صدر للباحث في مجال الفقه وأصوله الدكتور سعيد اجديرا كتاب بعنوان: التقعيد الفقهي والمذهب الظاهري، بمجهود شخصي، مع تأطير من نقابة الأدباء والباحثين المغاربة ضمن منشورات أمنية.
مقدمة الكتاب:
الحمد لله على الهداية لطلب العلم، لاستيعاب مصادره الشرعية وقواعده الكلية. والصلاة والسلام على رسول الله، الذي ضبط جزئيات الشريعة بكلياتها، لتكون صالحة لكل زمان ومكان وحال.
أما بعد: فهذا بحث يتناول المذهب الظاهري، الذي يُعتبر أكثر المذاهب تَقيدا بالنصوص الشرعية، لا يتجاوزها إلا إلى الاستصحاب باعتباره امتدادا لها. فصار مذهبا سُنيا من مذاهب أهل السنة والجماعة، لا من المذاهب الضالة عقَديا. ثم عُدّ ضمن المذاهب الفقهية المتداولة، فصارت خمسة لا أربعة لا غير.
وعكْس اعترافات المنصفِين بِمكانة المذهب الظاهري في الفقه خصوصا والفكر الإسلامي عموما، لَقي معارضة شديدة سواء في عصور سابقة أو الآن، لدرجة جعلته من أكثر المذاهب معاناة من الخصوم. فاعتُبرت مدرسته الأصولية، شاذة أمام مدرستي الجمهور والحنفية الأصوليتين المعروفتين، في حين أن الصواب النظر له بموضوعية بلا اقتصار على نقائصه. والنظر أحسن في ظل المشروع المنشود تَحقيقُه، بفقه يعتمد على كل المذاهب المعتبرة، لا فقه مذهبي يتقيد بالمذهب الواحد.
فالمطلوب استيعاب آراء الظاهرية لتقويمها، لا تفصيل الرد عليها فقط. ثم هي بالخصوص، لم تفرض مكانتها عمليا، بل ظلت غالبا مجرد أفكار نظرية في تصانيف. فلم تُمارَس واقعاً على نطاق واسع، في حين أن التطبيق هو المحك الحقيقي لكل مذهب. لذا كل المواضيع التي تعالج مسألة إعادة الاعتبار للمذهب الظاهري، مهمة لكسْر الحواجز النفسية التي تُعيق الاستفادة من إيجابياته الصائبة بعد تدعيمها ومن سلبياته الخاطئة بعد تقويمها.
لقد لزمت معاملته بِموضوعية تامة، من خلال مناقشة كل حالة على حِدة تَبعا لِمنهجه العام. والمُلزِم أكثر أن أفراده كابن حزم، تَحَلّلوا من التقيد بآراء الجمهور أو بأفكار الأغلبية. فكانت عطاءاتهم الفكرية جديرة بالاعتبار، خصوصا لعدم استلزام رأي أكثري بالضرورة صوابه وإنْ كانت الكثرة في الغالب تُرجح الصواب. ثم مع أن مُسوِّغ عدم الاعتداد بالقول الشاذ لقلة القائلين به، لا يمس الظاهرية دون غيرهم، فالمطلوب عدم إقصاء سائر فكرهم مادام فيه من الصواب الكثير.
إذنْ ينبغي البحث في المذهب الظاهري، بقصْد تقويم منْهجه وتفعيل فِكره للاستفادة منه. فتُستثمر إيجابياته، بعد تصحيح سلبياته. ولن يتأتّى المبتغى له، إلا بدعم مكانته بين المذاهب المعتبرة. فظهرت تدريجيا حركة بعضهم لإنصافه، إلا أنها لم تَصِل بعدُ إلى مستواها الأمثل، مادام الاهتمام به لازال نظريا أكثر منه تطبيقيا.
وهذا التعامل مع الظاهرية، أضحى مطلوبا في العصر الحالي لاستمرارها بانحرافاتها إلى الآن، بل صارت أكثر انحرافا عند المُتمسكين بظواهر النصوص دون منهج تام ومتكامل كالمنهج الظاهري. فيكون في إظهار حقائقها، معالجة لكل المظاهر غير السليمة التي تعلقت بها قديما وحديثا، مما أثار الاهتمام لدى كثير من الباحثين في عصرنا الحديث.
وسبب الاهتمام بالفقه الظاهري، أنه تربوي حيث يرَبي على الالتزام بالنصوص عند وجودها، وعلى عدم الإلزام عند صمت الشريعة. فيتحقق بهذا الفقه توازُن فكري بفضل منهجه المنضبط، الذي يؤدي إلى حصر منطقة التشريع وتقليص مجال الاختلاف. والمثير للاهتمام، أن له آراء رائدة وإضافات مهمة، جديرة بالدرس والتحليل. لكن إيجابياته لا تُغطي أبدا سلبياته، إذ تبقى الدراسات الهادفة إلى تقويمه مطلوبة لاستيعابُه وفق كُل لا يتجزّأ.
خاتمة الكتاب:
ظهر اهتمام مُتزايد بنظرية التقعيد الفقهي، في سياق مشروع فقه الكُليات، الذي يتطلب تكثيف الجهود العلمية. فكان هذا البحث، لَبنة من لَبنات المشروع الأساس لانتظام الفقه الإسلامي، سواء القديم منه أو الحديث.
وإن استيعاب مصطلحي التقعيد الفقهي والمذهب الظاهري، أساس لِضبط مدى التفاعل بينهما. فيلزم استحضار مميزات كل منهما، لتحصيل خُلاصات صحيحة بالنسبة إلى التقعيد الفقهي في المذهب الظاهري.
ومع أن القواعد الفقهية التي يتفاعل معها المذهب الظاهري أكثر من غيرها، تنحصر في تلك التي ترتبط بالنصوص الشرعية أو بِمجال العفو التشريعي، فدراستُها تُسْهِم كثيرا في استفادة التقعيد الفقهي من سائر مذاهب الفقه. فيكون من أهم الخلاصات، وجوب انصراف الاهتمام إلى كل القواعد، بمشروع فقهي منفتح لا مذهبي منغلق.
إن أهم نتيجة على الإطلاق، إذ لو تَم الاكتفاء بها وحدها لكَفَت ببُعدها التوحيدي، هي لزوم تَجديد الفقه الإسلامي. لكن التجديد المقصود، هو الذي يسير في اتجاه كل المذاهب. فيحتكم إلى جميع مذاهب الفقه المعتبرة، دون استثناء لبعضها كالمذهب الظاهري، أو اكتفاء بعَرْضها دون تَخلُّص من المذهبية الضيقة، التي تنغلق على نفسها داخل مذهب مُعيّن.
وفي ظل اجتهاد المذاهب المنشود، تَنشط حركة الاجتهاد سواء الفردي منه أو الجماعي، إلا أن الجماعي مطلوب أكثر. فيتم التعامل بِموضوعية تامة، سواء مع المذهب الظاهري أو مع غيره. ويُقوَّم إجماليا وتفصيليا، للاعتماد على صوابه والاعتبار من خطئه، مثله مثل سائر المذاهب الأخرى المعتَد بها. وللإنصاف، فعدة أقوال له أُخذ بها، في اختيارات فقهية لدى قوانين دول معاصرة. فما بقي سوى الاتِّصاف بالموضوعية، إلى أقصى حد لاستثماره أحسن.
ثم بِجانب النتيجة المذكورة، توجد نتائج أخرى سواء بالنسبة إلى المذهب الظاهري أو بالنسبة إلى التقعيد الفقهي. فكانت لتفاصيل أبحاث الموضوع نتائج متعددة ومتنوعة، لأنه يتطلب عدة تَحقيقات لمسائل مهِمة وتصويبات لأخطاء منتشرة، من أجل تصحيح تصورات غير صحيحة عند قلة أو عند كثيرين.
وفي الختام، إنما تَرِد بعض النتائج، باعتبارها تهُم المنهج الظاهري في التقعيد الفقهي أكثر من غيرها. ثم وُرودَها الإجمالي، لا يُغني عن تفصيلاتها وتفصيلات غيرها في ثنايا البحث. فكان من أهمها، ما يَلي:
1) إعادة القراءة لفقه ظاهري، بطريقة جديدة مؤسسة على التقعيد الفقهي، إذ هو فقه موغل بواقعه في النصوص كثيرا، إلا أنه مرتبط ضمنيا أو صراحة بقواعد فقهية، رغم عدم بروزها فيه أحيانا. فصار من المهم، إبرازها وإبراز مدى تفاعله وأثره فيها، على عكس ما قد يُظن غالبا.
2) إبراز خصوصيات التقعيد الفقهي في المذهب الظاهري، على إثر مقارنات تُوازن بينه وبين باقي المذاهب الفقهية. فبقدْر ما تَميّز في استنباط الأحكام من الألفاظ الشرعية، باعتماده على الظاهر تبعا للمعنى اللغوي لا غير، تَميّز في القواعد الفقهية التي هي أحكام شرعية إلا أنها كُلية. وبقدر ما تَميز في الأدلة الشرعية بانفراده بما سمّاه الدليل، فقد كان يُجسِّد عنده بالتأكيد أحد روافد التقعيد الفقهي، الموافقة لمنهجه أكثر من مناهج غيره. ثم بقدر ما تَوسع في الاستصحاب، فقد كان فيه وفي قواعده كذلك، متوسِّعا حسب منهج ظاهري أكثر من مذاهب أخرى، ليُعوض قلة الأدلة المعتبرة عنده. وهذا الواقع بالذات، هو الذي يُفسر كثيرا من مواقفه الفقهية، التي انفرد فيها عن غيره.
3) إنه مذهب متميز، ساير في التقعيد عموما منهجَه الظاهري. فكانت القواعد الفقهية المعتبرة فيه، إما مبنية على النص أو على الاستصحاب، سواء كانت عامة أو خاصة. ثم تلك المبنية على الاستصحاب، هي التي تَحتاج إلى تفصيلات، لأن الأخرى نالت مع نصوصها الشرعية حظها من التفاصيل في جميع جوانبها.
4) هذا المذهب يُعد في فئة للقواعد، مشتركة بين المذاهب الفقهية. وإنما تَميز بتعامله معها حسب منهجه النصي، لوجود اختلاف بين أصوله وأصول غيره. فلابد أن يقع اختلاف كذلك في الفروع، التي تُعتبر القواعد الفقهية صورة كلية منها. وإذا كان لكل مذهب قواعده، فلِمذهب الظاهرية منهجه الخاص فيها قطعيا. فلم يتقيد إلا بِما يوافق خصوصياته، مِما أثمر فقها تقعيديا متميزا عن غيره غالبا. وصارت في الواقع، عدة مسائل محسومة فيه تماما.
5) في الغالب يكون متميزا عن باقي المذاهب، رغم موافقته أحيانا لقاعدة أو لفروعها، بسبب منظومته الفقهية المغايرة تَماما. ومرتكزاته المختلفة أدت إلى مواقف فريدة، تكون إما صائبة أو فيها انحراف. فوجب التعامل مع حصيلته الفقهية بِموضوعية تامة، من أجل استثمار الصائب فيه وتقويم الخطأ.
لقد كانت هذه بعض نتائج البحث العلمية، وبعضها الآخر مبسوط فيه. وكل ما أصبت فيه، فمن عنده سبحانه وفضله علي، فليُدعم. وكل ما أخطأت فيه، فمن عندي، فليُصَوب.
فأرجو من الله عز وجل، أن يكون الصواب أكثر من الخطأ. وآخر دعوانا بعد الصلاة والسلام على سيد المرسلين، أن الحمد لله رب العالمين، الذي يُوفق لطلب العلم عبادَه المخلصين.
اترك رد