في كتابه “دفاع عن الإنسان” يشكك الدكتور المسيري في مصداقية شعار”إعلان حقوق الإنسان”،ليس من منطلق معاداة هذه الحقوق، وإنما لإدراكه بأنها قاصرة إلى حد ما، ولأن هذا الإعلان جعل الفرد المنعزل البسيط(الإنسان الطبيعي البرجوازي) نقطة البدء والانطلاق، وقد اقترح في المقابل”إعلان حقوق الأسرة” (الأسرة بحسبانها وحدة اجتماعية أساسية مركبة)، ولعل الحقائق الخاصة بالأطفال غير الشرعيين بعد الثورة الفرنسية(وفي أوربا منذ ذلك التاريخ، وفي كل العالم بعد ذلك) قد تعطي شيئا من الترجيح لهذا المفهوم البديل، فمن الواضح أن حقوق الإنسان لا تتضمن الأطفال الذين لم يولدوا بعد !
والأطفال غير الشرعيين هم نتاج ذكر وأنثى استمتعا بـ”حقوق الإنسان الفرد” وحرياته كما حددها الغرب في لحظات لم يفكرا في أثنائها في حقوق الأطفال. ولا يمكن أن نصدر إعلان حقوق الإنسان ثم نحاول الآن إصدار إعلان تكميلي بحقوق المرأة ثم نصدر إعلانا ثالثا لحقوق الأطفال وهكذا، إن هذه العملية تبدو عند الدكتور المسيري غير عقلانية بالمرة لأنها أهملت في البداية الوحدة التحليلية الاجتماعية الحقيقية الواحدة، وهي أن الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا ينتمي إلى أسرة ومجتمع، وأحلت محله الإنسان بوصفه ذرة منعزلة، كائنا مكتفيا بذاته.
من خلال هذا المنظور يتبين بجلاء أن التعاطي العلمي والمنطقي ، بل والإنساني يقتضي نقد منظومة الأفكار التي تصدرها دوائر السلطة والقوة والصراع في العالم لباقي الدول، وهذا النقد جدير بان يتوجه بكل أشكال التعرية لشعارات هذه المنظومة لأنها من دون شك لا تنفك عن الرغبة الصريحة والمضمرة في تثبيت السيطرة على باقي دول العالم من خلال الطوفان الإعلامي والآلة التسويقية للمتحكمين في القدرة والإرادة والفعل.
إن تأملا عميقا في مجريات الرسائل التي تقصفنا بها من غير توقف الآلة الإعلامية الهيمنية الغربية في موضوع حقوق الإنسان وقدسيتها المبالغة في عالمنا المعاصر تجعلنا نرتاب في صدقية هذه الرسائل، ونشكك في جديتها مع ما نراه يوميا من تحامل عالمي على قضايا العالم العربي والإسلامي، ومع ما نراه من مساندة عمياء للصلف الإسرائيلي على حساب قضية شعبنا في فلسطين، فأين حقوق الإنسان مما يجري في هذه البقعة المنسية من العالم، وأين هي حظوظ الإنسان الفلسطيني صاحب الحق من حقه في أرضه وحقه في الأمن وحقه في السكن وحقه في السفر وسائر حقوقه، أين هي منظومة حقوق الإنسان العالمية من حق الفلسطيني في العودة ليعيش فوق أرضه وتحت سمائه.
إن تجاوز هذا المنظور الضيق من التركيز على حقوق الإنسان الفرد كما تطرحه المنظومة الرسمية العالمية وتقديم تصور متحيز مختلف مبني على تفكيك النموذج الإدراكي الأول قمين بأن يضع الآخر أمام امتحان المقاصد الحقيقية من جوقته التي يريد لها أن تستنبت في كل أرض باعتبار كونيتها مع ما رأيناه من عظيم نسبيتها ومحدودية أدائها ومردوديتها.
إن تركيزنا على حقوق الأسرة هو النموذج التحليلي البديل الذي يكشف الحرص الإنساني على مفهوم التراحم الجماعي أو مجتمع التراحم وقيم التعاون والتساند بديلا عن النموذج المادي القائم على وحدانية الفرد وتأليه الفرد وعبادة الفرد، وهي كلها نماذج لا تنتج سوى صقيع في العلاقات الإنسانية وتفكك شعوري وحالة من الاغتراب النفسي لإغراقها في حب اللذة الأنانية وتقديمها على المصالح الجمعية .
فحقوق الإنسان بالمنظور الفردي الواحدي مع ما حققته بالأرقام من حد للشطط في استعمال السلطة في بعض المجتمعات وامتثال للقانون فقد رفعت بالمقابل معدلات الانتحار وقضت مع الوقت على رصيد كبير من الاحترام للآخر ولميولاته واختياراته وآرائه ومعتقداته، لأنك لا تستطيع أن تفصل واقع تأثير حقوق الإنسان عن حالة التنزي والشراسة المفارقة التي تصاحب ممارسة الحرية بدون قيود وبدون ضوابط وبدون اخلاقيات(يتبع…).
اترك رد