم الإدراك لهذا المعطى العلمي الحاضر في نسقية وبناء العلوم في التراث العربي الإسلامي أو التقليل من فاعليته ،من شانه أن يفضي إلى مثل هذه الأحكام التي تنبني على السرعة ،ويغيب فيها الحياد وتبتعد و تنائ عن الموضوعية العلمية.
إضافة إلى هذا فما تمتاز به العلوم الإسلامية في بنائها ومرجعياتها هو نزوعها نحو الموسوعية والشمولية،لان النسق المعرفي الحاكم لطبيعة العلوم كانت دائما تنزع نحو الأخذ بالموسوعية في التعلم والتعليم والتصنيف والكتابة .

هذه التداخلية القائمة بين العلوم الإسلامية من آثارها هو حضور مبدأ الموسوعية في التأليف والتصنيف،والكتابة والإبداع،بحيث صنفت الموسوعات،و وضعت المصنفات الضخمة ، واعدت المؤلفات الكبيرة في مختلف العلوم والفنون. بحيث كان العالم الواحد يشتغل بأكثر من علم ،ويجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا ،أي بين علوم الأبدان وعلوم الأديان .
ما يعني أن هذه الموسوعية العلمية كانت هي الطابع المميز لعلماء الإسلام، باختلاف مدارسهم ومذاهبهم يؤلفون في أكثر من علم، وهو الوصف الغالب على مصنفات علماء الإسلام،مما يعني حضور المباحث الإنسانية في ثنايا علوم اخرى.

من ذلك الاجتهاد التنزيلي من حيث هو قسيم لعلم الفقه ،فمعناه العام يتحدد في تنزيل المسائل المتوصل إليها بالاجتهاد على أفعال و تصرفات المكلف.
ومن شروطه أن تنزيل الحكم على الواقع، من مقدماته المعرفة الشاملة والكلية بهذا الواقع في كل مكوناته ومستوياته.

خاتمة
في خاتمة هذا البحث ندعو الباحثين إلى فتح هذا الباب الذي ظل مغلقا لفترة طويلة وهو الحفر والبحث والتنقيب ومتابعة الأعلام والشخصيات الإسلامية التي اشتغلت على الإنسان وشخصيته في جميع أبعاده ومستوياته.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد