بقلم: مؤمن بسيسو
وأخيرا، تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود إزاء حقيقة المخطط الانقلابي الذي أعاد الجيش المصري إلى دفة صنع وتوجيه السياسة والقرار في مصر بعد أقل من عام على الإقصاء المحسوب للمجلس العسكري، ومنعه من التدخل في الخارطة السياسية المصرية.
وبالرغم من محاولة الجيش التدثر بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من مختلف الفرقاء على الساحة المصرية خلال الأيام الأخيرة، فإن الانقلاب الذي نفذه الجيش مساء الأربعاء، وعزل بموجبه الرئيس مرسي قبل أن يتم اعتقاله بشكل مهين، واتخاذ قرارات ضبط واعتقال بحق عدد كبير من قادة جماعة الإخوان المسلمين، ومحاصرة تظاهرات الجماعة والاشتباك معها والاعتداء عليها، ووقف بث بعض القنوات الفضائية المؤيدة للرئيس والإخوان، قد حسم الجدل المفتعل حول موقف الجيش وانحيازه التام إلى صف المعارضة، وتجاهله التام للشرعية الدستورية التي حازها الرئيس المنتخب محمد مرسي عبر صناديق الاقتراع.
وفي الوقت الذي حسم فيه الرئيس مرسي ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين الخيار باتجاه رفض الانقلاب وخارطة الطريق التي رسمها الجيش للخروج من الأزمة، واستعداده لدفع حياته ثمنا للشرعية الدستورية التي جاءت به عبر صناديق الاقتراع، ودعوته الجيش والشعب المصري لرفض الانقلاب، وفي الوقت الذي شهد انتشار وتوسع أعمال العنف في بعض المحافظات المصرية، وخاصة الاعتداءات المتكررة على أنصار مرسي والإخوان التي شهدت إحدى فصولها المرعبة أمام جامعة القاهرة، وما تلاها من الإجراءات التعسفية التي بدأها الجيش بحق الرئيس وجماعته، فإن المشهد المصري دخل عمليا في نفق مظلم وخطير، وبدأ يؤول إلى السواد الحالك شيئا فشيئا وسط الهوة الكبيرة والفجوة الواسعة في إطار مواقف المؤيدين والمعارضين.
وهكذا، فإن الجيش أصبح، فعلا وواقعا، القوة الأولى في مصر التي تملك القدرة على تحديد مسارات المرحلة المقبلة، والورقة الرابحة في سياق إعادة تشكيل المشهد المصري الطافح بحرب الميادين المقرونة بتجييش سياسي وتحريض إعلامي لم تعرف مصر له نظيرا من قبل.
السطور التالية تشكل محاولة لقراءة تضاريس الواقع السياسي المصري في ظل التطورات والمستجدات الأخيرة التي قلبت الموازين، وجهدا تحليليا يستهدف رسم مقاربة سياسية لسيناريوهات الأحداث ومآلاتها المحتملة.
انقلاب مكشوف
لم يترك الجيش المصري مجالا للتأويل بشأن حقيقة نواياه مع بيانه الأول الذي انحاز فيه نحو ما أسماه الإرادة الشعبية الباهرة التي جسدتها تظاهرات وحشودات المعارضة يوم 30 يونيو/حزيران، وأنذر فيه الفرقاء بفرض خارطة طريق ما لم يتوافق المؤيدون والمعارضون على كلمة سواء خلال 48 ساعة.
ولا ريب أن الملاحظة الأهم التي غلبت على البيان الأول للجيش تكمن في أن قيادة الجيش لم تكتف بتشخيص صعوبة المرحلة والمخاطر المحدقة بالوضع المصري ككل، بل إنها أشادت بقوة بالحراك الشعبي للمعارضة ورأت فيه تعبيرا عن الإرادة الحرة للشعب المصري، في الوقت الذي لم تُعر فيه أي اهتمام للحراك المقابل الخاص بدعم الرئيس مرسي، وهو ما شكل قدحا مباشرا في الشرعية الدستورية التي حازها الرئيس مرسي عبر صناديق الاقتراع، واصطفافا إلى جانب طرف سياسي على حساب الطرف الآخر، كما أفرز غيابا للتوازن في التعاطي مع الأزمة المصرية الداخلية، بما يمهد الطريق أمام خارطة طريق تلبي مطالب المعارضة على حساب الطرف الآخر.
لم تقل قيادة الجيش المصري في بيانها الأول كلمة واحدة عن ضرورة احترام الشرعية الدستورية التي تأسست أصلا على الإرادة الشعبية الحرة، وشكلت عباراتها التي صيغت بعناية شديدة اختزالا مخلا للوضع المصري القائم على الانقسام السياسي والشعبي، وهو ما يعني تكريس سابقة بالغة الخطورة في الحقل المصري الذي يستحث الخطى نحو التحول الديمقراطي المنشود، وإلغاء لقواعد وأصول الحكم الديمقراطي الذي يعتمد مبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع لا غير.
وإن شئنا التجرد والموضوعية، فإن المشكلة لا تكمن أساسا في تدخل الجيش لحسم الاستقطاب السياسي الحاد بين الأحزاب والقوى السياسية المصرية، ووقف الجنوح المدمر نحو العنف والتخريب والفوضى وإراقة الدماء وشل وتعطيل مقدرات الدولة، بل إن تدخل الجيش يمكن تجرعه وهضم حراكه حال تحليه بالتوازن والوقوف على مسافة واحدة من أطراف الأزمة المصرية.
وكان لافتا أن تدخل الجيش تقاطع مع تواطؤ أمني داخلي بدت تجلياته في انخراط أعداد كبيرة من العناصر المنتسبة للأجهزة الأمنية المصرية في حشود وتظاهرات المعارضة، وصمت مطبق على الجرائم الخطيرة التي ارتكبت بحق مقرات الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وقتل بعض عناصر الإخوان في بعض المحافظات المصرية في مشاهد مفجعة نقلتها وسائل الإعلام تحت سمع وبصر القوى الأمنية المصرية التي اكتفت بالتفرج ومراقبة الأحداث.
وحين يعلن الجيش عن خارطة طريق قوامها عزل الرئيس ونزع الشرعية عنه وتعيين رئيس المحكمة الدستورية بديلا عنه لمدة معينة ريثما يتم إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وتعطيل العمل بالدستور، وحل مجلس الشورى، وتشكيل حكومة كفاءات جديدة، وإجراء انتخابات برلمانية، وغيرها من الخطوات والإجراءات، فإن ذلك يعني تمركزا لا لبس فيه في خندق المعارضة، وتماهيا مع مطالبها المرفوعة من الألف إلى الياء.
وإذا ما تدارسنا بعمق تفاصيل وخلفيات المخطط الذي وضعته المعارضة لقطف ثمار يوم 30 يونيو/حزيران الماضي عبر إسقاط الرئيس مرسي، وتلازمه مع التصريحات المتكررة لبعض أقطاب المعارضة التي تحدثت بثقة عن الأيام المعدودات التي تبقت من حكم الإخوان، وبعض المواقف الإقليمية والدولية التي جاهر بعضها بدعم المعارضة بشكل سافر في مقابل مواقف أخرى بدت على استحياء، فإننا يمكن -حينها- أن نضع نقاط الأزمة على حروف المخطط المرسوم لإسقاط الرئيس مرسي، ونُحسن فهم وتفسير تحرك الجيش وانقلابه في هذا التوقيت بالذات، وإعلانه خارطة الطريق الخاصة بعبور المرحلة القادمة، ما يؤشر إلى حجم التحضيرات المسبقة لإنجاز المخطط المرسوم، ومستوى الإنضاج الداخلي المصحوب بالتهيئة وتوفير قاعدة القبول الخارجية.
السيناريوهات المحتملة
قبل التوغل في مسار السيناريوهات المطروحة ينبغي الإشارة إلى أن تضاريس الفكر السياسي الإخواني لا تحتمل -بحال- فكرة الانقلاب تحت أي شكل كان، ولم يحدث أن مارس الإخوان النهج الانقلابي منذ نشأة وتأسيس الجماعة عام 1928م وحتى اليوم.
من هنا يمكن تفسير سر تمسك الإخوان بحقهم في استمرار ولاية الرئيس مرسي حتى نهاية دورته الدستورية البالغة أربع سنوات، ورفضهم أي مساس بشرعية الرئاسة مهما بلغت الضغوط والتحديات.
لذا، فإن حساسية الإخوان إزاء الأسلوب الانقلابي كفيلة بتقريب أبعاد وتفاصيل الصورة المتوقعة لما ستؤول إليه الأحداث على أرض مصر خلال المرحلة القادمة، وتوفير أرضية موضوعية لبسط السيناريوهات المحتملة وآفاق التعاطي الإخواني مع البدائل والمخارج المطروحة للأزمة خلال الأيام القادمة.
ويمكن القول إن سيرورة الأحداث في مصر تمضي في اتجاه سيناريوهين اثنين لا غير.
ويكمن السيناريو الأول، وهو الأكثر رجحانا، في استمرار افتراق المواقف السياسية بين جماعة الإخوان من جهة، والجيش والمعارضة من جهة أخرى، وذلك عقب الانقلاب الذي نفذه الجيش وإجراءاته التعسفية بحق الرئيس وجماعة الإخوان وقياداتها الأساسية، مع بقاء دورة العنف بأشكال ووتائر مختلفة بين الطرفين على المستوى الميداني.
فيما يتمثل السيناريو الآخر في استمرار افتراق المواقف السياسية بين الطرفين، مع انسحاب أنصار الرئيس والإخوان من الشوارع وجنوحهم نحو التهدئة الميدانية.
المآلات والتداعيات
يتخوف الكثيرون من مآلات وتداعيات الأحداث على الساحة المصرية، وهناك من يستدعي النموذج الجزائري الذي أعقب تدخل الجيش الجزائري إثر فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجولة الأولى للانتخابات عام 1991م، وأسفر عن حرب أهلية طاحنة دمرت مقدرات الدولة وهتكت النسيج المجتمعي، وما زالت بعض آثارها ماثلة حتى اليوم.
واستنادا إلى السيناريو الراجح الذي يفترض استمرار التدابر والافتراق المصحوب بالعنف يمكن تقدير الأوضاع المصرية على النحو التالي:
أولا: على المستوى الميداني:
لن يكون صعبا توقع زيادة وتيرة أعمال العنف والبلطجة في مختلف المحافظات المصرية، فما جرى خلال الأيام الماضية يشكل عينة بسيطة مما يمكن أن يكون عليه الحال في الأيام القادمة، فيما سيعمد الجيش إلى تضييق الخناق أكثر فأكثر على الإخوان من جهة، والعمل على تأمين مؤسسات الدولة والمنشآت الحيوية والإستراتيجية من جهة أخرى.
ثانيا: على المستوى السياسي:
من المتوقع أن تشهد الساحة المصرية مواجهة بالغة السخونة والخطورة على المستوى السياسي، وخصوصا في ظل شعور المعارضة بالانتشاء إثر اصطفاف الجيش إلى جوار مطالبها، وتنفيذه لمخطط الانقلاب على الرئيس، وتوالي المواقف الإقليمية والدولية المؤازرة لانقلاب الجيش وحراك المعارضة.
وفي ظل التطورات والمستجدات الأخيرة يمكن الجزم بأن الجيش والمعارضة وضعا الرئيس مرسي والإخوان دون شك في خانة التسليم الكامل بلا قيد أو شرط.
وغنيّ عن القول إن رفع الراية البيضاء لا يندرج في إطار الفهم والأدبيات والسلوكيات الإخوانية، ما سيعمد إلى تعميق الأزمة المصرية وإطالة أمدها إلى فترة قد تزيد أو تقصر بحسب خطورة الأوضاع والتطورات.
ثالثا: على المستوى الفكري والإستراتيجي:
لعل الخطر الأكبر الذي ينتظر الإسلاميين ومعارضيهم من العلمانيين والقوميين والليبراليين واليساريين والأقباط يكمن في سقوط المشتركات الإستراتيجية، وذهاب إمكانيات وعوامل التوافق والالتقاء التي تتيح للطرفين احترام كل منهما لأفكار ومعتقدات الآخر والتعايش معها، والتكتل الجمعي في مواجهة التحديات الخارجية التي تتربص بالبلدان العربية دوائر الغزو والتهميش والتبعية.
فالمطلع على المشهد المصري يُفجع من هول الوقائع الصادمة وسلوكيات العبث والتخريب والفكر الإقصائي الاستئصالي الذي تتبناه معظم عناصر الطائفة العلمانية والقومية والليبرالية واليسارية والقبطية بحق الإسلاميين بشكل عام، وجماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، ويدرك أن طبيعة ومستوى العلاقة بين الطرفين سوف تتضرر كثيرا ولن تعود إلى سابق عهدها على المديين: القريب والمتوسط على أقل تقدير.
رابعا: على المستوى الدستوري والقيمي والأخلاقي:
من الواضح أن القانون والقيم والأخلاق تشكل الضحية الأبرز لوقائع المعركة الدائرة على الأرض المصرية، فقد امتُهن القانون والدستور بشكل كامل، فيما بلغ الكذب والتضليل والفجور المتجسد في سلوكيات الكثير من الساسة وأهل الإعلام، حدا بالغ الخطورة، ما يجعل مستقبل العلاقات الوطنية داخل الحقل السياسي والحزبي المصري محفوفا بمستقبل مظلم يستند إلى أرضية من الحقد والكراهية وانعدام الثقة بين الفرقاء.
ومن الطبيعي -والحال كذلك- أن نرسم عشرات علامات التساؤل والاستفهام حول مستقبل مصر في ظل عقلية الحقد والبغضاء والإقصاء التي تحكم سلوك البعض، ومدى انعكاسها على قدرة معالجة وتجاوز الأزمات الكبرى التي تواجه مصر خلال المرحلة القادمة، وآمال النهضة والتحديث التي تداعب مخيلة أبنائها المخلصين.
وختاما، فإن إعمال أدوات الفهم والتحليل للمنهج الإخواني، فكرا وسلوكا، وتطبيق فقهي: الموازنات والأولويات، يقودنا إلى استنباط صعوبة استمرار الجماعة في قبول دورة الفوضى والدمار والتخريب الحاصلة، وخاصة إذا ما اتسعت دوائر القتل وسفك الدماء، إذ سينحصر اجتهاد الإخوان حينذاك في تجرع مرارات الانقلاب القائم، والعمل على إطفاء الحريق وإنقاذ البلاد والعباد في نهاية المطاف.
اترك رد