اللغة العربية بين إشراقات الماضي ورهانات الحاضر والمستقبل … حرز الله محمد لخضر

حرز الله محمد لخضر: أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة محمد خيضر ولاية بسكرة

لقد أبدع الأوائل في تعليم اللغة العربية وتبسيطها للناشئة وطلاب العلم من خلال طريقة المتون التي تقعد قواعدها وتجمع أصولها وفروعها بعبارات دقيقة و منتقاة،كالآجرومية و قطر الندى و سبائك الذهب في كلام العرب أو المنظومات والأراجيز كألفية ابن مالك و ابن معطي وغيرهما وذلك لضبط مسائلها و قواعدها و تيسير تعلمها و حفظها حتى غدت فاكهة الحديث ولغة الإبداع و العلم و الإمتاع الخطابي (مثل: مقامات الحريري و بديع الزمان الهمذاني و المعلقات العشر) ثم جاء ابن سينا و ألف أرجوزته (السينائية) في الطب بلسان عربي فصيح فركب المصطلحات الطبية و العلمية باللغة العربية وبعده توالى العلماء تترى في شتى الميادين يخدمون لغة القرآن بإنتاجاتهم العلمية الراقية في علوم الصناعة و الطبيعة و الإنسان ( مقدمة ابن خلدون رباعيات الخيام ، كتاب الأنيق في صناعة المنجنيق للعالم المسلم عبقري الأندلس: أرنبغا الزردكاش…الخ)
و بعد الهجمة الشرسة التي طالت مكتسباتنا الحضارية إثر الحملات الاستدمارية انحسر واقع اللغة العربية تعلما و تعليما و تأليفا وإبداعا فقدمت في صورة منفرة -و للأسف- حاشا بعض المحاولات القليلة لإعادة بعث بريق اللغة العربية وروعتها وهنا أتذكر بالذات ذلك البرنامج التعليمي الرائع الذي كنا نشاهده في طفولتنا وهو (المناهل) الذي جسد حالة إبداعية عصرية فريدة من نوعها في تقريب مضامين اللغة ودلالاتها إلى أذهان المتعلمين وما عدا ذلك بقيت اللغة العربية رهينة ممارسات تعليمية شاذة وغير بيداغوجية و لا تربوية من قبل بعض المعلمين الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء تطوير خبراتهم و مهاراتهم لتعليم هذه اللغة بطريقة محفزة لا منفرة و مرغبة لا مرهبة، فلا يخفى على أحد أن بعض معلمي العربية اليوم لا يحسنون حتى التحدث بها فضلا عن التفنن فيها وفي تعليميتها، بل لازالت -إلى اليوم- تلكم الصورة القاتمة عن معلم العربية بأنه ذلك الشديد الغليظ صعب المراس و المعاملة بخلاف أساتذة اللغات الأخرى الذين يمزجون بين طريقة التدريس باللعب و الأمثال و الممازحة و الملاطفة، مع أن هذه القاعدة غير مطردة إلا أنها أضرت بواقع اللغة العربية في كثير من البيئات التعليمية فوجد أعداؤها ملمزا و مدخلا للتضييق عليها بدعاوى لا تقوم بحجة.
تهمة بائسة:
إن كل الذين يعيبون اللغة العربية من المنسلخين أو المنبهرين بلغة غيرهم أو المنهارين فكريا إنما يعيبونها لعجز دفين في شخصياتهم و قصور متمكن في دواخلهم، لأن اللغة العربية الحقيقية – لا كما يظنها الأغلب أو يتداولها الناس اليوم – لهي ذات مستوى عال جدا، وتحمل بين طياتها جهازا جد متطور من البلاغة والنحو والصرف والأسلوبية والدلالة، قادر على الإبداع و الابهار و الازدهار لو وجد من يرتقي الى مستواه و يبلغ مداه، و لا أدل على ذلك من اعتراف علماء اللغة الغربيين كنعوم تشومسكي و سوسير و غيرهم من أفذاذ اللسان و البيان لفضل اللغة العربية و ميزتها و قدرتها الدلالية الفائقة، ولهذا لم يرتض ربنا سبحانه أن يعبر عن ارادته المطلقة و عن حكمته البالغة و شريعته الخاتمة و مراميه البليغة إلا باللغة العربية لأنها هي وحدها من يستوعب دلائل الخطاب الإلاهي المحكم و الخاتم بمقتضى شمولية الشريعة الاسلامية و رسالتها العالمية ” قرآنا عربيا غير ذي عوج” ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تتقون” فإنزال القرآن عربيا غرض مقصود و هدف منشود من الحكيم المحمود …فالواجب علينا أن نرتقي في علمنا و مقاصدنا ومداركنا وتفكيرنا لكي نصل إلى مستوى لغة القرآن لا أن نتنقص لغة لم نفقه معشارها ولم ندرك كنهها و سرها قال بن مالك صاحب الالفية :
و أستعين الله في ألفية …مقاصد النحو بها محوية
تقرب الأقصى بلفظ موجز …و تبسط الوعد بفضل منجز.
هل اللغة العربية لغة ميتة ؟؟
من المؤسف كثيرا أن تقرأ عن بعض من ينتسب للفكر والعلم قولهم ” اللغة العربية لغة ميتة و الانجليزية هي لغة العلم ” ، فأبسط الدارسين لعلم اللغات و اللسانيات و الأسلوبيات و لقواعد اللغة العربية و فقهها يقف على الحقيقة الراسخة وهي أنها من أغنى اللغات الحية و أعمقها دلالة، ولكن يحق لنا أن نتساءل: لماذا لا تواكب هذه اللغة روح العصر وتصبح لغة عالمية ؟ هذا السؤال يدفعنا إلى تساؤل آخر و هو: هل الإشكال في اللغة أو فيمن يستعملها ؟ وهل تنهض اللغة بنفسها أو بمستعملها ؟ وكيف تتطور اللغة و تفرض حضورها على العالمين؟ اللغة العربية ليست ميتة بل الإنسان العربي و الفكر العربي هو الميت في الوقت المعاصر، هذا الإنسان الذي قصرت همته عن بلوغ مراتب الإبداع والإنتاج وتطوير سبل المعاش ” فالمبدع له الحق الحصري في نحت المسميات المناسبة بلغته على ما أبدعه و أنتجه ” ، كما أن اللغة تفرض حضورها بقوة على العالم بما يقدمه أهلها للإنسانية من أدب رفيع و صناعة نافعة واختراق لكافة العلوم و الفنون وهذا ما كان للأمريكان و البريطانيين فانتشرت لغتهم وصار لزاما على بقية الشعوب أن تتعلمها لتحسن تشغيل الآلات و البرامج التي أبدعتها أنامل تلك الأمم فلا تظلموا العربية بجهل وقد وسعت كتاب الله لفظا و غاية فكيف تضيق اليوم عن تأليف أسماء لمخترعات ؟؟ و لكن اللوم يكون على الأيادي التي لا تصنع و العقول التي لا تفكر و الأرجل التي لا تضرب في الأرض كادّة مجتهدة فالميت الحقيقي هو الإنسان العربي و ليست العربية فبالأمس كانت الفرنسية حاضرة و اليوم تكتسحها الإنجليزية و غدا قد تكون الصينية أو الألمانية فهل نقول بعد ذلك: أن الانجليزية هي لغة ميتة ؟؟ وفي الماضي القريب كانت اللغة العبرية معدودة من موات اللغات ولكن لما وجدت من يحييها و يغار عليها ويوظفها خرجت من قبرها واستعادت حياتها ليس بنفسها و لكن بالإنسان الذي طورها و فرضها بالفكر و العلم و الصناعة، فاللغة وسيلة و التطور و الإبداع والقوة الاقتصادية والتكنولوجية غاية و الوسائل لها حكم الغايات.
سبيل تمكين العربية وتحديثها:
فالانتصار للغة العربية لا يقتصر فقط على مقال يكتب أو جمعية تنشأ أو قرار يصدر أو شعار يرفع بل لا بد من التفكير الجاد و الواعي بضرورة ترقية هذه اللغة إلى مصاف العالمية لتصبح لغة الاقتصاد و الميكانيك و الطب و الصيدلة ..الخ وبإيجاد المنهجية السليمة لتدريسها وفق مقتضيات العصر وبأسلوب علمي إضافة إلى الأسلوب الشعري و النثري معا وجعلها لغة التدريس بصفة عملية وتحفيز الطلاب على أن يتداولوها في إلقائهم لبحوثهم و في مشاركاتهم .
نعم… اللغة هي وعاء الفكر وقد استقر لدى علماء اللسانيات أن الإنسان يفكر باللغة التي يتقنها و يتأثر فكره و سلوكه وخلقه بأسلوبها و آدابها وجمالياتها فاللغة ليست مجرد أداة تواصلية فحسب.
فلن تصلح اللغة العربية إلا إذا استقام لسان أبنائها وسبيل استقامة اللسان يكون بالمدارسة و الممارسة و المعاهدة .
كلامنا لفظ مفيد كاستقم………………….. اسم وفعل ثم حرف الكلم -ابن مالك-
رحم الله من بنوا بالعربية علوما و فهوما و أسسوا على صخرتها حضارة و فنونا فأضحوا في البرية أنجما و بدورا.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد