لقد كانت قضية وحدة الأمة الإسلامية، وبناء رابطتها، وإحياء بواعث نهضتها، مما ميز كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين، لكن اللافت للاهتمام أكثر هو عمق التحليل، والتشخيص الدقيق للقضايا العلمية، والظواهر الاجتماعية، والتاريخية… ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن منهج الرجل في البحث والتحليل هو التتلمذ للقرآن الكريم والسنة النبوية، والاستفادة من التراث الإسلامي لعلمائنا رحمهم الله بعين ناقدة متفحصة، مع معرفة دقيقة بظروف العصر وإكراهاته وخصوصياته.
فهو بحق مجدد وعالم ومفكر، ومربي، وداعية إلى الله، فقلما نجد في عصر من العصور من يجمع بين هذه الخصائص والمقومات، فقد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، ويدل على هذا ما خطته يده من كتابات، تجده في الكتاب الواحد بل في الفصل الواحد إن لم يكن في الصفحة الواحدة، يقترح أفكارا ومشاريع للعمل والنهوض بالأمة، وينتقد الفقهاء أو الفلاسفة أو الإسلاميين أو السياسيين، ويصحح الأفكار، ويناقش المخالف والموافق بالتي هي أحسن، ويدعوا القارئ إلى التوبة، ويذكره بمصيره يوم القيامة.
ومن هذه الكتابات الرائعة لهذا الداعية العالم، كتاب “جماعة المسلمين ورابطتها” وهو جزء من كتاب ” دولة القرآن”، ولا شك أن هذا الكتاب كما هي عادة هذا الرجل، قد كتب من زمن طويل،[1] لكنه اختار الوقت المناسب لإخراجه، حيث الكلام اليوم بعد الثورات العربية أو الربيع العربي عن الحل الإسلامي، وعن دور” الإسلاميين”، وعن تطبيق الشريعة، وقد اختار الناس طواعية المشروع الإسلامي في كل الدول التي أسقطت الاستبداد، لكن الكاتب لم يشغله الصخب الإعلامي، وكثرة التحليلات، والسجالات، والنقاشات، والندوات التي تحلل وتدرس ما وقع في الربيع العربي، والتي إن لم نقل كلها فأكثرها يفتقد للعلمية، والدقة، والعمق في التحليل والدراسة.
قلت لم يشغله هذا كله عن بيت القصيد، وعن الواجب الشرعي اليوم، وهو التفكير في لم الشتات، وجمع البيت الإسلامي، والبحث عن الموافقة والمؤالفة، وتدبير اختلافات العاملين للإسلام، وتوجيه الجهد والعمل نحو بناء جماعة المسلمين والانتماء إليها و” التي لا تزال في طي الغيب انتماء الولاء، وانتماء التهيؤ، وانتماء تركيز الجهود للوصول إليها، فذلك هو الانتماء المنجي من الميتة الجاهلية”[2]
سنحاول من خلال هذه الورقة، الوقوف عند مضامين فصول وفقرات هذا الكتاب، بإيجاز غير مخل، محيلين على صفحات الكتاب لمن أراد الاستزادة، والتوثيق العلمي، وقد جاء الكتاب في مقدمة، وأربعة فصول.
المقدمة:
تكلم فيها أبو بكر بن الحسن ابن الصديق عن قيمة الكاتب العلمية، ومتانة وعمق كتاباته، وعن مطمح الكتاب الذي هو: رأب الصدع بين الدعوة والدولة، وموضوعه الذي هو: عرض تصور متكامل لجماعة المسلمين.
الفصل الأول: الدعوة والدولة
أدرج الكاتب تحت هذا الفصل إثنى عشر فقرة، كانت عناوينها متنوعة، استوحاها الكاتب كعادته إما من آية قرآنية، أو حديث شريف، أو قولة لأحد الخلفاء الراشدين، أو علماء الإسلام.
وافتتح الكاتب هذا الفصل بالفقرة الأولى(السلطان يقاتل القرآن) بين فيها مراده من هذا الكتاب بقوله:” في هذا الكتاب نريد أن نبين إن شاء الله أن دولة القرآن ونظامها هيكل لسكن جند الله، وآلة في أيديهم ودرع لحمايتهم”[3] وحذر المسلمين من الاغترار بالصيغ والأشكال الجديدة التي يبتكرها أعداء الإسلام لقتال السلطان للقرآن، وأطلق عليها ” صيغة الإسلام الأمريكي أو اليسار الإسلامي”[4] وأن أساليب ومناهج الحرب على القرآن وأهله تطورت في عصرنا عما كانت عليه من قبل ” قتال القرآن أمس الدابر بالرشوة والقمع، بمنح الملوك ومحنهم للدعاة كان قتالا بسيطا ببساطة وسائله، وهو اليوم حرب مجهزة بأحدث أساليب المكر والاغتيال والتآمر”[5].
أما الفقرة الثانية( الثنائي الجهنمي) ذكر فيها الكاتب أنه بعد انتهاء الحروب الصليبية، وخروج المسلمين من الأندلس، تغيرت أشكال الحرب على المسلمين حيث اتخذت صيغ ” أخطرها: الماسونية والعلمانية”[6] ولذلك سماهما بالثنائي الجهنمي.
فالماسونية تنظيم يهودي سري، فكرتها الجوهرية وأساس بنائها هو:” أن الأديان تفرق، وأن الإنسانية تجمع، فلتكن الرابطة الجامعة الأسمى رابطة الإنسانية تغاضيا عن كل دين”[7] وقد انتشرت النوادي الماسونية في البلاد الإسلامية، واغتر بها وانخرط في سلكها علماء من الأمة ” من أمثال الأفغاني وجماعته ومحمد عبده وتلامذته”[8] لكن الكاتب التمس لهم العذر بأنهم كانوا صادقين لكن انطوت عليهم الحيلة والخديعة ” حدث كل ذلك في فترة كانت خبرة المسلمين فيها بكيد اليهود قليلة”[9]
أما الشكل الجهنمي الثاني فهو: العلمانية يقول الكاتب عن هدف هذا الثنائي:” هدف الماسونية تجريد الناس من الدين أفرادا، وهدف القومية العلمانية تجريدهم منه جملة”[10] والعلمانية كما هو متداول هي: فصل الدين عن الدولة، لكن يضيف الكاتب أنها إذا اقترنت بالقومية تعني:” فصل أجزاء البلاد الإسلامية وشعوبها بعضها عن بعض، لتنخرم الوحدة على الدين وبالدين”[11].
وذكر الكاتب أن هذا الثنائي نشأ في أوربا، وبتحريك من اليهود ومباركة منهم، وكانت العلمانية في بدايتها صيغة للتمرد على الكنيسة، التي كانت تقيد الفكر والعقل والإرادة والحرية، فشوهت الكنيسة الدين وعلاقته بالدولة، فكان ذلك سبب قيام المغربين من بني جلدتنا بالدعوة في بلاد المسلمين إلى الفصل بين الدين والدولة، جهل منهم بالإسلام يقول الكاتب:” جهلوا الإسلام فقارنوه بالنصرانية، وجهلوا أن لا كنيسة في الإسلام فعمدوا إلى رمز أثري، كان يؤدي مهمته على كل حال، فخربوا الخلافة العثمانية”[12]
ثم انتقل الكاتب إلى فقرة( قيام الدين بالقسط) وخلاصته إجابة دولة القرآن لبني الإسلام، وبني الإنسان، عن أسئلة الغاضبين عن الظلم والاستبداد وتقنعهم بالحجة المنطقية والحجة العملية[13]
وفي فقرة ( معلمون) قرر الكاتب معنى جليلا مفاده: تنصيب معلمين يفقهون الناس في دينهم ويؤكد ذلك بقوله عن فتوحات سيدنا عمر:” بل كان الفتح والتنظيم مقدمة لبث الدعوة وتعليم الناس دينهم”[14]
وفي(رعاة لا جباة) أكد على أن الحاكم يجب ألا تشغله أمور الحياة عن مهمته الأساسية وهي الدعوة، والحرص على العدل مع الرعية، وكون الحاكم راعي وليس جابي، لكيلا ينقطع الحياء، والأمانة، والوفاء. هدف تربوي ديني أخلاقي[15] منطلقا من نص لكتاب سيدنا عثمان رضي الله عنه إلى عماله.
وفي (العلماء الأمراء) ذكر أن صلاح الناس وفسادهم رهين بصلاح أو فساد أولي الأمر وهم صنفين: العلماء و الأمراء.[16]
وفي ( وازعا القرآن والسلطان) يذكر الكاتب أن وازعي القرآن والسلطان قد انفصلا وانشق بعضهما عن بعض، وأصبحت الدعوة تحت إمارة السيف، بعدما كانت في عهد النبوة متحدة الوجهة مع الدولة، وعلق على قولة سيدنا عثمان:” لما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن” بقوله:” والمنطق الذي يصدر عنه رجل دعوة مثل الإمام عثمان رضي الله عنه هو أن يعتمد وازع السلطان ليكون رادعا لمن يخالف تعليم القرآن”[17]
واستمر في( عبادة النفس) يقرر أنه لما تسلط صاحب اليد والقدرة حامل السيف لا حامل الرسالة، فإنه لا يستعمل السلطان ليزع به من يخالف القرآن[18] لذلك فإن هذا الصنف يتحكم فيه هوى نفسه ويعبدها عوض عبادة الله تعالى، ولبناء دولة القرآن لابد من الدعوة التي تقوم بمهمة التربية يقول الكاتب:” إننا بصدد البحث عن رأب الصدع بين الدعوة والدولة في البناء المستقبل لدولة القرآن، فلا نذهب تائهين في تصور هياكل إسلامية بلا روح، وروح هذا الجسم، جسم الدولة هي الدعوة التي تربي المومنين على هذه المثالية من بذل النفس والجهد كله لله، فالبناء النفسي أساس ترتفع عليه هياكل الدولة القرآنية، وإلا كانت صنما وطاغوتا “[19]
افتتح الكاتب هذه الفقرة (الكيان المعنوي للدولة) وتكميلا لما سبق بأن ” في دولة القرآن تحتل الغاية الإيمانية الإحسانية الصدارة، فتصطف السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتنظيم، وكل كبيرة وصغيرة في كل مجال من مجالات الحياة، في أماكنها النسبية، تأتمر كلها بأمر الدعوة، وتسعى كلها لنشر الدعوة”[20]
وذكر الكاتب أن على الأمة وعلمائها تشخيص دائنا، والاعتراف به، والمتمثل في فساد الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم استيعاب هذا الأمر فإن مستقبلنا يبقى في ضباب، وكل دفاع عن الاستبداد والعض والجبر إنما هو” استلذاذ بالأوبئة التي نهكتنا قرونا حتى أتت إلى كياننا المعنوي فتبعه في الانهيار كياننا السياسي الحضاري”[21]
وكانت الخلافة سحابة يستظل بظلها، فارغة من محتواها وجوهرها وهو” النيابة التامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[22] واستمر إفراغ الخلافة من جوهرها وتشييئها، حتى أصبحت آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الاستحقاق للخلافة:” اتخذت هذه الآثار المباركة رمزا للخلافة فكأنها طلسمات تكسب الحائز عليها سر الخلافة”[23]
وفي(السلطان النصير) يقر أن السلطان عزة وقوة لتمكين الدعوة في دولة القرآن، والسلطان ينصر كتاب الله وحدوده وفرائضه[24]
وذكر في( الإيمان والشريعة) أن الإيمان يحاكم باسم الشريعة من طرف الحكام الظلمة:” باسم الشريعة ينصب بساط التعذيب، وترفع أعواد المشانق…ولا يزال الإيمان الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر يحارب باسم الشريعة”[25] وأصل الكاتب لعلاقة الإيمان بالشرع في دولة القرآن بقوله:” إن سلطان الدولة القرآنية أداة إلزام بالشرع الذي تقتنع به الأمة الحرة في اختيار حكامها، وفي هذه الحالة لا تناقض بين الإيمان والشرع، بل يكون الشرع والإلزام به إطارا يصون الإيمان ويعضده”[26]
وفي فقرة (دولة رسالة) أن دولة القرآن لتكون دولة رسالة لا بد أن تقوم على الدعوة، كما قرر ذلك الشيخ البنا ومحمد الغزالي رحمهما الله، والذين نقل عنهما الكاتب اتفاقهما على هذا الأمر، وأن أعداء الإسلام قد يسامحون ويتغاضون عن الإسلام الفردي الانزوائي، لكن لا يسمحون بالإسلام الرسالي:” لكن الذي لا يتحملونه هو أن تنعقد الصحوة حركة سياسية ثورية تهدف قلب الأنظمة الفاسدة”[27]
الفصل الثاني: ولاية الله ورسوله والمومنين
قال الكاتب في افتتاح فقرة (الدولة القومية):” بعد أن رسخ عندنا أن الكيان المعنوي للدولة وهو بمثابة الروح من الجسد، والمعنى من الحرف، ننظر إن شاء الله إلى الركيزة الأساسية في بناء دولة القرآن، ألا وهي العنصر البشري وروابطه.”[28]
وفي الكلام على الدولة القومية ذكر أنها تنبني على” العصبية للجنس واللغة والتاريخ والتكتل القومي الحزبي”[29] وبذلك تضيق القومية عن الاجتماع الإنساني، عكس المقترح الإسلامي الذي جاء ليمحو كل هذه الفوارق الضيقة،” لتسود معاني الفطرة، ووحدة المخلوقين أمام الخالق”[30]
ويستمر الكاتب في( القومية مرض غربي) في فضح القومية ويستدل على ذلك بكلام إنسان معاصر، أسلم بعد مناصرته سنينا طويلة للاشتراكية، ومحاولة نقض دعائم الرأسمالية، وهو رجا جارودي، الذي اعتبر وحدة الإيمان هي صمام الأمان للمجتمع المسلم، وأن القومية مرض غربي دخيل على المسلمين، وأن الديموقراطية تقتضي الصراع بين الإفراد والجماعات، أما الشورى فهي شورى رجال ليس تربطهم العلاقات الأفقية والمنافسة، بل تربطهم علاقة كل منهم بالله عز وجل،
يقول الكاتب في تعليقه على كلام رجا جارودي:” هذه الصفحة تصور مواقع طموح الإنسان المعاصر، كما تمثل عصارة تجربة الحضارة المادية التي فشلت وستفشل لابتعادها عن دين الله، وتعويضها علاقات الأخوة الإيمانية بعلائق الاستكبار، والمنافسة العدائية، واحتقار الضعيف، والعدوان على الشعوب، تقطع ما أمر الله به أن يوصل، وتصل ما أمر الله به أن يقطع”[31]
وفي (ولاية الله عز وجل) ذكر الكاتب أن ولاء القوميين للدم والعرق واللغة والأرض والتاريخ…، لذلك ينبغي للمومنين أن يتميزا عنهم بالإخلاص والولاية لله وحده، وبعد تدقيقه اللغوي لمعنى كلمة “ولي” وربطها بأصولها القرآنية يقول:” وتتضمن كلمة ” ولي” الواردة في القرآن بصيغ فعلية متعددة، وبصيغ مصدرية، وبصيغ اسم المفعول، معاني الانتساب، والقرب، والعقيدة، والنصرة”[32]
وبهذا التدقيق اللغوي للكلمة حتى لا تختلط بمفردات أخرى كالبيعة، يوضح لنا معنى الولاء لله بقوله:” فنرجو أن يتضح لنا أن الولاية والولاء والموالاة هي لله أولا وقبل كل شيء. ومعنى ذلك أن نحب في الله ونبغض فيه، وأن نحب فيه سبحانه كل عبد، أو جماعة، تدين له بالإخلاص، أي بالولاية، وأن نبغض فيه كل عبد أو جماعة تنتسب إلى غير الله، وتعتز بغير الله، وتنصر غير الله، وتستنصر بغير الله، وتعتقد ألوهية غير ألوهيته سبحانه”[33]
وجعل ولاية الله للمومنين وولاية المومنين لله وهي موصولة بولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاية المومنين ” روابط موصلة بين كل عبد عبد وبين ربه، وبين جماعة المومنين وبين ربهم، وبينهم من فرد لفرد، ومن فرد لجماعة، وبينهم وبين رسولهم، ولكل صلة من هذه الصلات ما يليق بها من مقتضيات العقيدة، والانتساب، والقرب، والنصرة، والصداقة، وتولي الأمر، أي أن هذه الروابط تستوعب وتغطي مجالات العبادة، والتنظيم الاجتماعي، ونظام جماعة المسلمين وهم حزب الله، والاقتصاد، والتدبير العسكري، والسياسة، والحكم، وسائر مناحي النشاط البشري”[34] هذه الروابط والصلات تنقذ الإنسان من أغلال عبوديته للبشر وأهوائه وأفكاره وفلسفاته.
في (الحب في الله والبغض فيه[35]) فمقتضى الولاية في الله هو الحب في الله والبغض فيه، لذلك على المومنين أن لا يتركوا الهوى أو الاعتبارات النفسية أو المصلحية هي التي توجه تصرفاتهم، لأن ذلك يتناقض مع الحب في الله والبغض في الله، ثم وضع الكاتب مسارا عاطفيا ومنهاجا عمليا يحدد للمؤمن كيفية التعامل مع أصناف البشر:” أساسه وحدة العقيدة أو اختلافها، اتحاد الوجهة والنسبة أو افتراقهما”[36]
وفي( إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض) قرر الكاتب أن موطن الفساد والخلل اليوم هو انحلال الولاية في الله بين المومنين، وأضاف ولاية أخص من الحب في الله والبغض فيه، وأخص كذلك من الولاية العامة بين المومنين الواردة في قوله تعالى” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ “(التوبة:71) وهي “الولاية الجهادية التي توجب التناصر بالأموال والأنفس”[37] وهو ما استنبطه من (الآيات : 72-73-74-75) من سورة الأنفال، و”أن هذه الولاية الجهادية بين المومنين تقابل وتواجه وتقاتل الولاية بين الكفار، فإذا تعطلت هذه الولاية تعطل الجهاد لغياب أسبابه، فوقع الفساد في الأرض بتناصر الكفار على ولايتهم”[38] و” أن صلاح جماعة المسلمين وهم المجاهدون من المهاجرين والأنصار، يقدم على مصلحة الإطراف من المجتمع الإسلامي”[39] وأن ولاية دوي الأرحام “لا تتنافى مع ولاية الإيمان ولا تعوضها بل تؤيدها”[40]
وفي (الهجرة والنصرة) أضاف الكاتب معنا جديدا للهجرة النبوية ” كانت الهجرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلة من مكة أو من منزل القبيلة إلى دار الهجرة، نقلة من مكان لمكان تترجم عمليا تحول الولاية من العشيرة والقبيلة والأرض والمألوف إلى الله ورسوله والمومنين والمستضعفين، وهم المستضعفون على الدين المظلومون”[41]
(هل انقطعت الهجرة؟) أجاب الكاتب عن هذا السؤال بإيراده عددا من الأحاديث، استنبط منها ” أن الهجرة باعتبارها انحيازا إلى الله ورسوله، وباعتبارها ولاية للمسلمين وكفا عما نهى الله عنه ماضية كالتوبة لا تنقطع إلى يوم القيامة.”[42] وأخرج الكاتب معنى آخر للهجرة والنصرة بقوله:” فإذا حولنا نظرنا من ذلك العهد إلى هذا الزمان رجعنا بفائدة أن الهجرة والنصرة انتقال المسلم الخامل من أعرابيته إلى الاهتمام بمصير الأمة، وحمل همها، والانضمام إلى جند الله بعد قطع حبال الجاهلية وعصبياتها، وولاءها”[43]
وأضاف مؤكدا هذا المعنى” المهاجر إذن والأنصاري هو من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، أو جاء لجماعة المسلمين المجاهدة، فتعلم دينه، وتجند حتى أصبح مؤهلا لحمل الرسالة وتبليغها، وتقلد عهدتها، ومن تخلف عن الجهاد فهو من أطراف المسلمين، محمول، قاعد، عالة، ولمن بقي على أعرابيته أحكام تناسب مرتبته، ذكر منها ابن العربي عدم استحقاقه شيئا من الفيء، وعدم صحة إمامته بالحاضر، وإسقاط شهادته على الحاضر”[44]
(أولو الأرحام) في هذا الفصل قرر أن الولاية تكون لله ولرسوله وللمومنين، لكن الكاتب تساءل عن موقف الإسلام من الروابط الاجتماعية: النسب والقرابة والصداقة والانتماء للقطر والجهة…. وأجاب أن الرحمة تغطي كل الروابط البشرية[45] وأنه إذا تعارض الولاء لله ورسوله والمومنين مع الولاءات للقبيلة والأنانية والقطرية، والوطنية، وما هنالك، فيطرح كل ذلك ويقاتل ويستأصل”[46]
لكن ختم هذا الفصل بملحظ دقيق يدل على فقه الرجل وعلمه ومرونته الفكرية:” وخلاصة القول إن حدود الولاء لا تمر كالصارم البتار تقطع الصلات البشرية كما يقطعها الانتماء الثوري للطبقة، بل ينفتح الإسلام رحمة واعدة بمستقبل الأخوة”[47]
الفصل الثالث: جماعة المسلمين
جعل تحت هذا الفصل تسع فقرات، (من فارق الجماعة) ذكر الكاتب بعض الأحاديث التي يساء فهمها والتي تتعلق بلزوم جماعة المسلمين وإمامها، واستنبط منها معاني تصحح الفهم وتقومه، نذكر منها قوله: أن الفقهاء أجمعوا على واجب” إقامة إمام المسلمين ومن ثم وجوب بناء جماعة للمسلمين”[48]
(العالمية والقطرية) في هذه الفقرة أجاب الكاتب عن إشكال أرق العاملين للإسلام من دعاة وحركات إسلامية، بل شوش على ذهن العامة والخاصة، ومفاده لماذا هذا الاختلاف في المناهج الفكرية والتربوية والتنظيمية، لو أن هذه التنظيمات والمناهج الدعوية اجتمعت في تنظيم عالمي عوض العمل القطري، اعتبر الكاتب هذا الوقف “سذاجة معها طيبوبة”[49] وذكر أن العلماء والمربين انقسموا حول هذه القضية ” إلى فريقين: فريق يريد البناء من فوق فيذكر بعالمية الدعوة، وعموم الرسالة، وفريق يطرح المصاعب العملية ويشير ببدء البناء من تحت، من الركائز القطرية ليقام عليها بعد صرح الإسلام وقبته”[50]
وذهب الكاتب مع المذهب الثاني، وذكر جملة مصاعب للبناء من فوق، منها إعجاب البعض بنموذجه وفرضه على الأمة بحجة أسبقية التصدي، وهو رأي الشيعة في إيران ” في إيران يقول الشيعة إن ولاية الفقيه ملزمة للأمة كلها ويقولون إن الفقيه صاحب الولاية هو أسبقهم للتصدي أي الذي سبق فبرز في الأمة قائدا وانتصر”[51]
ورد الكاتب على هذه الدعوى بقوله:” واعتباره النموذج الأوحد مما يتنافى مع الشورى والإجماع، خاصة وللمذهب الشيعي وعقيدته وعاداته من الخصوصيات ما لا نقبله بوجه نحن أهل السنة والجماعة سواد الأمة”[52] وذكر الكاتب أنه كلما حصلت حركة:” على إجماع الأمة كان منهاجها هو المنهاج وأمرها هو الأمر، بعد أن تنضم إليها قوى الأمة الحية وتنضم هي إليها”[53] عوض العصبية وفرض الرأي الاجتهادي والمنهاج الحركي السياسي التربوي التنظيمي.
لكن الكاتب رغم أنه يتبنى رأي العمل القطري إلا أنه يقترح خطة عمل تصب في طريق العالمية، كأنه رأي توفيقي بين المذهبين يقول:” عالمية واحدة ممكنة وواجبة في انتظار الإجماع المرتقب نضجه إن شاء الله، وهي عالمية التنسيق والتآزر والدعم وتبادل المعلومات والرأي وتوحيد الأهداف الجزئية وتقريب الشقة. وواجب كل قطر سبق للتحرر أن يخصص كل فضول ماله وقوته وحيلته لنصرة المسلمين المجاهدين”[54]
(من هم جماعة المسلمين؟) بعد أن ذهب الكاتب مذهب القائلين بالعمل القطري ولكي لا يتبادر إلى ذهن القارئ أن الكاتب يدعوا إلى التجزئة قال:” معاذ الله أن نكون ممن يرضون بالتجزئة، فأحرى أن ندعو إليها باسم قطرية العمل في مراحل التحرير”[55] ثم أكد على مشروعية سؤال: من هم جماعة المسلمين؟ وناقش مبدأ الخلاف في تاريخ المسلمين أنه كان مع سيدنا عثمان رضي الله عنه، لما سمح للمهاجرين وللعلماء المسلمين بالتفرق في البلاد والأمصار، وانقطع إليهم الناس فكثرت الآراء واختلفت، ف” شكل كل عالم من علماء الصحابة نواة جماعة علمية ودعوية تربوية”[56]
عكس ما كان عليه الأمر في عهد عمر ابن الخطاب حيث منعهم من الخروج من المدينة ” إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد”[57] وفي إطار ذكر الكاتب لمشروعية هذا السؤال يدعوا القارئ للتأمل في الإمراض التي دخلت على الأمة في تاريخها، لينتهي للتساؤل عن جماعة المسلمين:” مر بذهنك على هذه القرون وفتنها، وما دخل على الأمة من وهن، وما توالد من مدارس، وما نشأ من خلاف، وما حدث من لعب السياسة بالدين، وما طرأ من خمول وموت على الهمم، ثم حط رحلك مع المتسائل من إخوانك عن جماعة المسلمين التي تقدر ويحق لها أن تعيد للوجود دولة القرآن”[58]
وفي(فقه المسألة) تابع الكاتب موضوع الإجابة عن السؤال الذي طرحه قبل، أن المتصدر للإجابة عن هذا السؤال يحتاج فقه دقيقا، و نقل عن الإمام الشاطبي مذاهب الفقهاء في تعريف الجماعة الناجية في كتاب الاعتصام، مختصرا منه خمسة آراء في المسألة، الرأي الأول: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، والثاني: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، والثالث: جماعة الصحابة على الخصوص، والرابع: هي جماعة أهل الإسلام، والخامس، أنها الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة.
لكن الإمام الشاطبي بعد ذكره لهذه الآراء خلص إلى رأي جامع وافقه عليه الكاتب وزاد عليه في قوله:” ونحن بعد ستة قرون من زمان الشاطبي رحمه الله، نتصفح معه آراء أئمة الفقه في موضوع الجماعة الناجية، فنتفق معه في منطوق اجتهاده من أن جماعة المسلمين هم العلماء المتصدرون لقيادة العامة، وأن الاعتبار لهم أولا والسواد الأعظم لهم تبع، وخلف هذا المنطوق المشترك نفهم غير ما يتوقع أن يقصده من كان في مثل ملابسات ذلك الزمان، نلتمس من وراء هذا المنطوق المشترك سنة تنافي البدعة والضلالة منافاة شاملة في ميادين الحكم كما تنافيها في ميادين الاقتصاد والقسمة، كما تنافيها في العقيدة والتعبد، ونلتمس جماعة يقودها علماء مجتهدون ومجاهدون جامعون مجندون كما كان المهاجرون والأنصار جامعين مجندين”[59]
(النواظم الثلاث للجماعة) افتتح هذه الفقرة بقوله:” لا يصح إطلاق اسم جماعة المسلمين وإسم أمير المومنين إلا عندما يتأتى إجماع علماء الأمة المهاجرين الأنصار، ومن ورائهم سواد الأمة موافقا مؤيدا، على هيئة إسلامية ولو تعددت في إطارها التنظيمات”[60] يؤمهم إمام واحد وبهذا يكون الانتماء لجماعة المسلمين المنجي من الميتة الجاهلية هو انتماء الولاء، وانتماء التهيؤ، وانتماء تركيز الجهود للوصول إليها.
وأن على كل منتمي في أي تنظيم عليه أن يعمل لمستقبل وحدة جماعة المسلمين، ثم ذكر الكاتب النواظم الثلاث في الطريق إلى وحدة جماعة المسلمين بقوله:” 1- الحب في الله والبغض في الله، هذا هو المعنى القلبي للولاية.2-الشورى وإجماع الرأي والاتفاق على الخطة العامة، وهذا معناها العقلي، ولا ينقدح الخلاف في الفروع والأسلوب بين تنظيمات العاملين في الإجماع المطلوب على الخطة العامة.3 – الطاعة للقيادة، وهذا معناها وشرطها العملي التنفيذي الجهادي”[61]
ثم يقترح الكاتب ثلاث قضايا للتنسيق بين التنظيمات الإسلامية في أفق المستقبل:” قضية تهذيب النفوس، وترفيع الهمم، وتصقيل القلوب، لنحب كل مجاهد ونتوق إليه، ونعتاد اعتباره عضوا من جسمنا، ثم قضية ترفيع الفهم، وتحرير العقل من عوائق الطائفية والمذهبية، ليتفاهم جند الله المنبثين في أرض الله على كلمة سواء، ثم قضية كسر الحواجز النفسية التي تحجب عنا أننا أمة واحدة من المحيط إلى المحيط، بل في الأرض جميعا خلفاء لله، وتنسينا عظمة الإسلام، وضرورة توحيد دار الإسلام تحت راية واحدة وإمام واحد في دولة القرآن”[62] ويرجع الكاتب مرة أخرى ليعطي للقارئ مبررات العمل القطري بأن أهل كل قطر أدرى بشعابه وأقدر على مخاطبة الناس بلسانهم.
(الجماعة القطرية) وفي هذه الفقرة يؤكد الكاتب أن الدعوة إلى العمل في شكل الجماعة القطرية أو الرابطة القطرية المؤلفة من تنظيمات متعددة ليس مناقضا لوحدة جماعة المسلمين إلا ” أن تكون القطرية حلا دائما، وكيانا يراد له البقاء في التجزئة:[63] ويضيف أن الدعوة إلى ذلك لما يحققه العمل بهذا الأسلوب من سهولة التنظيم القطري في التعاطي مع الأحداث بالمرونة والسرية، والتي قد لا يحققها التنظيم والعمل العالمي، كما أنه لا يمكن بل من الصعوبة تحرير كل الأقطار الإسلامية مرة واحدة، بل لا بد من التدرج في ذلك.
وعلى هذا ينبغي أن تتكون الجماعة القطرية أو الرابطة القطرية المؤلفة من تنظيمات، وتكسب ثقة الشعب ليجيء بعد ذلك أسلوب القومة:” الذي يرجع في خطوطه الكبرى إلى اتحاد الشعب على مواجهة دولة الباطل:” إما بالإضراب العام، أو الفوز في الانتخابات.
( الجماعة الواحدة والتعدد) ذكر الكاتب أن توحيد التنظيمات داخل القطر قي تنظيم واحد أو في رابطة تنظيمات متعددة مطلب ملح”[64] فإن تعذر التوحيد فالمطلوب مساندة التنظيم الأكثر نجاحا وتوفيقا.
ثم يؤكد الكاتب على أنه بعد القومة ينبغي الإيمان بالاختلاف والتعدد سواء داخل الصف الإسلامي أو خارجه، يقول الكاتب بخصوص الإيمان بالاختلاف مع المخالف خارج الصف الإسلامي:” فالموقف الأذكى الموافق للشرع الإسلامي هو إفساح المجال لمن خالفنا في الرأي ليطرح ما عنده”[65] ويقول بخصوص المخالف من داخل الصف الإسلامي:” ومن ثم فهي مرحلة يحتمل فيها التنظيم المتصدي الوجود الأخوي لزملائه في الجهاد، وجودا يسمح لهم بالتعبير، والتحرك، والمشاركة في اختيار رجال الشورى والحكم، في انتظار توحيد حزب الله القطري في رابطة إسلامية تستقل في إطارها التنظيمات وتتعاون”[66]
( المعارضة المخربة) يقول الكاتب أن الديمقراطية الجاهلية إذا كان من مميزاتها إعطاء حق التعبير للجميع، فإن للشورى تفوقا حاسما إذ أن النظام الشوري أول ما يفرض هو الحق في التعبير، بل يفرض على كل مسلم أن يمارس حقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويؤكد الكاتب أن حرية التعبير لا تعني فتح الباب للمفسدين والمعارضين للحق والعدل:” لا بد من تطويق عمال التخريب وأجراء الهدم، ويبقى الصادقون ممن لهم سابقة جهادية أو ممن لحقهم بإيمان، فلهؤلاء الحق في إبداء رأيهم، ونقد الحكومة، وطرح برامجهم البديلة داخل تنظيم الجماعة القطرية أو الرابطة القطرية، يتألفون إلى داخلها من أبواب الولاية الثلاث: التحاب في الله، والتفاهم مع حرية الاجتهاد، ثم الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر”[67]
( الإسلام دين جماعة) يقصد الكاتب أن الإسلام يدعو إلى الاجتماع والألفة وجمع الكلمة، ويتجلى ذلك من تشريعاته كالصلاة والجمعة والعيدين والحج…، وزاد الكاتب هنا عما ذكره في المنهاج النبوي عن عضوية الجماعة وشروطها ومراتبها من التربية والتنظيم والزحف، أن الجماعة أو الرابطة القطرية بعد توليها الحكم، ينبغي أن تجند الشعب في اتحادات، تربط بين الجماعة الأم والسواد الأعظم بأعضاء ذوي السابقة:” فمن خلالها ينتشر في الشعب حتى قواعده تأثير الجماعة وتربيتها وتجنيدها”[68]
الفصل الرابع: القيادة
قسمه الكاتب إلى عشرة فقرات الفقرة الأولى(مرحلتان) ذكر الكاتب أن الجماعة الطليعة واحدة في قطر أو متعددة داخل رابطة[69] تمر بمرحلتين، المرحلة الأولى: تأسيس الجماعة ويبرز أشخاص هم آباء الجماعة وأمهاتها، لأنهم يملكون الشجاعة في الحق، والعلم بالواجب الشرعي، والغيرة على الأمة، ومن هذه القيادات يظهر لنا رجل قيادي رباني، لكن يجب أن لا يحجب الأتباع عن القائد الحقيقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرحلة الثانية، مرحلة الرشد وهي مرحلة أوان الشورى واختبار الرجال.
(العدد والتنظيم) يقول الكاتب:” إن الجماعة أو رابطة جماعات متعاونة متعاقدة، القادرة على إبطال الباطل وإحقاق الحق هي الجماعة المكتملة البنية المتينة الارتباط”[70] وأن العبرة ليست بالكثرة أو القلة، لكن العبرة بالسواد الأعظم مع نظام وتجنيد، أي مع قيادة محبوبة ومربية ومطاعة[71].
ويؤكد أن على جسم الجماعة المجاهدة أن يقاوم ويدافع ويجمع شمل المسلمين، لذلك ينبغي أن يكون فولاذيا، والمقصود بالتنظيم أن يسلك السواد الأعظم في سلك النواظم الثلاث: التراحم والتحاب في الله، والشورى والإجماع على رأي واجتهاد، والطاعة لأولي الأمر منا، ويتم تعيين القائد الرباني أهل الحل والعقد من الأمة.
(قيادة قوية لمواقف رديئة) يقول الكاتب:” تتضاعف أعباء القيادة برداءة المواقف التي توجد فيها الدعوة، وانحطاط السواد الأعظم خلقا وعلما ودينا وغياب معاني الولاية والجهاد من أفق إسلام الخمول”[72] ويحتاج هذا السواد إلى قيادة تصنع منه سيفا بتارا.
( الإمام قطب الأمة) ذكر الكاتب أن الأمم في الماضي واليوم توصلت إلى ثلاثة أنظمة للحكم، ذكرها واختار واحدا منها وهو اختيار قيادة منتخبة يقول الكاتب ” …1- استبداد فردي فيه مزيد هلكة للشعوب المغلوبة على أمرها، ومن أنواعه ملكنا العاض والجبري. 2- قيادة جماعية، في زعمها، لا تلبث واجهتها أن تتكشف عن المنقذ الجبار كما وقع في روسيا، أو تستمر في نوع من الفوضى الديمقراطية العامة كما هو حال إيطاليا منذ سقوط موسوليني. 3- قيادة شخصية منتخبة مسؤولة أمام الشعب وممثليه، وإلى هذا انتهت حكمة الشعوب ومنه كان ابتدأ تاريخ الخلافة الراشدة وإليه يعود إن شاء
الله تعالى”[73]
( قيادة رصينة لعالم مضطرب) يقول الكاتب أن الولاية الإيمانية هي أساس العلاقة بين القيادة والقاعدة يقول الكاتب:” فقوة القيادة ورصانتها، واستمساكها مع القاعدة استمساكا واثقا ينبني على الولاية الإيمانية لا على الوعود البراقة والخطب الرنانة”[74] وتمتحن هذه الولاية في نواظمها الثلاث عندما تشتد الأزمات، وتكثر المشاكل، وتشن الحروب على الصف.
( ولو اتبع الحق أهواءهم) يذكر الكاتب أن السواد الأعظم بعد القومة ينتظر الرخاء الاقتصادي والاجتماعي..، لكن هذا الأمر لا يتم على طبق من ذهب بل لا بد من اتخاذ الأسباب، يقول الكاتب:” هناك وعد الله عز وجل بالتوفيق وإغداق النعم والبركات على كل قرية آمن أهلها واتقوا، لكن هذا الوعد مرتبط باتخاذ الأسباب”[75]
وذكر الكاتب مأساة الانقلابات ومهزلتها في استيلاء زمرة من الضباط وقبضهم على رؤوس النظام، ثم منهم من تدفعه غيرة حقيقية ومنهم المغامر قانص الفرص، ثم بشرى تزف للشعب ووعود وحماس، ثم تختفي من المسرح وجوه وتظهر وجوه، ثم يبرد الحماس وتخلف الوعود ويخيب الأمل في أوساط الشعب[76].
ويقول الكاتب للخروج من هذه المهزلة الانقلابية، يحتاج جند الله إلى أن تكون صورة ما ينتظرهم واضحة ومهامهم معروفة:” خاصة مهمة المجلس القيادي، خاصة مهمة القائد الإمام”[77] ويؤكد ذلك بأن قاعدة القومة هي الكريهة أي أن القومة هي حمل الناس على ما يكرهون، على جند الله أن يحملوا الناس على حزم البطون ويعطوهم القدوة في ذلك.
ويذكر الكاتب كيف تنظم العلاقة بين القائد الإمام وبين جند الله بقوله:” القائد الإمام له الطاعة وعليه الشورى وبما أنها كريهة فقد أعطاه الشرع أن يطاع في المنشط والمكره وأعطاه الشرع أن يطاع ولو اعتبر جندي من جند الله أن حقا له أهمل… الإمام تحمله على الاستقامة يقظة الجند وواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يحملهم على الجادة بواجب الطاعة في المنشط والمكره وأثرة عليهم”[78]
ثم ذكر الكاتب مستعينا بكلام ابن تيمية في أن واجب الراعي الإحسان إلى الرعية والرفق بهم، وليس الرفق والإحسان هو فعل ما يهوونه، بل فعل مصلحتهم الدنيوية والأخروية، والرفق بهم في ما يكرهونه.
( القرار للقائد الإمام) يذكر الكاتب في هذه الفقرة أن الإمام يستشير لكن تبقى له العزمة الحاسمة لقوله تعالى:” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”( آل عمران:159) اجتنابا للعنت والتعب لقوله تعالى:” وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ”(الحجرات:7) والعنت هو التعب كما نقل الكاتب عن السيوطي في “الدر المنثور”.
(أمراض الجماعة) بعد حديث الكاتب عن الولاية العامة( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله) المستنبطة من قوله تعالى:” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “(التوبة: 71) والولاية الجهادية( الهجرة والنصرة، الإيواء والجهاد) المستنبطة من قوله تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ”(الانفال:72)
ذكر الكاتب الأمراض التي تقدح في إيمان عضو الجماعة: الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، والإعجاب بالرأي، والإخلال بشعب الإيمان البضع والسبعون، والوقاية والعلاج منها هو ذكر الله، والاستغفار، والإنابة، وأضاف:” وهناك مرضان رئيسيان يتربصان كل جماعة بشرية لاسيما إن تولت الحكم، وهما العجب المستكبر، وبطانة السوء”[79] وهما الفقرتان التاليتان وبهما سيختم هذا الفصل بل يختم الكتاب.
(العجب) ذكر الكاتب في ما نقله عن الإمام علي رضي الله عنه أن
العجب بالنفس، والثقة بها، والثقة بما يعجب منها، وحب الإطراء، من مداخل الشيطان، يقول الكاتب:” فإن النفس الطاغوتية تحب من يتملقها ويطريها، ويزايد في الإشادة بفضائلها المزعومة”[80]
وبهذه الإشادة والإطراء ينشأ عندنا طواغيت ومستبدين:” وتتعاشر الطاغوتية فيتكون الملأ المستكبر. تتكون شرذمة تطأ رقاب العباد تستأثر بالأموال، وتفتك بالمعارضين، وتستعبد لنزواتها وشهواتها كل إمكانيات الدولة”[81] لكن علاج هذا الأمر كما يقول الكاتب:” وتلافيا لمثل هذا أوجب الله علينا التآمر بالمعروف والنهي عن المنكر…”[82]
(البطانة) في هذه الفقرة تكلم الكاتب عن بطانة القائد الإمام، وقسمها إلى ثلاث أقسام: بطانة تأمر بالشر وتحض الإمام القائد عليه، وعلى الإمام الحذر من هذا القسم وفي ذلك يقول:” وعلى كل من حمل مسؤولية من المومنين أن يتعرض لحفظ الله عز وجل بالاحتياط الدائم الشديد من المتملقين وأهل الخبال والفساد”[83] والقسم الثاني هم البطانة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وهي التي تقي القائد شر القسم الأول يقول الكاتب:” ولا مهرب للولاة ولا للقائد الإمام من أخطار البطانة إلا بفتح الأبواب لممثلي الأمة، وتشجيع المتظلمين على كشف ما يدور حول القيادة وفي ظلها مما يخالف الحق”[84]
وبهذا نكون قد أتينا على نهاية هذه الجولة الممتعة مع ما خطه عالم ومجدد من أعلام هذه الأمة، نسأل الله أن ينفع به، وأن يتقبل منه.
سبحان الذي تتم بنعمته الصالحات
[1] – والدليل على ذلك قول المقدم للكتاب:” وأرجو أن يضع القارئ الكريم كلام الأستاذ عبد السلام ياسين، وهو يعالج أمورا من تاريخ المسلمين المعاصر، في سياق هذه الفترة الزمنية، أي منذ ثلاثين سنة خلت” جماعة المسلمين ورابطتها ، ص: 12.
[2] – جماعة المسلمين ورابطتها، الاستاذ عبد السلام ياسين، ص: 80، دار لبنان للطباعة والنشر، ط/1،(1432-2011)
[3] – نفسه: ص: 16.
[4] – نفسه: ص: 16-17.
[5] – ص: 17.
[6] – ص:18
[7] – ص: 18-19.
[8] – نفسه
[9] – نفسه
[10] – ص: 20.
[11] – نفسه
[12] – ص:20-21.
[13] – ص: 22.
[14] -نفسه
[15] – ص: 23-24.
[16] – ص:25
[17] – ص: 26.
[18] – ص: 27
[19] – ص: 28-29.
[20] – ص: 29.
[21] – ص: 30.
[22] – ص:31.
[23] – ص: 32.
[24] – 34.
[25] – ص: 36.
[26] – نفسه.
[27] – ص:38
[28] – ص:43
[29] – ص: 43
[30] – ص:43
[31] – ص:46
[32] – ص:50.
[33] – ص:51
[34] – ص:52.
[35] – وهو معنى الولاية في الله.
[36] – ص:53.
[37] – ص:55.
[38] – ص: 56.
[39] – نفسه.
[40] – ص: 57
[41] – نفسه.
[42] – ص:59.
[43] – ص:60
[44] – ص:61.
[45] – ص:62
[46] – ص: 63.
[47] – نفسه.
[48] – ص:68
[49] – ص: 69.
[50] – ص:69.
[51]– ص:71
[52] – نفسه
[53] – ص: 72.
[54] – ص:72.
[55] – نفسه.
[56] – ص:74
[57] – القولة لسيدنا عمر ص: 73
[58] – ص:74.
[59] – ص:78
[60] – ص:79
[61] – ص:80
[62] – ص: 82
[63] -83
[64] – ص: 85
[65] – ص:86
[66] – ص:87
[67] – ص:88
[68] – ص:89
[69] – ص:93
[70] -ص:94
[71] – ص:94
[72] -ص:96
[73] – ص:98
[74] – ص:100
[75] -ص:104
[76] – 104
[77] – ص:105
[78] – 106
[79] – ص: 114.
[80] – ص:115
[81] – ص: 115
[82] – نفسه
[83] – ص:116.
[84] – ص:117
اترك رد