المصالح المرسلة والمستجدات العصرية

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. أما بعد:
فهناك مستجدات، تهم المغرب الأقصى خصوصا، والعالم الإسلامي عموما. لذا، جاء هذا البحث الموجز، في شقين متتامين.
الشق الأول نظري، عن مواقف المذاهب الفقهية من دليل المصالح المرسلة الذي يحدد أحكام المستجدات، مع إبراز تقارب المواقف منه. والشق الثاني عملي، عن مكانة الدليل المصلحي في الأحكام الشرعية، مع اختيار نماذج تطبيقية.
إن شريعة الإسلام المتميزة بشموليتها، هي الضامنة لمصالح العباد كلها. لكن بِتغير الأزمنة والأحوال، تَجد نوازل وتحدث قضايا. فيختلف المسلمون أحيانا كثيرة، في تعيين مصالحهم. وأكثر ما يختلفون فيه، المصالح التي ليس لها دليل مباشر، كالمصالح المرسلة رغم أنها تُعد في ذاتها دليلا شرعيا.
المبحث الأول: المصلحة المرسلة في الإسلام.
المطلب الأول: تعريف المصلحة المرسلة.
المصلحة هي كل ما فيه منفعة، خلافا للمفسدة لكل ما فيه مضرة. فانبنت شريعتنا الإسلامية حتما، على جلب المصالح ودفع المفاسد.
تقسيم المصالح باعتبار الشارع لها:
1) ما اعتبره الشارع: المصالح الشرعية، مصالح مستنبطة من نصوص الوحي ومقاصد الشريعة. فهي بالنص عليها، حجة على كل أُلزم بها من الأمة الإسلامية.
2) ما أبطله الشارع: المصالح الملغاة، هي على العكس، تتنافى تماما مع النصوص الشرعية، في حين أن الشرع هو المنوط بالاعتبار أو الإلغاء.
3) ما لم يشهد له الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء: المصالح المرسلة، هي التي أرسلها الشارع فلم يشهد لها لا بالاعتبار ولا بالإلغاء. فلا دليل خاص عليها، سواء بالنص أو الاستنباط.
ومن بين تعريفات دليل المصلحة المرسلة أو الاستصلاح:
أ- قديما تعريف إمام الحرمين -الذي تسمى عنده بالاستدلال-: “هو معنى مُشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه”1 .
ب- حديثا تعريف أبو زهرة بأنها:”المصالح الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامي شرط أن لا يشهد لها أصل خاص بالاعتبار أو الإلغاء، فإن شهد لها أصل دخلت في عموم القياس وإن شهد لها أصل خاص بالإلغاء فهي باطلة، وبالتالي يكون الآخذ بها معارضا لمقاصد الشريعة”2 .
المطلب الثاني: أهمية المصلحة المرسلة ودليل مشروعيتها.
أهمية الاستدلال بالمصالح المرسلة:
تكمن أساسا، في جعْل الشريعة الإسلامية مسايرة للمستجدات في كل زمان ومكان، بإيجاد الأحكام الشرعية المناسبة لكل النوازل وفق كليات الشريعة ومقاصدها.
حجية المصالح المرسلة:
اتفق العلماء على عدم جواز العمل بالمصلحة المرسلة، في باب العبادات لأنها توقيفية. واختلفوا في الاحتجاج بها في باب المعاملات على ثلاثة أوجه: عدم اعتبارها أو اعتبارها أو اعتبارها بشرط،
ومن أدلة مَن احتج بها:
1- قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”3 ، دعوة ضمنية بعموم النص إلى اعتبار المصلحة حتى لو كانت مرسلة.
2 – استقراء عمل الصحابة، يشهد بأنهم أفتوا في كثير من الوقائع بناء على المصالح. ومن ذلك، جمعُهم القرآن في عهد أبي بكر(ض)، بعد موت كثير من الحفظة في موقعة اليمامة وخشية ذهاب القرآن بموت حافظيه. فلم يكن لهذا الحكم نظير يقاس عليه، بل كان بمُطلق المصلحة، مثله مثل اتخاذ عمر(ض)، السجون لمعاقبة المجرمين، وما شابه ذلك من الأحكام المستجدة.
3 – عمل التابعين، كان كعمل الصحابة في كل ما استجد من الأمور والقضايا في عهدهم،كجمع الحديث وتدوينه.
4 – عقليا، بتتبع تعليلات الشرع في نصوصه وباستقراء أحكامه في جزئياته، نجده يراعي مصالح الخلق سواء كانت لجلب منفعة أو درء مفسدة. ثم إن مصالح الناس تتجدد وتتغير باستمرار، فيكون الاقتصار على المصالح المنصوص عليها بدليل خاص فقط، كما يذهب الظاهرية، مُعطلا لمصالح العباد ومعيقا لمسايرة مستجدات الحياة.
وفي هذا يقول عبد الوهاب خلاف حديثا مثلما قالوا قديما: “أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس”4 .
ويقول أيضا: “إذا لم يفتح هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله لا يؤيده الواقع، فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها”5 .
فيتبين أن بناء التشريع على المصلحة المرسلة، لا على النص فقط كما يظن بعظ الجهلة، لازم لمسايرة المستجدات. لكنه لا يتحقق مشروعا، إلا بالتزام ضوابطه الشرعية.
المطلب الثالث: موقف المذاهب الفقهية من المصالح المرسلة.
هي من مصادر التشريع المختلف فيها بين المذاهب، اختلافا شرعيا مقبولا. فاشتهر أنها من خصوصيات المذهب المالكي، وتبعه المذهب الحنبلي. وعدم الأخذ بها، نُسب للحنفية والشافعية، وهو ما عليه الظاهرية.
لكن بالرجوع إلى الخط الإفتائي للمذاهب، يتحدد موقفهم الحقيقي من المصلحة المرسلة.
المذهب المالكي:
يُعد أكثر المذاهب أخذا بالمصالح المرسلة، حتى لقب بمذهب “فقه المصالح”. وقد توسع الإمام مالك في الأخذ بها، مع اعتبار الاستحسان فرعا منها.
كما أنه اعتبرها مصدرا مستقلا، دلت على اعتباره نصوص الشريعة. فتُبنى على أساسها الأحكام الشرعية، عند فقدان النص الخاص. ثم خالف المذهب بها، القياس المستند إلى النص عندما يؤدي اطراده إلى خلاف المصلحة، حيث تظهر في صورة الاستحسان المخالف لمقتضى القياس..
لكن هذا المذهب، إنما راعى مقاصد الشريعة. فلا يكون تقدير المصالح تابعا للأهواء والمنافع الخاصة، بل قُيد بضوابط الشرع. وعليه ليس من باب تقديم المصلحة على النص الخاص، إلا لأنها في ذاتها لازمة من أصول الشريعة.6
ومن الأمثلة على الأخذ بالمصلحة المرسلة عند مالك:
1- إجازة بيعة المفضول، الذي يوجد الأولى منه بالخلافة، حفاظا على مصلحة الأمة.
2- قتل الجماعة بالواحد، إذا شارك متعددون في قتله، حتى لا يضيع القصاص.
3- للإمام أن يفرض على الأغنياء مالاً إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد الحاجة.
المذهب الحنبلي:
يحتل المذهب الحنبلي المرتبة الثانية بعد المذهب المالكي في الأخذ بالمصالح المرسلة، حيث نحى منحاه في اعتبارها أصلا للأحكام. لكن أتباعه لم يذكروا أصل الاستصلاح ضمن أصوله، لأن الإمام أحمد بن حنبل لم يعده أصلا خاصا، أي قسيما للكتاب والسنة والقياس، بل كان يعده معنى من معاني القياس وبابا من أبوابه. فيكون أصلا في استنباط المعاني، داخلا في الأدلة الأخرى.
لذا لوحظ في الاجتهاد الحنبلي أن الفقيه يحكم بأن كل عمل فيه مصلحة غالبة، مطلوب شرعا دون الحاجة إلى شاهد خاص له من نصوص الشرع. والعمل الذي ضرره أكبر من نفعه، فهو منهي عنه دون الحاجة أيضا إلى نص خاص.
وفي هذا يقول ابن القيم: “فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثَمَّ شرع الله ودينه”7 .
لكن المذهب الحنبلي تَميز عن المذهب المالكي، لأنه لا يقدم المصلحة على النص حتى لو كان حديثا آحاداً أو مرسلا، بل لا يقدمها على قول الصحابي، إذ لا اعتبار عنده لمصلحة تصادم نصا.
ثم من علماء المذهب، مَن لا يعتدُّ بها كابن قدامى، ومنهم من بالغ في الأخذ بها كنجم الدين الطوفي، الذي غالى في الأخذ بها وجعلها مقدمة على النصوص القطعية إذا عارضتها. وهذا يؤدي إلى تعطيل نصوص، بنظر اجتهادي، عقلي محض.
وإن معظم فقهاء الحنابلة، أخذوا بالمصلحة كابن القيم، باعتبارها باباً من أبواب القياس بمعناه الواسع، أي الشامل للمصالح التي شهدت الأصول لجنسها بالاعتبار. لكن الآخذين بها، وضعوا لها ضوابط كالمالكية، لتحديدها وفق الشريعة بلا فوضى.
ومن أمثلة الأخذ بالمصلحة عند الحنابلة:8
1 – جواز تسعير السّلع، إذا تعدى التجار ثمن المثل أو استغلوا حاجة الناس.
2 – جواز التصرف في مال الغير أو حقه، عند الحاجة وتعذر استئذانه.
المذهب الحنفي:
لم يصرح الأحناف بأخذهم بالمصالح المرسلة، إلا أن اجتهاداتهم أخذت بالاستحسان، الذي هو في حقيقته خروج عن النظائر لضرورة تقتضي مصلحة أو تدفع مفسدة. فكان عندهم، يدور حول المصالح حيث لا نص ولا إجماع ولا قياس. وهو بهذا، قريب من المصالح عند المالكية، بل بناء الأحكام عليه، هو عين المصلحة المرسلة، وإن لم يسمّوها بذلك.
لذا رأى مصطفى الزرقاء، أن الاختلاف بين الحنفية والمالكية، هو مجرد اختلاف في الاصطلاح. وأن التمثيل الصحيح بين المذهبين، هو دخول المذهب الحنفي من باب الاستحسان إلى الاستصلاح، والعكس عند المذهب المالكي، فاشتهر كل منهما بالباب الذي دخل منه.9
ومن أمثلة الأخذ بالمصلحة المرسلة عند الأحناف:10
1- أفتَوْا بتمديد إجارة الأرض المستأجرة للزرع، إذا انقضت مدة الإجارة قبل حصاده، منعاً للضرر عن المستأجِر.
2 – أفتَوْا بعدم بينونة المرأة التي ترتد بقصد البينونة من زوجها، مراعاة لظروفها.
المذهب الشافعي:
لقد ثبت أخْذ الشافعي بالمصلحة المرسلة، كما أكد الزنجاني في قوله: “ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كُلِّي الشرع، وإن لم تكن مُستَنِدَة إلى الجزئيات الخاصة المعينة، جائز”.11
وإمام الحرمين، من كبار علماء المذهب الشافعي، ينسب إلى إمامه القول بالمصلحة المرسلة. لكنه يوضح أنه يشترط، أن تكون شبيهة بالمصالح المعتبرة. ثم تابع الشوكاني أيضا، نسبة القول له بذلك.12
وقد وقع تردد في رأي الإمام الغزالي، إلا أن مما يدل على أخذه بالمصلحة المرسلة، قوله: “إذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشارع فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة”13 .
لذا أفتى الغزالي بقتل الزنديق إذا ثبتت زندقته وإن أظهر التوبة ونطق الشهادة، مع أن ذلك يخالف حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، مُسَلما بجواز هذا التدبير المصلحي في السياسة الشرعية حيث قال: “فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم وذلك لا ينكره أحد”.
خلاصة:
1) الاختلاف في الاستدلال بالمصلحة المرسلة، ناتج عن اختلاف نظري في ضبط المصطلحات، كما هي آفة الفكر الاسلامي عموما. فمن نظرها مطلقة عن الدليل الشرعي الكلي والجزئي وجعل للعقل وحده حق اكتشافها، لم يعتبرها أصلا. ومن نظرها داخلة ضمن الأدلة الشرعية الكلية ومقاصد الشريعة وكلياتها، أخد بها حتما.
2) اعتبار المصالح المرسلة وارد عند جميع المذاهب المذكورة، مع اختلاف في نسبة العمل بها عندهم، إلا للمذهب الظاهري الذي يتمسك بما هو منصوص عليه. فالمكثرون في المصالح هم المالكية، ثم الحنابلة، ويليهم الأحناف، ويضيق استعمالها الشافعية.
وفي هذا يقول القرافي: “المصلحة المرسلة غيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع تجدهم يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار لها على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة”14 .
3) المذهب المالكي، يستحق أن يكون مدرسة قائمة بذاتها، لا معدودا فقط في مدرسة الشافعية والمتكلمين، مدرسة الجمهور المقابلة لمدرسة الحنفية.
المطلب الرابع: ضوابط المصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية.
المصالح لا تكون معتبرة، إلاَّ إذا كانت منضبطة بضوابط الشرع، لأن المصلحة المرسلة لا تعتبر دليلا مستقلا كالكتاب والسنة والإجماع والقياس. وإنما هي معنى كلي، يرتبط بأدلة تفصيلية. فلا يقع المجتهد في باطل، إذا ضبط المصالح بالضوابط الموالية:
الضابط الأول: أن لا تدخل في مجال العبادات، فتنحصر في مجال المعاملات، لأن العبادات توقيفية.
الضابط الثاني: أن تتماشى مع مقاصد الشرع، فتكون محققة ومعقولة.
الضابط الثالث: أن لا تعارض نصا خاصا قطعيا، كالفتوى بمساواة الأنثى للذكر في الميراث.
أما النص الظني في ثبوته أو دلالته، فقد وقع فيه خلاف بين العلماء الآخذين بالمصلحة. فمنهم من لا يقدم المصلحة على نص، ومنهم من قد يرجح المصلحة عليه، لكن المرجح حقيقة هو النصوص الدالة على المصلحة لا هي ذاتها.
الضابط الرابع: أن لا تُفوت مصلحة أرجح منها، بناء على الترجيح بين المصالح والمفاسد.
المبحث الثاني: أهمية المصالح المرسلة لاستيعاب أحكام بعض المستجدات المعاصرة في مجالات متعددة.
المطلب الأول: المصالح المرسلة وتدبير الشأن العام.
لقد تساءل واستفتى ملك المغرب محمد السادس، حول “المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام”: (وفي هذا السياق قررنا أن تكون فاتحة أعمال المجلس العلمي الأعلى تكليفه، طبقا لما يراه من رأي فقهي متنور، بتوعية الناس بأصول المذهب المالكي، ولاسيما في تميزه بالعمل بقاعدة المصالح المرسلة التي اعتمدتها المملكة المغربية على الدوام لمواكبة المتغيرات في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، من خلال الاجتهادات المتنورة لأسلافنا الميامين ولعلمائنا المتقدمين، وهو الأصل الذي تقوم عليه سائر الأحكام الشرعية والقانونية المنسجمة والمتكاملة، التي تسنها الدولة بقيادتنا، كملك وأمير للمزمنين، تجاوب مع مستجدات العصر، والتزام بمراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وصيانة الحقوق وأداء الواجبات)15 .
فكان جواب علماء المجلس العلمي الأعلى:16
“إن المصلحة المرسلة أصل من أصول المذهب والذي يكسبه مرونة في التشريع الفقهي، بحيث تجعله مسايرا للتطور قابلا للاجتهاد في كل القضايا المستجدة التي لا يكون فيها نص قطعي من الكتاب أو السنة أو الاجماع، مشيرين أن الدولة المغربية أخدت بهذا المسلك في كل المجالات: من عبادات ومعاملات وفتاوى وقضاء.
ثم أدلوا بالجواب لجلالته على شكل نظر فقهي صرحوا على أنه مبني على الأدلة الصحيحة وهو:
تَدَخل الإمام في التشريع يمتد إلى مجالات ثلاث على الأقل هي:
1 – مجال ما لا نص فيه.
2 – مجال ما كان موضع خلاف فقهي.
3 – مجال ما كان فيه تحقيق مصلحة حقيقية.
ثم أشاروا إلى أن الشرع ضبط المصلحة وحددها بحدود واضحة، وميز صحيحها من فاسدها قبل أن يأذن باستعمالها. كما اعتبروا الإمام الأعظم بما له من إلزامية القرار وقدرة على توجيه النظر الاجتهادي، يضل هو المؤهل لتقنين ما يحقق المصالح الحقيقية، ويدرك المفاسد التي قد تتراءى في صورة مصالح.
وراعوا الترتيب الموضوعي للاستحقاقات حسب الأهمية بتقديم الضروري ثم الحاجي ثم التحسيني، واستعمال ذلك في البحث الفقهي لتقنين ما يضمن تحقيق المصالح ويكفل حقوق الإنسان عموما وحقوق المرأة والطفل وحقوق ذوي الحاجيات بوجه خاص.
وبذلك دعوا إلى:
1 – ضرورة استحداث مدونة من النصوص الحديثة كلما دعت الضرورة لذلك بحيث تكون قادرة على التحكم في مسارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية إذ بها تستطيع المؤسسات العمومية والخاصة أداء مهامها في دائرة احترام النصوص المنظمة، ضمانا للحقوق ودرأ للتصرف بداعي التشهي والانحياز.
ومن هذه القوانين التي تستوجب هذا الاستحداث:
– القوانين المنظمة لمجال البناء.
– القوانين المنظمة للسير.
– القوانين المانعة لتلويث المجال.
– المحافظة على سلامة الأطعمة.
– القوانين المحافظة على الصحة.
2 – اضطلاع المغرب بمشروع فكري وتشريعي يتمثل في قراءة نصوص الشريعة واستعادة الأحكام التي راكمها النظر الفقهي بكل مدارسه وذلك من أجل إعادة توظيفها بسحبها على مستجدات الحياة لتكون سندا تشريعيا لكثير من التقنيات المستحدثة”17 .
نستنتج من خلال السؤال الملكي وجواب المجلس العلمي، ضرورة تغيير القوانين باستحداث ما يناسب ويساير التغيير الحضاري وفق الشريعة الإسلامية. فتكون المصالح المرسلة، مهمة في مواكبة تغير الأحكام مع تغير مصلحة الشأن العام، تدور معها أينما دارت.
المطلب الثاني: المصالح المرسلة وتشريع القوانين.
قانون السير نموذجا:
يظن كثيرون خطأ، أن قانون السير، غير ملزم شرعا، لأنه وضعي. فجهلوا أنه من المصالح المرسلة، المشروعة دائما والملزمة حتما.
وفد أفتى العلماء، بوجوب احترام قوانين السير وعدم مخالفتها. فيكون كل مخالف لها، آثما ديانة أمام الله تعالى، لا مسؤولا فقط أمام القانون قضاء.
وهذا نص الفتوى، من المَجمع الفقهي في مؤتمره الثامن:
“بسم الله الرحمن الرحيم قرار:71 (2/8) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان بروناي دارالسلام من 1 إلى 7 محرم 1414 ه الموافق 21-27 حزيران (يونيو) 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة قرر ما يلي:
أولا: (أ) إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعا، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.
(ب) مما تقتضيه المصلحة أيضا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذا بأحكام الحسبة المقررة.
ثانيا: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار،سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
(أ‌) إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
(ب) إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة.
(ج) إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية”18 .
هذا مقتطف من قرار مجمع الفقه الإسلامي، الذي بحث بعض الأحكام المتعلقة بحوادث المرور المعاصرة. فيلاحظ أن الأحكام التي قررها المجمع بشأنها وبشأن قوانين السير، مبنية في مجملها على دليل المصلحة المرسلة وكذا بعض القواعد والضوابط الفقهية التي يمكن للقاضي والمفتي إدراج الكثير من النوازل المرورية المعاصرة ضمنها، حيث إن قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” من القواعد المهمة التي تضبط حقوق الناس في حوادث المرور، وهي قاعدة شرعية من مبادئ الشريعة الإسلامية، تنص على رفع الضرر وتحريم الإضرار بالغير، بناء على مبدإ جلب المصالح ودفع المفاسد.
وقرار المجمع يبين أن المصلحة المرسلة هي دليل الالتزام بالأنظمة المرورية التي لا تخالف أحكام الشريعة، لأن في الالتزام بها طاعة ولي الأمر، فيما ينظمه من إجراءاتها حِفظا لمقصود الشرع في الأنفس والأموال، ولو اقتضى الأمر إلى سن العقوبات الزاجرة لمن يخالف تلك الأنظمة المصلحية.19
فيمكن القول إن قانون السير هو قانون إسلامي، وإن صدر عن غير المسلمين، بناء على “المصلحة المرسلة” المتمثلة في حفظ إحدى الضروريات الخمس التي حفظها الإسلام، هي النفس والمال. لذا، لا يجوز أبدا مخالفته.
المطلب الثالث: المصالح المرسلة والمجال الطبي.
التبرع بالأعضاء نموذجا:
التبرع بالأعضاء لنقلها وزراعتها، من القضايا الطبية الحديثة التي تطورت في العصر الحاضر، مع ضرورة التزام الضوابط والقيود الشرعية وإعمال مقاصد الشريعة الإسلامية. وقد صدرت في هذه النوازل فتاوى وأبحاث عديدة.
منها ما قررته هيئة كبار العلماء، بقرارها رقم 99 بتاريخ 6-11-1422ه في دورتها العشرين المنعقدة بمدينة الطائف، بعدما بحثت حكم نقل عضو إنسان إلى آخر. فقرر مجلسها بالإجماع:
 “جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه وغلب الظن نجاح زرعه.
كما قرر المجلس بالأكثرية، ما يلي:
1- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
2- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك”20 .
فكانت هذه القرارات التفصيلية، مبنية على تقديم مصلحة النفس البشرية لكل الآحياء.
المطلب الرابع: المصالح المرسلة وقضايا الأسرة.
الحضانة نموذجا:
الحضانة كما عرفتها مدونة الأسرة في مادتها 163، هي “حفط الولد مما قد يضره، والقيام بتربيته ومصالحه”. فسوّت بين كل من الذكر والأنثى بخصوص انتهاء الحضانة، الذي يتم ببلوغ سن الرشد القانوني، أي ثماني عشرة سنة حسب مقتضيات المادتين 209 و210.
لكن مع غياب النص الصريح، قد تُفعّل المصالح المرسلة، كتحديد الوقت الذي ينتهي فيه حق الحضانة بالنسبة للحاضنة. فاستثنت محكمة الاستئناف المريض الذي تجاوز سن الرشد وبه علة، لمصلحة تمديد حضانته في حالته الخاصة عند أمه.21
خاتمة:
تتغير الأحكام والقوانين باستمرار، مما يجعل إعمال المصالح المرسلة أساسيا في الفقه الإسلامي، لمسايرة المستجدات المعاصرة.
فكان من بين نتائج البحث فيها، ما يلي:
1- المصالح المرسلة من مصادر التشريع غير النصية المختلف فيها.
2- الاختلاف في الاحتجاج بها اختلاف نظري.
3- عند النظر في الفتاوى يتحقق أخذ جميع المدارس بها.
4- ثبوت اعتبارها في القرآن والسنة والإجماع والمعقول.
5- للأخذ بها يجب الالتزام بضوابطها لأنها دليل مرتبط بمقاصد الشرع.
6- إنها تخوض في سائر مصالح المعاملات عامة أو خاصة.
7- بها القوانين الوضعية في البلدان الإسلامية مشروعة ما لم تُناف الشريعة.
والأفق في الختام، أن يكون هذا البحث الموجز، مُحفزا للبُحوث في مستجدات ليس لها دليل مضبوط، ومُصححا للنُّعوت في مفاهيم ليس لها سند مشروع.
***************
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
 القرآن الكريم برواية ورش.
الكتب العلمية:
 الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها، مصطفى أحمد الزرقاء، دار القلم، دمشق.
 أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، دار الفكر، الطبعة8، 2010م.
 أصول الفقه، أبو زهرة، دار النشر، 1955م.
 البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين الجويني، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية.
 تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة.
 تنقيح الأصول، القرافي، شركة الطباعة الفنية، الطبعة الأولى.
 علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ط 12، 1398 ه-1978م.
 الطرق الحكمية، ابن القيم، دار الفكر، دت.
 مجلة “الأحكام المغربية”: عدد 64-65.
 مدونة الأسرة مع نصوصها التنظيمية وقانون صندوق التكافل العائلي 2010 سلسلة النصوص التشريعية (جيب).
 المذهب المالكي ومدى أخذه بالمصالح المرسلة، عبد الحي حسن العمراني، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 2003م.
 المستصفى في علم الأصول، للإمام أبي حامد الغزالي، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، ط1-1413ه/1993م-دار الوفاء.
 منشورات المجلس العلمي الأعلى، المغرب، ط1، 2007م.
المواقع الإلكترونية:
– موقع بحوث ودراسات: المجمعات الفقهية: هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية islamtoday.net/bohooth
– موقع مجمع الفقه الإسلامي: www.fiqhacademy.org.sa

الهوامش:

  1. البرهان في أصول الفقه: ج2/721.
  2. أصول الفقه – أبو زهرة.
  3. سورة الحشر:2.
  4. علم أصول الفقه: ص85.
  5. نفس المرجع: ص88.
  6. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية – الزرقاء: ص62.
  7. الطرق الحكمية – ابن القيم.
  8. أصول الفقه الإسلامي – وهبة الزحيلي: ج 2 ص64 .
  9. المذهب المالكي ومدى أخده بالمصالح المرسلة – عبد الحي حسن العمراني: ص64.
  10. الاستصلاح والمصالح المرسلة لمصطفى الزرقاء: ص61.
  11. تخريج الفروع على الأصول: ص372.
  12. أصول الفقه الإسلامي – وهبة الزحيلي: ج2/ص47-48.
  13. المستصفى: ص74.
  14. تنقيح الأصول.
  15. من الخطاب الملكي بفاس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى لأشغال المجلس العلمي الأعلى، بتاريخ فاتح جمادى الثانية 1426ه موافق 08 يوليوز 2005م.
  16. يوم الجمعة 17 رمضان 1426 ه موافق 21 أكتوبر 2005.
  17. مدون ضمن منشورات المجلس العلمي الأعلى: ط1/2007.
  18. موقع الفقه الإسلامي.www.fiqh.academy.org.sa
  19. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية – مصطفى الزرقاء: ص51.
  20. موقع بحوث ودراسات: المجمعات الفقهية: هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية islamtoday.netLbohooth.
  21. القرار الصادر بتاريخ 28 فبراير 1992م، منشور بمجلة «الأحكام المغربية «عدد 64-65: ص173.

نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ سالم مهني عبد العظيم
    سالم مهني عبد العظيم

    بحث جيد جزى الله كاتبه كل خير

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: