حوار الحضارات: مقدمات منهاجية – تجربة الأستاذ محمد فتح الله كولن

<

p dir=”RTL”>تمهيد :

يقول محمد إقبال رحمه الله في ديوانه :

بنا لبس العشق ثوب الجمال ففاض على الكون طيبا وحسنا

وفطرة بنــــي آدم في كل حي روتها الخلائق عنـــا

تعلمت الأمم النهاضــات من الشرق علما ودينا وفنا

رفعنا الحجاب عن الكائنات فنحن الشمس والشمس منا

إن الرؤى والأفكار والنظريات والمشاريع التي تتسم بالشمولية والواقعية والقصدية يندر أن تجد لها آثارا في واقع الناس ، ليس لعدم صوابيتها ولكن لعجز الناس عموما والأتباع خصوصا عن استيعاب مبادئها وتمثل قيمها ، فتتحول سلوكات وأفعال هؤلاء الناس-في الكثير من الأحيان- إلى قبور لهذه الرؤى والنظريات على حد تعبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى.

غير أن نظرية وأفكار الأستاذ فتح الله كولن استطاعت أن تجمع بين العلم والعمل بين المثالية والواقيعة، بين العقل والقلب ، بين رسالة السماء وحاجات الأرض.

وقد نجح الأستاذ فتح الله كولن بما وهبه الله تعالى من أسرار وأنوار وعمق إيمان ونفاذ بصيرة أن يحقق ثلاثة أمور لم يبرع فيها إلا النزر اليسير من الدعاة والمصلحين على مر التاريخ الحديث والمعاصر للأمة الإسلامية وهي:

1-الفهم العميق والصحيح لهذا الدين وإبراز معالمه بشمولها وهيمنتها،وبيان أركانه ورسالته الخالدة التالدة بأهدافها ومقاصدها، لقد استطاع أن يجدد الدين باعتباره منهج حياة متكامل من غير إفراط ولا تفريط، وأعاد له سموه ورقيه وجماليته.

2- أن الأستاذ لم يكتف بالتنظير والكتابة والتأليف، وإنما اتجه إلى تزكية الأنفس وتوعية العقول وتربية الرجال الذين يحملون هذه الرسالة بكل وعي ومسؤولية وإحسان ،رجال أحبوا دينهم فاجتهدوا في تبليغه ونصرته، وأحبوا وطنهم فبذلوا أرواحهم فداء له، وهاموا في أمتهم فضحوا بأموالهم وأوقاتهم لرفعتها ونهضتها، فشرد من شرد وسجن من سجن واستشهد من استشهد ، كل ذلك لم يزدهم إلا حماسا والتزاما وثباتا على نفس النهج،قال تعالى :(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[1]، وهذا الأمر يؤكده الأستاذ في جميع كتاباته بضرورة الجمع بين الحال والمقال ، بن القول والفعل “لكي يكون الناصح مقنعا عليه أن يطبق نصائحه على نفسه أولا ويعيش معها ويمثلها…وهذا على ما اعتقد هو السبب وراء تأثير النصائح بالأمس وعد تأثيرها اليوم”[2].

بل أكثر من ذلك اتجه إلى مأسسة هذا الحوار من خلال فضاءات ومؤسسات أشرف على تأسيسها وتوجيهها وعلى رأسها :” وقف الصحافيين والكتاب”[3] والتي كان لها الفضل في تتنظيم العشرات من الندوات والمؤتمرات الحوارات سواء البينية بين الفرقاء الأتراك أو مؤتمرات عالمية بين أتباع الديانات والحضارات.

3- أن مشروع الأستاذ المجدد والإحيائي لا يستهدف أمة الإسلام فحسب وإنما جاء للبشرية جمعاء من أجل إخراجها من المآزق والأزمات التي تتخبط فيها،ولاشك أن أهم هذه الآزمات صراع الحضارات الذي تمظهر على شكل كتابات وتأصيلات ثم صدامات وتحاملات وإذايات في كثير أماكن العالم، وهذا الأمر لم يكن ليرق الأستاذ فانبرى لمد جسور التواصل وفتح قنوات الحوار بين جميع التوجهات والمرجعيات والأفكار في سبيل الإنتقال من ذهنية الصراع إلى ذهنية التعايش ومن أسلوب الشجار إلى أسلوب الحوار ومن مضايق الخلاف إلى آفاق الإختلاف والإئتلاف،يقول الأستاذ:”إن شعوب العالم لفي حاجة إلينا نحن معشر المسلمين،إذا نحن مثلنا ديننا وحضارتنا حق التمثيل،ونحن لا عذر لنا اليوم في عدم التواصل الإيجابي مع الآخر ، وعرض نموذجنا الإسلامي الراقي،في أسواق العالم الثقافية. بيد أن أولى الخطوات أن نتواصل فيما بيننا نحن أبناء الأمة الواحدة أولا”[4].

إن هذه المقالة هي محاولة لتقديم مقدمات منهاجية لحوار الحضارات وتعايشها انطلاقا من قراءات متواضعة لكتابات الأستاذ فتح الله كولن،و لقد استلهم الأستاذ هذه المعاني من القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة، ومن التجربة الإنسانية سواء كانت للمسلمين أوغيرهم. ويمكن أن نحدد هذه المقدمات المنهاجية في أربع مقدمات:

1-مسؤولية الإستخلاف وتبليغ رسالة السماء: إن الأستاذ يعتبر حوار الحضارات بما هو تواصل وتحاور وتناظر مع أصحاب الأفكار والنظريات الأخرى سوء أكانت سماوية أو وضعية إنما هو قيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الحق ، بل ويعتبر هذه المسؤولية جهادا :” ولا يخلو مجتمع أو أمة -في أي عصر من العصور- ممن هم بحاجة ماسة إلى الإرشاد والتبليغ. لذا فالمؤمنون الذين يعيشون مع هؤلاء الذين يجوبون في وديان الضلالة ويبحثون عن طريق للخلاص ويضيّعون حياﺗﻬم في سبيل العدم، مضطرون إلى أداء فريضة الجهاد مع هؤلاء الذين يشاركوﻧﻬم العيش في سفينة الحياة الواحدة. فهذا فرض في أعناقهم من حيث كوﻧﻬم بشرًا. ومن جهة أخرى فهو فرض ألقاه الله عليهم وكتبه لهم. فكل إنسان مكلف بأداء هذه الفريضة ضمن إطار موضعه وموقعه وأحواله، وحسب إمكاناته وطاقته. وبخلافه يكون حسابه عسيرًا يوم الحشر الأكبر” (5). ولذك نجد الاستاذ ينوه بأولئك البشريون المتميزون الذي يتحملون اداء هذه الأمانة بقوله:” ومع أن ممثلي هذه الرسالة السامية – التي تتطلب شعورا بالغا بالمسؤولية وإرادة مكينة وشخصية متينة- مع أن هؤلاء بشر من أمثالنا … لكنهم بشريختلفون ويتميزون عن غيرهم في قوة عزمهم وإيمانه ، وحدة استقامتهم وعلو أمانتهم ،وغاية شعورهم بوظيفته، وشدة حرصهم على رضا الحق تعالى وثبات مواقفهم….وولعهم بدعوة الناس إلى السراط المستقيم،كانها غريزة فيهم ، فلا يقر قرارهم ولا يعرفون سكونا،إلا الإرشاد …الإرشاد! (6)، وهذا التبليغ يقوم في نظر الأستاذ على ثلاثة أسس وهي:

أ‌- النظرة الشمولية

ب‌- عدم انتظار الأجر

ج- ترك النتائج لله تعالى[7]

2- الحرية :إن الأستاذ يعتق اعتقادا جازما بان حرية الفكر والرأي والعقيدة والفهم والتأويل من اهم نعم الله على الإنسان فهو إذ يحاور الآخرين يتقبلهم كما هوم دون إكراه أو احتقار او إقصاء ،بل ويعتبر الحرية:” بالنسبة للإنسان هي الارتباط بالفكر الحق ، وعمل ما يرغب فيه بشرط عدم إيذاء الآخرين”[8]، ويؤكد بأن الحرية:هي التي تحرر الفكر الإنساني من كل قيد يمنعه من الرقي المادي والمعنوي بشرط عدم السقوط في وهذه اللامبلاة أو الانفلات من الشعور بالمسؤولية”[9]، قلت :إن هاته المعاني السامية هي انعكاس لنور القرآن في مرآة قلب الأستاذ ، فالله تعالى يقول “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” وقوله تعالى :” فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر “

3- حسن الظن بالآخر وحسن القول معه: لقد كانت إجابة الأستاذ على السؤال الآتي : كيف نتصرف تجاه إخوتنا الذين انحرفوا عن الدعوة وأصبحت علاقتهم بها باردة؟ خير دليل وبرها على أنه يحرص على ضم القريب وتقريب البعيد بلغة أهل التربية والدعوة والجواب طويل نقتصر على فقرة منه”:هناك إخوان لنا فترت علاقتهم بالدعوة لأسباب شتى. ويمكن أن يقع هذا الأمر في كل وقت، ولكنهم مع ذلك يبقون إخوة مؤمنين بالنسبة لنا. وكل ما يستحقه المؤمن من منـزلة واحترام حسب تعاليم القرآن والسنة يكون جارياً بالنسبة لهم وينطبق عليهم. إذن فالمقياس هنا -كما في كل شيء آخر- هو القرآن والسنة. لا نستطيع أبداً أن نغتابهم، لأن الغيبة حرام، وتعد مثل أكل لحم الأخ، أي يستوي هنا قيامك بإهانته قولاً أو فعلاً وبين سلْقه في قِدر ثم أكل لحمه. هناك حالات تجوز فيها الغيبة، وكتب الفقه تشرح هذه الحالات بالتفصيل، إلا أنني لا أوافق على الاقتراب من تلك الحالات ومن تلك الحدود. فالقليل من الناس من يستطيع التصرف بتوازن في تلك الحالات.

فليس من الصحيح قيام كل شخص باستعمال ذلك الحق والاقتراب من تلك الحدود. هذه ناحية من نواحي هذه المسألة، أما الناحية الأخرى، فهي أن ما نقوله بحق ذلك الأخ سيصل إلى أذنه في يوم من الأيام، فيكون هذا سبباً في ابتعاده عنا أكثر فأكثر. ولكوننا نحن المتسببين في هذا فالمسؤولية تعود إلينا. وليس هذا بالإثم الهين، ذلك لأنه ما من شخص يملك صلاحيةَ إبعادٍ وحقَّ وحرمانَ أيّ فرد من هذه الدعوة ومن هذه الخدمة الإيمانية المباركة. وقد لا يكتفي هذا الشخص بالابتعاد عن الدعوة التي كان في السابق يُفديها بروحه، بل ينقلب عدوّاً لها. ولما كانت الخصومة للدعوة الحقة ذنباً كبيراً وعظيما فإن المتسبب في مثل هذه الخصومة سينال الإثم نفسه[10]. إن الأستاذ شديد الحساسية تجاه هذا المرتكز لإنه يعلم علم اليقين أن سوء الظن يؤدي إلى نتائج مدمرة على مستوى العلاقات الإنسانية ، أما حسن القول فهو يفتح القلوب ويخاطب العقول ويقدر المشاعر دون امتهان او اتهام او احتقار.

4- الإنصاف والموضوعية: بماهو خضوع للحق ونشدان للحقيقة وتسليم للصواب ، لأن الحوار غالبا ما يخضع لعوامل خارجية تحول دون تحيق أهدافه ، والحوار الناجح هو الذي ينطلق من رغبة ذاتية في داخل كيان المتكلم والمخاطب ، خالية من جميع ما يكتنفها من ظروف زمكانية أو وجدانية، ولذلك نجد الأستاذ يدعو إلى احترام الأفكار أيا كان مصدرها “الإنسان العاقل ليس هو الإنسان الذي يدعي عدم وقوعه في الخطا أو يدعي عدم حاجته إلى أفكار الآخرين ، بل العاقل من يعرف ان الخطأ خصلة بشرية، لذا يتوجه إلى تعديل أخطائه و تقييم الأفكار المختلفة ويستفيد منها”[11].

بهذه المرتكزات الأربع خاض الأستاذ تجربة رائدة للحوار والتناظر والنقاش العميق بين مختلف التيارات الفكرية والمرجعيات الثقافية داخل تركيا، وفتح نافذة للتواصل والتفاهم مع أتباع الديانات على المستور الإقليمي والدولي، وقد لقيت مبادراته الكثيرة في قبولا من طرف الداخل والخارج . ولايتسع المجال لإعطاء بعض الأمثلة في هذه المقالة المقتضبة .

وحسبنا أن الأستاذ أبدع في هذا المضمار بحسن خلقه وصدق قوله وعذوبة بيانه وشوق قلبه، وغزارة علمه وسعة صدره وجميل صبره، فأنار الطريق بالنور الخالد، وأوضح السبيل بطرق الإرشاد، وقدم الجواب الكافي في أسئلة العصر المحيرة .

والحمد لله رب العالمين


[1] – سورة الأحزاب الآية23

[2] -الموازين او أضواء على الطريق ص190

3-أسس سنة 1994 بتشجيع من الأستاذ ويحوي اليوم سبع منتديات تعنى بالحوار:مندى أبانت،منتدى الفن والثقافة،منتدى الصحفيين،منتدى حوار الأديان، منتدى المرأة،منتدى البحث العلمي،منتدى أوراسيا(أنظر:”البراديم كولن ” د,محمد بابا عمي ص 191 وما بعدها

[4] – ملحق مجلة حراء عدد خاص ص 20 ،سنة 2012.

[5]-روح الجهاد وحقيقته في الإسلام ص14

[6]— مجلة حراء ص5 العدد: 29 مارس – أبريل 2012 ،المقال الرئيس : الوقفة النبوية بين يدى الله وحيال الإحداث، فتح الله كولن

[7]– النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية ص138،139،140

[8]– الموازين ص96

[9]- نفسه ص 96

[11]-الموازين أو أضواء على الطريق ص110


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ uعبد الحميد
    uعبد الحميد

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
    الحب و البغض ’الخير و الشر’الحق و الباطل,….؟
    كان لازاما علينا أن نعيش في ظل هذه المتغيرات هما فسطاطان لا ثالث لهما.
    على حد تعبير المدرسة البوشية
    “إن لم تكن معنا فأنت ضدنا” و بالأضداد تعرف الأصحاب.

اترك رد