مغالطات في مسألة 'توحيد المسؤولية'!

قراءة في دراسات فقه العمران وكتاب ‘عمارة الأرض في الإسلام’: د. وليد أحمد السيد
في الفصل الثاني (توحيد المسؤولية) يطالعنا الكاتب ومنذ الصفحة الأولى بجملة جديدة من الإفتراضات التي ‘يعتبرها’ بدهية، ويعتقد بضرورة تحويل أعيان البيئة لنموذج متحد، حيث يرى أنها تجتهد نصوصها لتحويل أعيان البيئة لهذا النموذج بقدر الإمكان. وكعادته يعقد مقارنة ‘عاجلة’ مع النماذج الوضعية كالإشتراكية لينتهي بخلاصة عاجلة بأن هذا هو سبب فشل الأخيرة! ويعتقد الكاتب بأن سبب فشلها هو أنها ‘افترضت أن إقناع وإرغام الناس على تقديم التكافل الإجتماعي على مصلحة ومصير الفرد أمر ممكن التطبيق في كل مستويات المجتمع’ ص 51 متناسيا بهذه المقارنة والقراءة للنموذجين الشرعي والإشتراكي أنه يقلب المعادلة تماما، حيث تبدو أفكار التكافل الأجتماعية التي هي من صلب وأسس الدين الإسلامي منسوبة بمنطقه للإشتراكية، فيما يبدو للقارئ من خلال قراءة النص بأن الشريعة تدفع الناس ‘للأنانية’ وحب التملك بحيث يسعى المسلمون جاهدين لتلبية حاجة فطرية بحب ‘جامح’ للتملك الغريزي لأعيان البيئة بما ‘يقلل’ بحسب منطقه من مشاكل البيئة ويرفع درجة المسؤولية بها.
وهو بهذا المنطق يلغي كمّا هائلا من جهود الشريعة في تنقية النفوس البشرية من إدران الأنانية والمنفعة الشخصية وحب الذات ويطمس بجرة قلم نصوصا كاملة وهائلة شرعية في فضائل الإيثار لتبدو نصوص الشريعة ومقاصدها، وقد تقزمت لمهمة واحدة هي محاولة مساعدة منهجية ‘إقطاعية’ وحب التملك إلى درجة شبه مطلقة في البيئة المبنية، وهذا كما يرى الكاتب ‘يقلل من مشاكل الجيرة ويلغي كما هائلا من ‘المعاملات الورقية’ التي يزعم أنها ستكثر في حال سكن الناس في منازل تملكها الدولة، بحيث أنها لن تجد راحة في ظل تلك الأنظمة’! المغالطة الأساسية تبدو بقراءة مثل هذا النص للكاتب:’لذلك إذا كانت معظم أعيان البيئة في الإذعاني المتحد فنتوقع أن تكون البيئة في أفضل وضع ممكن لها من حيث اهتمام الناس بها، وبذلك تقل نفقات المجتمع على صيانة أعيانه وادخار تلك النفقات في بناء أعيان أخرى. ومن جهة ثالثة فإن وضع الأعيان في نماذج غير الإذعاني المتحد يتطلب الكثير من الجهد والتنسيق بين الفرق. فتصور أخي القارئ أنك تسكن في منزل تملكه مؤسسة حكومية مثلا، فإذا أردت فعل أي شيء في المنزل عليك أن تأخذ موافقة تلك المؤسسة والتي قد ترفض طلبك، هذا إذا لم تصدر لك المؤسسة أنظمة لتتبعها، وبهذا قد لا تجد راحة في العيش تحت ظل تلك الأنظمة، وهذا قد يضطر بعض السكان لمخالفته، ويضطر المؤسسة لإيجاد جهاز لمراقبة أولئك السكان، أي متى خرجت الأعيان عن الإذعاني المتحد كثرت المعاملات الورقية، والشكاوي والمرافعات وقضايا المحاكم وما إلى ذلك من مسائل تجلب الضغينة وتضيع الكتير من المال والمجهود والوقت في مسائل لم تكن لتوجد أصلا’. والنص يحتاج لكتاب لشرح متنافضاته، ونطلب من قارئنا أن يعد كلمة ‘قد’ الإفتراضية التي تشيع في هذا النص الجزئي من هذا الكتاب الموسوم بهذا الكلمة للدلالة على ‘كمية الإفتراض’ بالأطنان التي تثقل كاهل النص.
ومن ناحية ثانية فالكاتب يبدو أنه ينسى أو يتناسى ما يحفل به كتابه بمفاهيم الحسبة والمحتسب والشكاوى ونوازل القضاء التي شاعت فيما سمي بالمدينة الإسلامية تاريخيا حيث سادت المشكلات التي لا نهاية لها بين الجيران نظرا لتصرف الجيران على أهوائهم بنماذج إذعانية متحدة، فهذا فتح الباب على ميزاب جاره وذاك سد الريح بإقامة حائط وسواها من المشكلات التي ستسود بين الجيران ‘الإقطاعيين’ الذي يتصرف كل بما ملك، وحيث يعلو كل على الآخر في غياب الجهة المنظمة والراعية للعمران في المدينة ‘بشكل مسبق’ لا ترقيعي متأخر كما يدعو لذلك بطريقة غير مباشرة من خلال نصوصه في الكتاب الذي بين أيدينا. وبكلمات أخرى، فالكاتب يظن أن سكان المدينة حين يملك كل منهم عقاره بشكل إذعاني متحد فسترتفع المسؤولية في المدينة تجاه الأعيان لقيمتها القصوى وأن هذا هو مقصد الشريعة الأساسي، مستندا لمجموعة افتراضات (و’قد’ ات) لا متناهية حيث يعتقد بأن السكان حين يملكون بدرجات شبه مطلقة أعيان البيئة وتكون لهم حرية التصرف بها دون تدخلات الجهات المسؤولة فسيكون ذلك في مصلحة السكان والمدينة ويقلل من المال والوقت والجهد!!! ولدعم نصوصه بشواهد من الشريعة يعمد الكاتب في أكثر من موضع للإستشهاد بعالم شرعي متأخر اسمه ‘القرافي’! ولا ندري سبب هذه القفزة الزمنية الكبيرة وتخطي جمهور العموم من علماء الشريعة الأقرب لجيل الصحابة والتابعين؟؟ وهذا له دلالتان: الأولى أن هذا العلم الشرعي بمقاصد الشريعة هو علم مبتدع بعدما نشأ الركون للدنيا وحين توسعت المدن العربية ‘الإسلاموية’ لاحقا بعد عصور الصحابة والتابعين النقية بما يعني أن ربط علوم العمران بالعلم الشرعي هو ربط دخيل وقسري وليس له سند قوي بالمقصد والغاية الأساسية التي هدفت لها الشريعة كما أسلفنا ونعتقد. الثاني: خلو التاريخ السابق لهذا العالم المتأخر والمجهول نسبيا من النصوص التي تدعم رأي الكاتب، بما يعني أن اجتهادات عموم السلف قد تخالف أقوال هذا الرجل لغرابتها، فمثلا يستشهد الكاتب بالقرافي في أن ‘الشرع له قاعدة وهو إنما يملك لأجل الحاجة، وما لا حاجة فيه لا يشرع فيه الملك’، وهو قول غريب بأبسط توصيفاته، ويتحفنا الكاتب باجتهادات غريبة بأن الجنين لما كان ميتا شرعا وهو بصدد الحاجة العامة في حياته ملك الأموال بالإجماع، والميت بعد الحياة لم تبق له حاجة عامة فلم يملك. ويقول الكاتب:’وقاعدة الحاجة هذه يجب أن لا تتعارض مع حديث الرسول (ص) ‘لا ضرر ولا ضرار’! والواضح أن الكاتب يخوض في الأحاديث والنصوص الشرعية خوضا ‘انتقائيا’ بدلالة النص وبدلالة الراوي والمثال الذي يستشهد به، حتى ولو كان ذلك على حساب الشائع من آراء جمهور العلماء من النصوص التي تدعم رأي الكاتب. وكان الأولى به ليكون نصه شاملا وعلميا أن يقوم بعرض ومراجعة كافة الآراء ومناقشتها وتفنيدها قبل اختيار ما يعرضه في النص بكتابه ويبرر سبب ذلك بدلا من هذا الإنتقاء الذي يحاكي البحث عن فتوى ‘على المقاس’ كما يفعل بعض المسلمين هذه الأيام لاختيار ما يناسبهم ويحلو لهم من شاذ الفتاوى وغريب التشريع ومجهوله!
وبعد ذلك يغرق القارئ في متابعة ‘نصوص’ مقتبسة عن الأقدمين لمحاولة إيهام القارئ بأن النصوص التي يستشهد بها الكاتب هي نصوص موثقة من الشريعة الإسلامية بردها لعلماء من الجيل الرابع أو السابع من تابعي التابعين لنوازع ‘افتراضية’ حين شاع فقه الإفتراض الذي ساد في فترات إسلامية متردية. والمدهش أن بعض هذه الإفتراضات ‘الفقهية’ هي مسائل منطقية إبتداء وبالبداهة ولا تحتاج للجرجاني ولا إبن عابدين ولا إبن الشاط الذين يستشهد بهم، فنقرأ بتعجب في نص الكاتب:’ ففي الفروق للجرجاني (ت 482):’ إذا نشزت أغصان شجرة في داره إلى دار جاره كان لجاره منعه منها، فإن صالحه عنها بعوض على أن يتركها في هواء داره، لم يجز، لأنه أخذ العوض عن مجرد الهواء، وذلك لا يجوز’. انتهى النص المقتبس. وهنا لا بد من وقفة عند هذه النصوص التي تشيع بين سطور الكتاب، والتي نعتقد ان لها سببا كبيرا في تراجع حال المسلمين في عصرنا الحالي حيث تغيب قدرة العقل المعاصر على قراءة مستجدات وتطورات الحال والعكوف على نصوص علماء ‘ثانويين’ من الفترة الخالية كي يتحكم هؤلاء الأموات في عقول وحياة الأحياء بعد مئات وآلاف السنين. وبقراءة هذا النص وغيره من هذا النصوص العتيقة التي يبني فيها الكاتب بناءه الفكري في كتابه حجرا حجرا نتساءل:’المنطق والعقل والقوانين التي يمكن أن يتفق عليها معظم العقلاء في هذا الكون ودون الحاجة للرجوع لهذه الإجتهادات الشاذة التي طرأت على الفكر الإسلامي منذ نشأته بعد عصور التابعين إلى يومنا هذا وعلى أيدي علماء شريعة مثل العبيكان وفتاوى شاذة ‘لا عقلية’ كفتوى رضاع الكبير يرفضها حتى الطفل الرضيع لخلوها من العقل الذي كرمه الله تعالى، نقول المنطق يقول أن الجارين يجلسان في حب ووئام ويحاولان حل المسألة بالتراضي والعقل، وتبرز حلول مثل قص أوراق الشجرة، أو أن يطعم الجار من أغصان الشجرة التي تطفلت على بيته نظرا لتراص البيوت واعتداءات أنظمة الأبنية المتخلفة على حدود الجيران، أو حين يتعنت الجار يلجأ لعقلاء الحارة فإن لم ينفع ذلك مع الجار عندها يلجأ للقضاء ويدخل الجار المتعنت السجن جزاء وفاقا وانتهت المسألة! ولسنا بحاجة لهذه النصوص العتيقة لعلماء من التاريخ الإسلامي الجدلي أو المجهول! أما أن ندخل في مسائل سخيفة في ما يجوز وما لا يجوز بسبب الهواء استنادا لفتوى عالم واحد من غياهب التاريخ الإسلامي فهذا يرفضه العقل! ومن شاء أن يضيع بعض الوقت في قراءة المزيد من هذه المناكفات والدخول في تفاصيل فقه الإفتراض والذي يخالف المنطق والعقل فليقرأ ما تبقى من هذا الفصل الثاني من الكتاب الذي بين أيدينا إذ تحتاج النصوص المقتبسه لمجلد لتفنيدها والتعليق عليها ولا تتسع المساحة لذلك. واللافت أن هذه ‘العودة’ الماضوية في النص لاجتهادات الأقدمين في الملكية وملكية الهواء وحالات انهدام العقار وغيره تعكس رؤية ‘ماضوية’ ورغبة في إضفاء صفة ‘التاريخية’ على النص من جهة بكثرة الرجوع لنوازل تاريخية والإستشهاد بأحكام علمائها من الأجيال المتأخرة وقبولها على أنها ‘بديل’ شرعي ومنطقي لأحكام البينان في العمران العربي والإسلامي. ومن جهة ثانية تبدو محاولة إعلاء شأنها كوثيقة نصية وقانونية تصلح لمعطيات العصر، وأن سبب تردي العمران والحياة الإجتماعية في البيئة المعاصرة هو النكوص عنها وعدم الرجوع لها في التخطيط العمراني المعاصر!
وفي استعراضه التاريخي ‘الماضوي’ لقواعد الأحياء والإقطاع والإحتجار في الشريعة الإسلامية يبدو جليا أن الكاتب يقرأ نصوصا تاريخية وكأنه يعيش عصر تلك النصوص. فلا ندري كيف يمكن تجاهل التطورات الهائلة الإجتماعية والديمغرافية والإقتصادية والسياسية بقراءة تلك النصوص قراءة جامدة وبالطريقة التي ترد في نص الكاتب. فهل يمكن أن ننظر لإحياء الأرض الموات في مجتمع المدينة المنورة الذي لم يجاوز بضعة آلاف من المسلمين في صحراء الربع الخالي التي تحتاج لامتداد وتوسيع رقعة المناطق الصالحة للسكن وبين مجتمعات حديثة لها مجاورات وحدود وتطورات هائلة من العلوم الإجتماعية والبيئية والتخطيطية وانعكاسات ذلك على علاقات السكان ببعضهم في مجتمعات حديثة ليهمل الكاتب كل هذه التطورات ويحاول إقناعنا بأن ‘التملك الإقطاعي’ شبه العشوائي – وإن خاض بنا في متاهات الإفتراض والسلطان والحاكم وسواها – هي تصب في مصلحة رفع المسؤولية في البيئة ‘وتقليل البيروقراطية والمعاملات الورقية’!!!. أنظر ص 60 وكذلك أنظر الفصل الثالث حول (ضياع المسؤولية) منذ بداية مراجعة الكاتب لتغير قوانين العمران في الدولة العثمانية حتى الوقت الحاضر (صفحة 113 141).
ويبرز ليّ أعناق النصوص الشرعية بشكل صارخ حين يعمد الكاتب لقصة مع أحد المساكين الذين لا يجدون مسكنا لإيوائهم وأن الكاتب يخلص بنتيجة أن إحياء الأرض الموات وفتح الباب من قبل الدولة أمام الناس هو الحل للمجتمع وللمساكين الذين سيبنون بيوتهم من الصفيح والمواد التي يجدونها لسترهم وأن هذا رغم أنه عشوائي ويشوه البيئة هو حل وعلاج لهذه المشكلة، ويخلص الكاتب بالقول:’ يا لحكمة الشريعة!’ ونحن نقول: يا للعجب! لو قام المفكرون والمخططون المعاصرون في الدول الإسلامية بدورهم الأساسي، وبخاصة من تقرب منهم للساسة والسلاطين لمنافع شخصية، بدورهم الذي سيسألون عنه في تصويب أوضاع المجتمع، ولو تطوع وعاظ السلاطين من علماء الشريعة وبطانة السوء بدورهم جميعا في محاربة الفساد ونهب المال العام في مجتمعات العالم الثالث والعربي منه على وجه الخصوص رغم توفر موارد طبيعية وثروات غير محدودة ينبغي أن تتوزع على الفقراء لما وجد هناك فقير واحد يحتاج لما يطالعنا به الكاتب بالنص ولما جرى هذا الحوار أصلا مع هذا المسكين الفقير الذي لا يجد مسكنا يؤويه في دولة عربية مسلمة تدين بالشريعة الإسلامية. فقد غاب عن ذهن الكاتب تماما مقصد الشريعة من فكرة الإحياء للأرض الموات، وهي أنها لا تكون وقد تجاهلت الحكومة المسلمة أبسط حقوق مواطنيها وأدارت ظهرها لهم، بل هي حض وحث للمسلمين على العمل من جهة بإحياء أرض صحراوية مترامية بزراعتها ودعم اقتصاد المسلمين، وهي أشبه ما تكون بعد أن يتم تحقق الأساسيات لتكون من فضائل الأعمال وتوسيع رقعة أرض المسلمين الصالحة للزراعة وحب العمل بدل الكسل. أما لي عنق النص من قبل الكاتب فيبدو واضحا وجليا. وبدلا من هذه المهمة الجليلة للمفكرين والباحثين بتقويم اعوجاج المجتمع والسياسة المعاصرة فهناك هروب جلي وواضح للنوازل والوقائع التاريخية على حساب الواقع، وفي حالة الكاتب ربما يفسرها البعض على أنها نوع من الإنتهازية للنصوص التاريخية وللواقع المتردي سواء بسواء، وبخاصة حين ينحو الكاتب لمفاهيم الرأسمالية الطبقية ويصبح من كبار المطورين العقاريين للربح المادي بعد كتابته لهذا النصوص التاريخية ‘اللاتاريخية’!
والمتأمل والقارئ لقسم الحوار والأعراف، يرى التناقض بين رؤية الكاتب لمدينة الأمس ومدينة اليوم، حيث بإقراره سادت عدم وجود جهة مسيطرة مسؤولة كالدولة في السيطرة على التوسع العشوائي للسكان ووضع اليد على الأرض بطريقة بدائية بما يقود لخلافات بين الفرق، لكنه يناقض نفسه بأن ‘الشريعة’ كما يبين في الفصول السادس والسابع تعالج هذه الخلافات بين الفرق. والمدهش أنه يبدو وكأنه يمجّد منهجية وضع المشكلة في المدينة ثم محاولة ترقيعها بإيجاد حلول لها من خلال قراءات غير منهجية لنصوص تاريخية وكأنها وثيقة يسترشد بها بعد وضع المشكلة بدلا من تقديم المخططات التي تلتزم بتطبيقها مؤسسات من الدولة لمنع المشكلات قبل وقوعها وكما يحدث في عالم اليوم القائم على التنبؤ العلمي والتخصص العلمي للعمران وعلومه وحتى توقع حالة الطقس اليومية وسواها من تطورات الحال والزمان والمكان بدلا من العيش في عصر الأقدمين رغم تغير الظرف والحال. ومن المذهل في النصوص التي يقدمها لنا الكاتب أن معظمها بدهي لا يحتاج لكثير من التفسير والتعقيد، فمثلا حين يشير الكاتب بعد عدة استشهادات بأن الخلافات بين الفرق المختلفة ومحاولة الإعتداء على ملكية الآخرين ولعدم اختلاط الأمور بين الناس والعقارات فلا بد من وسيلة ما، وهنا يترقب القارئ ما هي هذه الوسيلة ليجد أنها ‘الإتفاقات’ (ويبرز الكاتب هذه الكلمة ضمن النص بشكل ملفت وكأنها فتح علمي واكتشاف عبقري!) يكتب:’ فقد يدعي البعض ملكية عقارات الآخرين، فلا بد إذا من وسيلة؛ هذه الوسيلة هي ‘الإتفاقات’ بين الفرق المتجاورة. فقد يتعدى فرد على جاره بأخذ جزء من أرضه أو من طريقه ويختلفان ثم يتفقان بالصلح أو بتدخل الجيران أو يحكم القاضي. أي أن هذه الإتفاقات ما هي إلا نتيجة حتمية للحوار أو النقاش بين الأطراف المتنازعة، أو الفرد وأفراد قريته أو جماعته أو جيرانه,…’ والمذهل أن الكاتب يسترسل في مثل هذه البدهيات ويقدمها خلال النص وكأنها منهجية واجتراح عبقري وبطريقة تبدو وكأنه يقدمها كمنهجية غائبة عن الوعي والإدراك. والإسترسال والتوضيح بها في النص لأكثر من بضعة كلمات ضرورية تتضمن هذه الفكرة في ذهن الكاتب وبشكل يبعث على الطرافة أحيانا أثناء قراءة النص! بطلان نظرية الكاتب في مسألة الإذعاني المتحد تبدو بوضوح حين يصل الكاتب لمناقشة الإذعاني المشتت والذي يبين الكاتب أن الشريعة وضعته في الوقف الذي فيه مصلحة للكثير من عموم المسلمين! ص 100- 101 ويعود لنفس منهجيتة بالرغم من إقراره بمصالح الوقف وفوائده للناس، يعود لمنهجية طرح الأمثلة الإفتراضية لمستخدمين مهملين ونزاعات على تنظيف وسيطرة واستخدام، وكأن صراع التاريخ لماركس يتجسد في كل لحظة بين طبقات من المجتمع لا كما عرفها ماركس ولكن بين ثلاث طبقات هي مسيطر ومالك ومستخدم. وبكلمات أخرى فكأن صراع التاريخ لكارل ماركس هو بين ثلاثة طبقات مجتمعية رأسمالية بينما أعاد تعريفها لنا الكاتب هنا وكأنه صراع مزمن بين ثلاثة طبقات مجتمعية هم المسيطر والمالك والمستخدم وأنه لا تصالح بينها طالما لم تتحول هذه الطبقة لطبقة واحدة في شخص واحد. وبينما حاول ماركس الإعلاء من شأن الطبقة المسحوقة أو العاملة على حساب الطبقتين المستغلتين في المجتمع، يحاول على العكس من ذلك ‘أكبر’ سحق طبقتي المستخدم والمسيطر لحساب صهرهما في بوتقة ‘الملكية’ الأنانية الجشعة في أطروحته العامة في الكتاب والتي يقدمها رغم ما بها من ‘سمّ واضح’ للمجتمع من خلال رداء التدين والنصوص الشرعية والأحاديث النبوية ونصوص بعض العلماء المجهولين من الجيل ‘الخامس عشر’ للصحابة، وهو تناقض واضح في فكر الكاتب بين أطروحته التي يروج لها وبين مقارناته السطحية مع الشيوعية كنظام وضعي ومع الرأسمالية التي مارسها لاحقا! والواضح أن الكاتب بدلا من معالجة النصوص حتى لو سلمنا جدلا بجواز منهجيته في الغوص في النصوص التاريخية لمعالجة تطورات الواقع بذهن مفتوح، يبدو بدلا من ذلك محكوما بنظرة ضيقة جدا بضرورة تحويل أعيان البيئة لنموذج واحد متجاهلا حاجات ومتطلبات متغايرة للمسلمين والسكان والزوار وعابري السبيل وسواها من متغيرات البيئة ومنظومتها الإجتماعية اللامتناهية، والتي تنبهت لها الشريعة الصالحة لكل مكان وزمان، فيما يحاول الكاتب تقزيمها والتركيز الإنتقائي لما يشاء منها لبناء أطروحة ‘خاصة’ وغريبة عن الواقع التخطيطي ومتغيرات الأقاليم والبيئات وتطورات وحاجات الزمن وهي أبرز متناقضات أطروحته ومنهجية قراءته لنصوص وأحكام الشريعة والوقائع التاريخية الخاصة وخصوصيات البيئات التاريخية!
وبمعرض محاولة الكاتب لتشويه صورة وحال الأوقاف، يقفز بنا الكاتب بنصوصه ليستعرض لنا مثالا على سوء حال الوقف ليس من أي بلد إسلامي وعربي من المنطقة بل نقفز قفزة فضائية لنجد أنفسنا فجأة في الهند، نعم الهند! يكتب الكاتب في الصفحة 101 عن حال الأراضي الزراعية المتدهور في الهند حيث لا يهتم أحد بحفظها بحال جيدة. وفي حالة انتقائية وشاذة من الحالات الكثيرة من الشواذ التي يقيس عليها الكاتب متجاهلا القاعدة الإساسية بأن الشاذ (أي ما لم يرق لمستوى الظاهرة) لا يصح القياس عليه، يطير بنا الكاتب هذه المرة إلى تونس ونقفز عبر التاريخ للوراء لأحد الأئمة بجامع القرويين حيث مؤذن والمحبس وغيره كانا مهملين حتى تهدمت الدارين. وهذا الشاذ لا يقاس عليه ولا يقاس على هذا الفكر المتردي في ذهن المسلمين الكسالى وهو ليس عيبا في حال العين والمسؤولية كما يجتهد الكاتب في تحقيقه بل هو يريد تجاهل حالة ذهنية متردية يمر بها بعض المسلمين ‘الدراويش’ والنابعة من فهم خاطئ ومنفر للدين والتدين بحيث تسود حالة من الهروب من الحاضر للسلف الناصع بما يقود لحالة ‘خدر ديني’ لذيذ يمر به بعض من قرأ الدين قراءة سطحية وما أكثرهم حتى في أيامنا بما يعميهم عن دنياهم فتفسد عليهم حياتهم اليومية والمعيشية وضرورة منافسة خلق الله بالعقل والعلم وبدلا من ذلك فكر ‘دروشة’ انهزامي يمجد الماضي ويغرق في إهمال الحاضر ومتطلباته. وللحديث بقية!
معماري وأكاديمي – لندن
[email protected]
لندن في 28 آب/اغسطس 2010 الموافق 18 رمضان 1431

المصدر: القدس العربي


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد