جماليات العجيب في الكتابات الصوفية

نوقشت يوم الجمعة 5 يوليوز 2013 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، أطروحة دكتوراه في موضوع: “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي (ت1090هـ) نموذجا”، والتي أعدها الباحث خالد التوزاني تحت إشراف مزدوج (الدكتور عبد الوهاب الفيلالي، والدكتور خالد سقاط)، وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة الأجلاء:

– الأستاذة الدكتورة سعيدة العلمي رئيسة (كلية الآداب ظهر المهراز)

– الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الفيلالي مقررا (كلية الآداب ظهر المهراز)

– الأستاذ الدكتور خالد سقاط مقررا (كلية الآداب ظهر المهراز)

– الأستاذ الدكتور المفضل الكنوني عضوا (كلية الآداب ظهر المهراز)

– الأستاذ الدكتور عبد الحي العباس عضوا (كلية اللغة العربية، مراكش)

وبعد المداولة قررت اللجنة العلمية منح الباحث خالد التوزاني شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التنويه بهذا العمل الجاد وتعهد بعض أعضاء اللجنة بالعمل على طبع الأطروحة بعد إنجاز التصويبات المطلوبة.

وفيما يلي نص التقرير الذي ألقاه الباحث خالد التوزاني أمام اللجنة العلمية:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين على عونه وتوفيقه.

فضيلة الأستاذة الدكتورة سعيدة العلمي

فضيلة الأستاذ الدكتور المفضل الكنوني

فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الحي العباس

فضيلة الأستاذ الدكتور خالد سقاط

فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الفيلالي

أيها الحضور الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سعيد بلقائكم في هذا اليوم المبارك، وأنا أسعد بأن أَمْثُلَ أمام هاته اللجنة العلمية المباركة، متتلمذا ومتعلما، وأقدم بين يديها تقريرا مركزا عن الأطروحة التي أعددتها لنيل درجة الدكتوراه.

لكن قبل البدء، اسمحوا لي أن أُشْرِكَكُم في شهادة تطوق جيد ﻛﯿﺎﻧﻲ ﻣﻨﺬ ﻣﺪة، ﺷﮭﺎدةٌ ﻓﻲ ﺣﻖ أساتذتي في ماستر التصوف في الأدب المغربي: الفكر والإبداع، ومنهم السادة أعضاء اللجنة العلمية، فقد كان لهم الفضل بعد الله عز وجل في تكويني وإرشادي والأخذ بيدي في مدارج التعلم المستمر والرُّقِي المتواصل في عوارف المعارف.

وإﻧﮫ ﻟـﻤﻦ ﻣﻨﻦ الله ﻋﻠﻰ ھﺬا اﻟﺒﺤﺚ وﺻﺎﺣﺒﮫ، أن تتفضل اﻟﻌﺎﻟمةُ الجليلةُ، الدكتورةُ سعيدة العلمي، ﺑﻘﺒﻮل اﻟﻤﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻲ ﻓﺤﺺ هذا البحث المتواضع، على الرﻏﻢ من اﻟﺘﺰاﻣﺎﺗها اﻟﻜﺜﯿﺮة اﻟﻀﺎﻏﻄﺔ، وھي ﻣﻦ ﻣﻮﻗﻊ ﻣﺴﺆوﻟﯿﺘها اﻟﻌﻠﻤﯿﺔ واﻟﻔﻜﺮﯾﺔ، وأﺣﺲ ﺑﺄن ﻓﻲ اﺳﺘﺠﺎﺑﺘها وﺗﻔﻀﻠها ﺑﺎﻟﻤﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺎﻗﺸﺔ، ﻣﺎ ﯾﺪل ﻋﻠﻰ ﺧﻄﻮرة اﻟﻤﻮﺿﻮع وﺟﺪارﺗﮫ، فلذلك أﻣﻠﻲ ﻋﻈﯿﻢ أن ﯾﻜﻮن ﻓﻲ ھﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﺎ ﯾﺮﺿﻲ اهتمامها وﻣﺎ ﯾﺴﺘﺠﯿﺐ لانتظاراتها، ﻓﺸﻜﺮا ﻟها أن تتولى رعاية أﻣﺜﺎﻟﻲ ﻣﻦ ﻣﺒﺘﺪِﺋﻲ اﻟﺒﺎﺣﺜﯿﻦ.

والشكر موصول لصاحب السماحةِ فضيلةُ العلامةُ الدكتور الحاج المفضل الكنوني الذي توَّج بحثي المتواضع بتفضُّله واقتطاع جُزء من وقته لقراءة البحث وإثرائِه بملاحظاته المُباركة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في عمره ويحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم.

وكذلك أتقدم بوافر الشُّكر والعرفان لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الحي العباس الذي تجشم عناء السفر في هذه الظروف المناخية الصعبة للحضور إلى مدينة فاس، وتكرمه بقبول مناقشة هذا البحث المتواضع وإثرائه بملاحظاته السديدة، على الرغم من التزاماته الكثيرة والضاغطة. أسأل الله أن يبارك في وقته وأن يوفقه لما يحبه ويرضاه.

ﻛﻤﺎ ﻻ ﯾﻔﻮﺗﻨﻲ اﻟﺘﻨﻮﯾﮫ، ﺑﻤﺎ وﺟﺪﺗﮫ ﻟﺪى اﻷﺳﺘﺎذﯾﻦ المشرفين على البحث، الدكتور مولاي ”ﻋﺒﺪ الوهاب الفيلالي“ والدكتور الحاج ”خالد سقاط“ ﻣﻦ ﺛﻘﺔ وﺗﺸﺠﯿﻊ وسخاء علمي؛ فقد دققا النظر وقوّما العمل ولم يدخرا جهدا ولا وقتا في إفادتي وتوجيهي والأخذ بيدي للصواب وللأجود، ولم تبدأ جهودُهما من زمن الإشراف على هذا البحث فحسب، وإنما كانت امتدادا لإسهاماتهم في تكويني العلمي قبل ذلك؛ أي منذ دراستي الجامعية العليا في ماستر: التصوف في الأدب المغربي. ﻓﻠﮭﻤﺎ ﻣﻨﻲ اﻻﻋﺘﺒﺎر اﻟﺘﺎم، واﻟﺘﻘﺪﯾﺮ اﻟﻌﻈﯿﻢ، ﻟﺘﻔﻀﻠﮭﻢ بقبول الإشراف المزدوج على هاته الأطروحة، وﺗﺠﺸﻤﮭﻢ ﻋﻨﺎء تتبع إنجازها وﺗﺪﻗﯿﻖ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ مكوناتها، وﺳﻂ ﻛﺜﺮة اﻧﺸﻐﺎﻻﺗﮭﻢ وزﺣﻤﺔ اﻟﻤﮭﻤﺎت اﻟﺘﻲ طﻮﻗﮭﻢ اﷲ ﺑﺤﻤﻠﮭﺎ. فأسأل الله كما سهَّلا لي كثيرا من العقبات أن يُسهَّل الله طريقهم إلى الجنة وأن يُجري الخير على أيديهم وأن يشملهم بالرعاية التي خص بها المقربين، وجزاهُم اللهُ خير ما جازى به أُستاذا عن طُلابه.

وأشكرُ كُلَّ من ساعدني في إنجاز هذا البحث بملاحظاته وتوجيهاته وتشجيعاته، وجميع أفراد عائلتي الكبيرة والصغيرة. كما لا يفوتني أن أشكر جميع الحاضرين الذين شرفوني بحضورهم.

وإﻧﻲ ﻟﻤﺘﺸﻮقٌ ﻟﺘﻮﺟﯿﮭﺎت ﺳﺎدﺗﻲ اﻟﻌﻠﻤﺎء الأجلاء أعضاء اللجنة العلمية الموقرة، وﻋﺎﻗﺪٌ اﻟﻌﺰم ﻋﻠﻰ ﺗﻨﻔﯿﺬ اﻟﺘﺼﻮﯾﺒﺎت واﻟﻤﻘﺘﺮﺣﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﯿﺠﻮد ﺑﮭﺎ ﻧﻈﺮھﻢ اﻟﺴﺪﯾﺪ، اﻟﺬي ﻋﮭﺪﻧﺎه ﻓﻲ أﻣﺜﺎﻟﮭﻢ، ﻓﮭﻢ ﻣﻨﺎرات ھﺪًى ﻟﮭﺎﺗﮫ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ، وأﺳﻤﺎؤُھﻢ ﻧﯿﺎشينُ زينةٍ ﻋﻠميةٍ، أﻓﺨﺮ ﺑﺎﻻﻧﺘﺴﺎب إﻟﯿﮭﺎ ﻣﺎ ﺣﯿﯿﺖ.

سادتي الأفاضل:

ﻟﻘﺪ ﻣﻦ الله ﻋﻠﻲ ﺑﻔﻀﻠﮫ، إذ ھﺪاﻧﻲ ﺑﺘﻮﻓﯿﻖ ﻣﻨﮫ للبحث في موضوع طريف وممتع، ﯾﻌﺎﻟﺞ ظﺎھﺮة العجيب في الكتابات الصوفية، وخاصة في الرحلة المسماة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي (ق 11هـ)، فهي مصدر ﻻ ﻏﻨﻰ ﻋﻨﮫ للباحثين في التصوف الإسلامي بالمغرب، ﻟﻘﯿﻤﺘﮫ اﻟﻌﻠﻤﯿﺔ وموسوعيته صاحبه.

يهدف موضوع هذا البحث كما يُفهم من عنوانه:

جـمـالياتُ العـجـيـبِ في الكتاباتِ الصوفيـةِ: رحلةُ “مـاء الموائـد” لأبـي سـالـم العياشـي (ت 1090 هـ) نموذجا

إلى رصد جماليات العجيب في الكتابات الصوفية عامة، من خلال تتبع ما حفل به التراث العربي عموما وكتب القوم خصوصا من رصيد ضخم من العجائب، ومركزا – بشكل خاص – على جماليات العجيب في نموذج رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي، وبيان أثره على المتلقي ودوره في خدمة السلوك الصوفي وتعزيز التجربة الروحية للرحالة المتصوف العياشي.

يبدو أن التجربة الصوفية، تجربة عجيبة في حد ذاتها، لأنها تحيلنا على العبادة الحقيقية زمن النبوة وما بعدها، ومحاولة لبلوغ الكمال وتذوق الجمال الكوني في مختلف أبعاده وتجلياته، الشيء الذي لا يتحقق حسب القوم إلا عبر معاناة الغربة عن الذات والمحيط، والتجرد من كل العلائق، والتعلق بالخالق وحده، في مسار من الترقي والانتقال من صفات الشر إلى صفات الخير. ومن ثم، فجُل الكتابات المنبثقة عن هذه التجربة الفريدة تتسم بالغرابة والعُجب أو العَجَب، لأنها حصيلة تجربة روحية عجيبة، ليس من السهل كشف مستورها، أو فهم كنهها؛ فلغة الكتابة الصوفية ناطقة بألوان الإشارة، مستغنية بالإيحاء والرمز عن التصريح والشرح. وهكذا، يمكن النظر إلى العجيب في الكتابات الصوفية باعتباره ذلك الفسيفساء الذي لا يندرج في سياق التشكيل الجمالي لتلك الكتابات فحسب، وإنما يدخل في مواد بنائها، حيث يحتل موقعا بارزا فيها؛ فهو يستمد من غموض التجربة سحره، ومن لذة اللغة عند الصوفية أثره، ومن الإشارة لونه، ومن الخارق كنهه، وقُلْ هو الكتابة الصوفية نفسها، فمن المتصوفة من مارس التجربة من خلال الكتابة، ولذلك تعددت مظاهر العجيب فيها، بتعدد الصوفية السالكين. وعليه، تعددت تجليات الجمال والجلال في عجيب تلك الكتابات، وقد يكون هذا البحث المتواضع مناسبة للإجابة عن بعض الإشكالات والتساؤلات، ومنها:

إذا كان “العجيب” مصطلحا نقديا تبنته بعض الدراسات الغربية والتي تأثر بها النقد العربي المعاصر، فإن التساؤلات التي ينبغي الإجابة عنها، هي: لماذا لم يحظ العجيب باهتمام الباحثين والنقاد العرب؟ وما سر تأخر دراسته؟ وإلى أي حد نجح النقاد العرب في نقل هذا المفهوم من سياق النقد الأدبي في الغرب إلى حقل التداول العربي وتكييفه مع النصوص العربية، وخاصة نصوص التراث؟ وما تحولات العجيب وتجلياته في السياقين العربي والغربي؟ ثم ما صلة العجيب بالتصوف؟ وماهي جمالياته في الكتابات الصوفية؟ وما تحولاته وتجلياته؟ وهل يخدم التلقي المبدع جماليات العجيب في هذا النمط من الكتابات؟ ثم أخيرا ما جماليات العجيب في رحلة “ماء الموائد”؟ وما مصادره وتجلياته؟ وكيف أسس عجيب هذه الرحلة خصوصياته؟

أما متن الدراسة، وهو رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي، باعتبارها نموذجا للعجيب في الكتابات الصوفية، فقد سعى البحث إلى معرفة جماليات مصادر العجيب في هذه الرحلة وكيفية تأسيسه، ثم تتبع جماليات تجلياته في البناء والأنماط والموضوعات وبعض الخصوصيات التي ميزت عجيب رحالتنا. إلى غير ذلك، من الإشكالات التي حاول البحث الاقتراب الممكن منها على قدر الإمكان، حيث واجهتني بعض الصعوبات:

منها ما يتَّصِلُ بطبيعة الموضوع وخصوصيته من جهة، ومنها ما يتعلقُ باختيار المنهج واللغة الواصفة والموصوفة معا والتصورات التي تتخللهما من جهة أخرى. لكن أهم صعوبة واجهت الباحث هي: وسمُ بعض النصوص الصوفية بـ”العجيب”، لأن الأمر لم يكن يخلو من مجازفة، وقد يحمل في طياته رؤية مسبقة، أو أحكاما قبلية، تعكس نظرة نوع معين من التلقي؛ الذي لم يستطع إخفاء تعجبه من هذه النصوص، فالقارئُ، أيُّ قارئٍ، يقف من النص موقفا خاصا، تُحدد خصوصيته نوع ثقافته، فيصدق عجائب النص ويسلم بها، أو يلجأ إلى تأويلها تأويلاتٍ شتى، ومن هنا تختلف زوايا القراءة، مع أن النص قد يسهم في منح هذه الإمكانيةِ أو تلكَ في القراءة بما يُوفِّرُهُ من قدرة على التأثير والإقناع. ولتجاوُزِ مَأْزِقِ القراءة التصنيفية، عَمَدَ الباحث إلى محاولة ضبط مفهوم العجيب، وتتبع دلالاته، ومناطق نفوذه وتأثيراته، بُغية التوصل لتحديد معايير في تصنيف النصوص أو انتقائها، تكون أقرب للموضوعية، وتنسجم مع قواعد البحث العلمي المتعارف عليها، وتحافظ في الآن ذاته على خصوصية الكتابة الصوفية ونسقها الإبداعي والمعرفي. وهكذا، حُدد مفهوم العجيب في: كل أمر مخالف للمألوف، باعث للحيرة والاستفهام. لكن هل يتعلق الأمر بمخالفة مألوف المتلقي/الباحث، أو مألوف المتصوف/ مبدع النص؟ لتجاوز هذا الإشكال كان التركيز في انتقاء النصوص، على ما أثار تعجب المتصوف المبدع، مع عدم إغفال دهشة الباحث أمام بعض المتون، باعتباره متلقيا للنص “العجيب” ومتذوقا لجمالياته.

هكذا، يفضي الحديث عن صعوبات البحث، إلى حديث عن المنهج المعتمد في إنجاز الدراسة، والذي فرضته طبيعة الموضوع، ونوع الصعوبات التي رافقت الإنجاز، فكان لابد من الحديث بلسان النص “العجيب”، لنقل رسالته كما أرادها، وبتعبير آخر: أن نمنح للنص إمكانية الكلام بصوت مرتفع، فكان التركيز على صنف من “العجيب” الذي أثار تعجب المتصوف الرحالة العياشي واستغرابه، علما أن ذلك لا يمنع من وجود عجيب آخر غير مصرح به، بل لا يعده أبو سالم العياشي أصلا من باب العجيب، فنقله للقارئ على أنه من الأمور العادية المسلم بها والمتفق عليها زَمَنَهُ الذي هو زمن الكتابة، وبالطبع يختلف عن أزمنة القراءة. وبذلك، يمكن القول بأن العجيب في رحلة “ماء الموائد” عجيبان: عجيب العياشي وعجيب القارئ. ولأن هذا الأخير، أحيانا يكون مطالبا بتحقيق نوع من الحياد والموضوعية في قراءة النص، يصبح العجيب الأول، أي عجيب المؤلف هو المستهدف من الدراسة. ونظرا لكون التردد التفسيري الذي تخلقه نصوص العجيب، يجعل المتلقي في وضعية مأزق حرج؛ فلا هو يستطيع تفسير ما يحدث، ولا هو يُسلم بما يقرأ، ولا يمكنه أيضا أن يرفض، فإن الخروج من هذه الحيرة يكمن في التعامل مع “نصوص العجيب” من منظور أدبي، وأن يكون التحليل من داخل بنية التصوف؛ بما يوافق نسقه، وينسجم مع خصوصياته، أملاً في تذوق بعض جماليات الكتابة العجيبة، والكشف عن طاقات الإبداع والتميز فيها، باعتبار العجيب في الكتابات الصوفية من حيثُ كونِهِ نصًّا سرديا جميلا، من نصوص الإبداع المتميزة في الثقافة العربية الإسلامية.

بذلك، يؤسس منهج البحث معالمه، انطلاقا من خصوصيات الكتابة الصوفية؛ باعتبارها– حسب القوم- كتابة صادرة من فوق، مصدرها الإلهام والكشف، ومن ثم، فهي بمثابة أمانة يبلغها الصوفي للآخر، ولكنه في العادة لا يبثها إلا لمن يحسن صونها، فالمعنى فيها مقدس لا يُعرف بعبارة، وإن كان شكله شكل عبارة، فعبره يعبر المتلقي إلى الإشارة، ومنها إلى الرؤيا بغير واسطة ولا عبارة، فتصبح الكتابةُ الصوفيةُ ذاتها تجربةً صوفيةً، وتكون كتابةُ هذه التجربة كتابةً من نوع خاص له جماليات خاصة. وهكذا، يمكن النظر إلى النص الصوفي العجيب، باعتباره كائنا حيا، يتكلم ويصمت، فنصغي إليه ونتحاور معه، لا أن نسكته وننطق نحن، فكثيرا ما نسيء فهم الآخرين إذا لم نحسن الإنصات إليهم. ومن ثم، عوّلتُ في التحليل على أن يتكلم “العجيب” عن نفسه، فينطق بما فيه، دون أن أفرض عليه مراقبة “صارمة” أو مقاطعة “مقيدة”، لأن الغاية من هذا المنهج هي تذوق جماليات العجيب في الكتابات الصوفية.

إن ما يهمني أكثر في الكتابات الصوفية، ليس هو العجيب بمعنى الحيرة التي يخلقها خرق المألوف في العقل أو العادة، ولكن المهم هو الأثر الذي يحدثه في الوجدان؛ لأن الحيرةَ، سرعان ما قد تتلاشى تحت إغراء جماليات الكتابة العجيبة ولذتها التي تستحوذ على نفسية المتلقي وتَأْسِرُ كِيَانَهُ، لتُمَرِّرَ الخِطابَ وتُحْدِثَ التغيير المنشود.

هكذا، حاول البحث الانتقال الممكن من العام إلى الخاص، أي من العجيب في العام إلى العجيب في الكتابة الصوفية إلى العجيب في رحلة “ماء الموائد”. وتبعا لذلك، أسفر تصور الموضوع وتمثل منهجه، إلى إنجاز البحث وفق تصميم حاول الاقتراب الممكن من إشكالات البحث وأهدافه، حيثُ قام على مقدمة وثلاثة أبواب، وخلاصة واستنتاجات، ثم فهارس البحث.

عرضت في المقدمة علاقتي بالموضوع اختيارا وتعريفا وتحديدا لإشكالاته ومعيقاته ومنهجه. وخصصت الباب الأول لبحث “أدب العجيب وسياق التداول”، وفيه فصلان:

الفصل الأول: “العجيب: السياق العربي وتأصيل المفهوم”، عرضت فيه الدراسات السابقة في موضوع “العجيب”، لبيان بعض ما توصلت إليه تلك الدراسات، وما لم تنتبه إليه أو تركته مفتوحا لتعميق النقاش فيه لاحقا، وذلك لتأسيس مشروعية البحث الحالي، حيث تبين أن منجزَ دراساتِ العجيب، لم يعكس الوجود الحقيقي، الوازن والمؤثر، لمظاهرِ حضورِ العجيب في التراث العربي، وأن أغلب المحاولات قد اقتصرت على نقل المناهج السيميائية الغربية وتطبيقها على النصوص العربية، حيث شكَّلت الانتقائية والتجزيء ظاهرةً فيها، أدت إلى التركيز على نصوص معينة وإغفال أخرى، وتعتبر النصوص الصوفية “العجيبة” واحدةً من النصوص التي لم تنل حظها من الدراسة العلمية.

ثم تتبعت مفهوم العجيب في اللغة والقرآن الكريم، حيث تبين أن هذا اللفظ قديم التداول، وأنه يرد بمعاني الاستحسان أو الاستنكار أمام الشيء غير المألوف، كما تتعدد الصيغ المنبثقة من “العجيب” لتتفاوت في مستوى التعجيب، ودرجة التعجب، فيتمُ الانتقال من العجيب إلى العُجاب ثم العُجَّاب.. في تحوّلٍ مستمرٍ يعبر عن قوة إحساس المتلقي بالعجيب ودرجة اندهاشه وتأثره. وقد عزز القرآن الكريم هذه الدلالات حيث ورد العجيب في القرآن مرتبطا بمعاني دلت في أغلبها على ذلك التغيُّر النفسي، الناتج عن حالة الحيرة والدهشة التي تسيطر على الإنسان أمام شيء خارق للعادة، أو غير مألوف وخارج عن نطاق تفسيره الاعتيادي، مما فتح العجيب القرآني على جماليات الحيرة التي تأسر المتلقي وتدهشه مهما كان موقعه فكان بذلك “عجيب الجلال” الذي يصيب السامع بالحيرة المهيبة ويوقض فيه دافع الإيمان بالله وإجلاله وتعظيمه، إضافة إلى “عجيب الجمال”؛ حيث لا يكتفي الذكر الحكيم ببيان حقيقةِ الشيءِ المتعجَّبِ منهُ، وإنما يقدم منهجا في الحكم على الأشياء، يقوم على عدم الاغترار بالجميل المُعجب وتجاوزه إلى جوهر الظاهرة وهي تحقيق الإيمان بالله. ونلحظ – في هذا السياق – أن مفهومَ العجيب قد تسرب من القرآن الكريم إلى المعاجمِ العربيةِ وكتبِ العجائب، وشكّلت قَصَصُهُ مادةً حيويةً وغنية للرواة في العصور اللاحقة، فجعلوا منها مصدرا أو منطلقا لخيالهم وإبداعاتهم السردية، وهكذا انتقل عجيب الذكر الحكيم إلى النصوص الإبداعية فسافر من النص المقدس إلى النص الأدبي، مما أسهم في إغناء دلالات “العجيب” ورسخ وجوده في الثقافة العربية، خاصة مع المؤرخين والجغرافيين والأدباء والمتصوفة وغيرهم، ليصبح هذا المفهوم، دالا على نظام معرفي متكامل يعبر عن موقف من العالم ويعكس بنية التفكير.

أما الفصل الثاني: والموسوم بـِ “العجيب: السياق الغربي وتفاوت التلقي”، فقد استقريتُ فيه سفرُ العجيب من المقدسِ إلى المرعبِ؛ تناولت فيه أسبابَ ظهورِ “أدب الفانتاستيك” في الغرب، وكيف انتقل من حقل التداول الديني المسيحي إلى فضاء الإبداع الأدبي، مستفيدا في تجديد وسائله ودعم رؤيته الإبداعية، من الإمكانات الهائلة التي وفرتها العلوم الحديثة، حيث أصبح الالتذاذ بالمرعب نوعا من جماليات هذا الأدب، الذي تجاوز النص المقروءَ إلى المعروضِ إلى فنونٍ أخرى، أصبح معها الفانتاستيك بالنسبة للإنسان الغربي نوعا من الخروج من “ضيق الأشياء” إلى فضاءِ المستحيل والممتنع والبعيد عن الإدراك، عبر إبداع ما هو غير موجود، ليعوض به عن الذي لم يستطع الحصول عليه مما هو موجود.

ثم عرضت بعضَ مقاربات العجيب، حيث تتبعت تصورات أهم الدارسين الغربيين الذين حاولوا التنظير لأدب العجيب، وخاصة تودوروف، إضافة إلى مناقشةِ تفاعلِ النقاد العرب مع تلك المقاربات، حيث تباينت وجهاتُ نظرهم وعكستْ نوعاً من اليقظةِ العلمية التي تمحص النظريات الغربية، فتستفيد من إمكاناتها المنهجية في تحليل المتن العربي، غير أن الاختلاف بين الباحثين العرب في اختيار اللفظ العربي المناسب لترجمة مصطلح (Le fantastique)، قد شكّل اضطرابا في تصور المفهوم، وبذلك كان من الضروري تتبع محاولات النقاد العرب لاختيار ترجمة لهذا اللفظ، حيث يخلص الباحث إلى اختيار “العجيب” معززا هذا الاختيار بجملة من الاعتبارات، والتي حاولتْ في مجملها احترامَ نسقِ النصِّ العربي وخاصةً النصُّ الصوفي الذي يستمد من المقدس الإسلامي خصوصيته ومن البيئة العربية هويتهُ. وخُتم الفصل بخاتمة تضمنت أهم نتائج الفصل، كما حاول الباحث استخلاص نتائج الباب من خلال محاولة في التركيب تضمنت نتائج الباب الأول.

أما الباب الثاني، فخصصته لدراسة “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: التحولات والتجليات”، وفي فصلان:

الفصل الأول: “جمالياتُ تحولاتِ العجيب”، تتبعت فيه كتب العجائب والغرائب، حيث شكَّلتِ الكتبُ العجيبةُ ظاهرةً تستحقُ الدراسة، وبذلك عرضت بعض النماذجِ من الكتبِ العجيبةِ سواءٌ في التراث العربي أو في الإبداع الحديث، إضافة إلى بيان ما الذي يجعلها عجيبة.

ثم تتبعتُ “تحول العجيب المرعب إلى جميل معجب”، تناولت فيه خصوصيات العجيب الأدبي وكيف أسهم في صناعة الخوف، حيث أدت أُلفةُ هذا العجيب إلى جماليات الرعب والالتذاذ بالمخيف، إضافة إلى انتعاش أدب العجيب بفضل استفادته من العجيب الديني الذي تضمنته معجزات الرسل والأنبياء والصالحين، كما استفاد أيضا مما يحفل به التراث العربي من حكايات الكائنات الخارقة، وفَعَّل طاقة الخيال الخلاق في “ابتكار” نصوص عجيبة فائقة الجمال. وبذلك استدعى البحث دراسة “العجيب الإسلامي وجماليات المنهج”، نظرا لكون الدين الإسلامي قد شَكَّل أحد الروافد التي أسهمت في إغناء مكونات العجيب الأدبي، وحوّلت مساره نحو مزيد من الجماليات، لكن الخروج عن المألوف لم يكن دائما مرحبا به، وبذلك اتخذَ العجيبُ مساراً في الحكي نهل من الرمز والإشارة والغموض ما أسَّسَ به جمالياته، وقد تناول البحثُ هذا الإشكال من خلال عرض “نكبة العجيب وجماليات الستر”، حيث لم تفلحْ كُلُّ محاولات الكَبْتِ التي مورست على العجيب، في فترات مختلفة من التاريخ، في إنهاء حياته، أو الحد من نموه وتأثيره، ويظهر ذلك جليا في الحضور المكثف للعجيب في الثقافة العربية واستمرار تداوله، وتبعا لذلك تصبح دراسته من أوجب الواجبات، ليس من أجل إعادة الاعتبار لنمط من الإبداع كثيرا ما أُسيء فهمه، وإنما كذلك لكونه يختزن كثيرا من الأسرار التي يمكن أن تخدم فهم النفسية العربية، وخصوصا الشخصية المحبة للخوارق أو المنتجة للخارق، ولعل المتصوف واحد منها، فالتصوف حافل بالعجائب، ومن ثم، ختمت هذا الفصل بدراسة “العجيب في التصوف الإسلامي”، محاولا تحديد الصلة التي تربط بين التصوف والعجيب، ومبرزا بعض مظاهر العجيب. وخُتم الفصل بخاتمة تضمنت أهم نتائج الفصل الأول.

أما الفصل الثاني: “جماليات تجليات العجيب في الكتابات الصوفية”، فقد درست فيه صلة الكتابات الصوفية بالعجيب، ولماذا يلجأ المتصوف إلى تعجيب الخطاب بعتبات التمهيد والعنونة قبل النص الرئيس، كما ناقشت مشروعية الحديث عن الكتابات الصوفية بالجمع وليس المفرد، حيث أنتج ذلك الجمع جماليات عززت تميز الكتابة الصوفية وتفردها، باعتبارها انعكاسا للتجربة الصوفية، التي تعتبر تجربة عجيبة في حد ذاتها، لأنها محاولةٌ لبلوغ الكمال في مختلف أبعاده وتجلياته، وأثناء هذه المحاولة يقع التداخل والتجانس، بين المتباعدات والأضداد، إلى حد التكامل ثم التماهي، فلا تكادُ في النهايةِ تُفرِّقُ بين التجربةِ والكتابةِ والصوفيِّ، ويصبح الكلُّ مُعبّرا عن الكلِّ، مما استدعى دراسة “مصدر العجيب في الكتابات الصوفية”، حيث إن مصدر العجيب في بعض الكتابات الصوفية يمكن أن يُستمد من “المصدر العجيب” أي من أصل الكتابة ذاتها؛ فإذا كان الأديبُ مَصدرا لإبداعه، فالصوفي ليس كذلك، وإنما هو ناقلٌ للمعرفة، وعَبْرَهُ ينتقل المقدس ليُطَهِّر المدنس، فرسالة المتصوف هي إنقاذ العالم، عبر لفت انتباه الخلقِ لكلام الخالق، وإنما سُمِّيتِ الكتابةُ “كتابة” من باب المجاز، وإلا فهي على الحقيقة ضربٌ من الإلهام والفيض والفتح، وبذلك يشكل خرق العادة في هذا النمط من الكتابة مصدرا للغرابة والعجب، فكان لابد من الحديث عن “خوارق العادة وإسهامها في ترسيخ العجيب”.

درست في هذا الفصل أيضا “عجيبُ التفاعلِ المبدعِ مع الآخر”، حيث تناولت فيه كيفَ خرق الصوفية المألوف في وسائل الدعوة إلى الله، وكذلك جدلية الكتم والبوح التي أفرزت جماليةَ انتقاء المريد؛ حيث بدل أن ينصب اهتمام الكتابة الصوفية على الجميع، نجدها تنتقي متلقيها فتختار من يستحق الاطلاع على أسرارها، مما أوقع المتلقي، ليس في العَجَبِ والحيرةِ فقط، فذلك طُعمٌ يتجرعه كل من يحاول الاقتراب، وإنما قاده إلى التجربة، وهيأ له سياق الممارسة، بمكابدة معاناة كشف الأسرار التي خلف جدران العبارة، وتلك واحدة من مهمات الكتابة التي تختار قارئها، وليس ذلك إلا أسلوبا لتشويق المتلقي وتحبيب السلوك الصوفي إليه، وذلك عن طريق تعجيب اللغة، وبذلك تطلب الأمر دراسة “عجيب اللغة في الكتابات الصوفية” حيث تناولت فيه مظاهر العجيب في اللغة كما وظفها الصوفية، من خلال نموذج “التأويل الصوفي للنحو العربي”، وظاهرةُ “الشطح اللغوي وجمالية البوح”، إضافة إلى ” لذة الغموض وجمالية المفقود” في هذه الكتابة، وخُتم الفصل بخاتمة تضمنت أهم النتائج المتوصل إليها، كما حاول الباحث استخلاص نتائج الباب من خلال محاولة في التركيب تضمنت نتائج الباب الأول.

أما الباب الثالث: فخصصته لدراسة “جماليات العجيب في رحلة “ماء الموائد”: المصادر والتجليات”، وفيه فصلان:

الفصل الأول: “جماليات مصادر العجيب”، درست فيه “أدب الرحلة وموائد العجيب”، من خلال تعرف مفهوم أدب الرحلة وعجيب الجغرافيا، وكيف شكّل العجيب ركنا أساسا في الرحلة يصعب الانفلات من فتنته سواء من قبل الرحالة أو المتلقي الدارس، إلى درجة اعتبار بعض الرحلات “رحلات عجيبة”، حيث تطلب الأمر النبش في بعض هذه الرحلات لاقتباس نماذج من نصوصها “العجيبة”. ثم دراسة “العجيب في رحلات المتصوفة”، من خلال تعرف الرحلة كما فهمها القوم، أي باعتبارها نوعا من الانتقال عن المقامات، والإنزال في أخرى، فالرحلة وإن كانت سفرا محسوسا، إلا أن الصوفي يجعل منها رحلة في منازل العبادة والتمكين، فيرتقي مع تقدمه في السير إلى الله، وخاصة في نوع من الرحلات كانت وجهتها مكة لأداء فريضة الحج، والتي لا تستهدف إحداث التغيير “العجيب” في شخصية الرحالة فحسب، وإنما يمتد أثرها إلى محاولة تغيير المجتمع وتصحيح أوضاعه، وبذلك تطلب الأمر مناقشة صلة الرحلات الحجازية بالعجيب وبيان “جُـودِ الموائد” فيها، والذي يتجاوز موائد الطعام، إلى موائد الفكر والأدب، من خلال وصف أحداث الرحلة المقدسة بكل تفاصيلها الدقيقة، إمعانا في الكرم، وَجُودًا بالمعرفة والمشاعر، على من حبسه العذر عن بلوغ تلك الأماكن “المقدسة”. ثم تناولت رحلة “ماء الموائد” باعتبارها رحلة حجازية صوفية مثّلت متنا للدراسة والتحليل، فقاربت قيمتها وجماليات عتبتها المتمثلة في العنوان “ماء الموائد”، ثم عرضت أحداث العصر الذي أُلِّفت فيه، وجوانب من شخصية المؤلف العياشي، وذلك بالحديث عن عجيبي العصر والإنسان.

بعد ذلك، تم الانتقال لبحث “مكونات العجيب في رحلة “ماء الموائد”، من خلال دراسة الحيرة، وخرق العادة وعجيب الكرامات، ومبدأ التسليم وعجيب التبرك، ثم استراتيجية الكتابة العجيبة كما اعتمدها الرحالة المتصوف أبو سالم العياشي. وخُتم الفصل بخاتمة تضمنت أهم نتائج الفصل الأول.

أما الفصل الثاني: فقد خصصته لدراسة “جماليات تجليات العجيب” في رحلة “ماء الموائد”، من خلال الاقتراب من بناء العجيب وأنماطه وموضوعاته وبعض خصوصياته؛ حيث قاربت بناء العجيب من خلال تعرف جغرافيته داخل رحلة ماء الموائد؛ حيث مارس العياشي تشكيلا سرديا، لم يكن مقاوما للملل فحسب وإنما معززا للتشويق كذلك، من خلال اختيار لحظات موضعة العجيب، وفي التركيز على بعض المشاهد أحيانا وتجاهله لأخرى، إضافة إلى توظيفه لتقنية “الإسناد” التي أسهمت في الرفع من وتيرة التأثير والإقناع، وكذلك محاولته تفسير بعض العجائب؛ حيث يتنوع التفسير من حيث تموقعه داخل النص العجيب، فقد يُفتتح النص بتفسير أو تبرير في بعض الأحيان لغموض معين, سيصل النص إليه في سياق تطور أحداثه، كما قد يأتي التفسير في النهاية، وبعض النصوص لا يتدخل فيها، والبعض الآخر قد يزيده التفسير مزيدا من العجب، مما تطلب الحديث عن “عجيب التلقي والتلقي العجيب”، ويُعتبر الشرف والبركة والكرامة وخرق العادة، من بين أهم الموضوعات التي لجأ إليها أبو سالم العياشي في تفسيره للعجيب.

أما أنماط العجيب في رحلة “ماء الموائد” فقد حاول البحث الاقتراب منها، من خلال عجيبي الهدم والبناء، بحيث مثّل الأول خرقا للمألوف في اتجاه سلبي، ومثل الثاني خرقا مرغوبا فيه ومطلوبا من أجل بناء الإنسان الكامل. أما موضوعات العجيب في هذه الرحلة فقد كانت متنوعة، حيث أمكن تقسيمها – في سياق الدراسة – إلى عجيب الأمكنة وجماليات المقدس، وعجيب الاحتفال وجماليات الزينة، إضافة إلى عجيب السلوك، وعجيب المخلوقات وبعض الآلات. والملاحظ أن موضوعات العجيب في هذه الرحلة ترتبط بالواقع مثل الأماكن والمخلوقات والأدوات وبعض السلوكات غير المألوفة. وهي بذلك، لا تمت بصلة إلى مفاهيم الرعب كما هو الحال عليه في “الأدب العجيب” وفق التصور الشائع في الأدب الحديث، الذي تسيطر فيه موضوعات تثير الفزع مثل المخلوقات الغريبة؛ كالغول والشيطان ومصاصي الدماء وغير ذلك. ويضاف إلى ذلك أيضا أن عجيب هذه الرحلة لا يتضمن ما هو صوفي فحسب، وإنما يشتمل كذلك على عجيب آخر له علاقة بموضوعات مثل بعض الأدوات والمخلوقات وسلوك بعض الأشخاص، وقد تم الإهتمام بهذا العجيب نظرا لكونه أثار تعجب العياشي، حيث العجيب المقصود من هذا البحث المتواضع هو العجيب الوارد في رحلة “ماء الموائد” باعتبارها نموذجا للكتابات الصوفية المغربية الحافلة بالعجيب، وقد فرض ذلك الكشف عن خصوصيات عجيب هذه الرحلة، والتي تمثلت في: التواصل العجيب، والبناء اللغوي، ثم وسطية العجيب، حيث لم يطلق العياشي العنان لحشد الأعاجيب في الرحلة، دون تفكر فيها أو دون سياقٍ يبرر ذكرها، وإنما سعى إلى خلق توازن محمود بين “السمر” و “العلم”، فنوّع العجيب وتفنن في أساليب الوصول إلى وجدان المتلقي وعقله، عبر الكتابة المبدعة التي حاولت كسر أفق المتلقي، وتمكنت من تشييد نص إبداعي يمتح من الثقافة الصوفية الإسلامية روحه ومحتواه، فكان تطلع العجيب نحو مدارج الترقي الروحي والإيماني، باعتبار السفر انتقالا من حال مألوف غير مرغوب فيه، إلى حال “عجيب” مرغوب ومطلوب.

وعلى غرار الفصول السابقة، خُتم هذا الفصل بخاتمة تضمنت أهم النتائج المتوصل إليها، كما حاول الباحث استخلاص نتائج الباب من خلال محاولة في التركيب تضمنت نتائج الباب الثالث.

ثم ختمت هذا العمل المتواضع بخلاصة واستنتاجات؛ عرضت فيها جملة من النتائج التي توصل إليها البحث. وذيلت الأطروحة ببعض الفهارس التي تيسر الاستفادة من العمل. والملاحظ أن مصادر البحث ومراجعه قد تعددت؛ حيث بلغت 571 مصدرا ومرجعا، نظرا لطبيعة الموضوع الذي تتجاذبه وجهات نظر متباينة، حيث يخضع لرؤية المتلقي ونمط القراءة، وبذلك أتاح تنوع المراجع إمكانية توسيع الرؤية وتعميق النظر. ولضبط ثبت المصادر والمراجع، فقد صنفته إلى أقسام ثمانية، وهي: المخطوطات، والمطبوعات، والمقالات، والندوات، والرسائل الجامعية، والكتب الأجنبية، والمواقع الإلكترونية، والأفلام السينمائية. مع ترتيبها ألفبائيا.

فما هي أهم النتائج والخلاصات الأساسية التي انتهى إليها هذا البحث؟

خلصت الدراسة إلى جملة من الاستنتاجات والتي يصعب تعميمها على كل النصوص الصوفية “العجيبة”، حيث تبقى نتائج البحث رهينة بالمتن المدروس، وربما بنوع من التلقي؛ فتذوق جماليات العجيب في الكتابات الصوفية يرتبط بطبيعة التفاعل المبدع مع النص، ومدى الانصات له، ولذلك لا حدود لجماليات العجيب في هذه الكتابات؛ لأنه كلما تذوق المتلقي النص، كلما زادت قدرته على اكتشاف جماليات جديدة، ولعل هذه الخاصية في حد ذاتها، يمكن عدها سمة جمالية لعجيب الكتابات الصوفية، تجعل النص “العجيب” قابلا للانتقال – بفعل محاولات القراءة- من مألوف الأثر الذي هو الحيرة، إلى الشعور بالهيبة أمام قدرة هذا النص على التلون والتشكل بفسيفساء من الجمال لا تنقضي عجائبه. وبهذا المعنى، يمكن عد النتائج المتوصل إليها في هذا البحث المتواضع، بمثابة حصيلة مؤقتة، تعبر عن مرحلة معينة من القراءة، قابلة لاحتواء الجديد عند كل إعادة للقراءة.

هكذا، أسفر البحث عن إمكانية النظر إلى العجيب في رحلة “ماء الموائد” باعتباره مُعبِّرا عن السلوك الصوفي، وناقلا لمعارف القوم وعوارفهم، وكذلك انشغالاتهم الراهنة وتطلعاتهم المستقبلية، فهو طريقة لفهم العالَم وإدراك آليات اشتغاله، وهو – تبعا لكل ذلك- مفتاح لفهم شخصية المتصوف، كما أنه رؤية وشهادة؛ رؤية على واقع حقيقي يحفل بالمتناقضات، وشهادة باعتباره محاولة للإجابة عن أسئلة ذلك الواقع، غير أن هذا التوجه نحو السيطرة على الواقع لا ينبغي أن يعتبر الهدف الأسمى أو الوحيد للنص الصوفي العجيب، حيث يظهر أن لذة النص التي يولدها توظيف تقنيات التعجيب وآلياته، هي كلها غايات جمالية سامية من غايات الكتابة الصوفية المبدعة. أما باقي الاستنتاجات الأخرى المتوصل إليها بعد خوض هذه الرحلة، فيمكن إجمالها في الآتي:

– على الرغم من الحضور المكثف للعجيب في التراث العربي، إلا أن الدراسات المنجزة حوله، لم تعكس مستوى هذا الحضور، نظرا لبعض العوامل، منها: تشتت مادة الدراسة؛ أي تفرق العجائب في بطون مصنفات متعددة، وكذلك، وجود نظرة سلبية تجاه كل ما هو عجيب؛ حيث يتم إدراج هذا الأخير ضمن الأدب الشعبي أو المهمش غير المفكر فيه، والذي لا يرقى لاهتمامات النخبة ولا يجوز دراسته علميا، مما أخر دراسته.

– يحضر العجيب في التراث العربي بمعنيين: الأول التعجب بمعنى الحيرة والدهشة أمام كل ما هو غير مألوف، أو مجهولة أسبابه، والثاني التعجب بمعنى استحسان الشيء الجميل أو الكثير. وهكذا، يتفاعل العقل مع الوجدان، ويتكامل الجلال مع الجمال، لتأسيس جماليات العجيب في التراث العربي؛ حيث يؤدي تلقي العجيب، تأملا وتأويلا.. ثم قبولا أو رفضا، إلى نتائج على مستوى وجدان القارئ وسلوكه، أبرزها حصول لذة معرفية أو روحية. وتبعا لذلك، يُعبِّر العجيب عن حالة نفسية، من أعراضها؛ الحيرة اللذيذة، التي تؤدي إلى تحصيل معرفة جديدة، حيث يخدم العجيب بناء المعرفة؛ سواء كانت هذه المعرفة متعلقة بالله أم بالحقائق العلمية الكونية التي تقف وراء مختلف الظواهر الطبيعية. وقد أغنى القرآن الكريم مفهوم العجيب بدلالات جديدة، تتعلق أساسا بمنهج التعامل معه تلقيا وإنتاجا، مما رسخ وجوده في الثقافة العربية.

– على الرغم من وجود مشترك بين العجيب في التراث العربي والعجيب في الغرب، متمثلا في أثر الحيرة، إلا أنهما يختلفان في الباعث والمقصد وكذا في طريقة الاشتغال، إلى درجة يغدو فيها “الفانتاستيك” منعدما في الإنتاج الأدبي العربي، وذلك لاختلاف مكونات البيئة والثقافة والتاريخ؛ فإذا كان وجود “الفانتاستيك” في الغرب قد ارتبط بالرعب والخوف، وكان وجوده تمردا على الذات والواقع، وتلذذا بالفوضى والفزع، فإنه في التراث العربي قد ارتبط بالجميل والممتع والمفيد وعكس هموم الإنسان العربي وتطلعاته في الحاضر والمستقبل. وتبعا لذلك، يختزن العجيب نشاط البنية الذهنية الشعورية واللاشعورية للإنسان في ارتباط بالظواهر الاجتماعية، كما يعبر عن آلامه وآماله، وهو بذلك يعتبر أحد الروافد التي تفيد في معرفة أنماط التفكير الإنساني.

– للتصوف الإسلامي صلة وثيقة بالعجيب، حيث يمثل السلوك الصوفي في حد ذاته خرقا للمألوف من أنماط العبادة التقليدية، التي تقف عند مظاهر التعبد الشكلية. وقد عَبَّرت الكتابات الصوفية عن عجيب التجربة، إلى درجة التماهي بينهما، حيث يتحول زمن الكتابة إلى لحظة تجربة حقيقية. وتبعا لذلك، يغدو العجيب مكونا من مكونات التصوف، يستمد من غموض التجربة سحره، ومن لذة اللغة أثره، ومن الإشارة لونه، ومن الخارق كنهه، وقُل هو الكتابة الصوفية نفسها.

– يتولد العجيب في الكتابات الصوفية عن قدرة استثنائية وهبية وليست كسبية، مبدعة غير مقلدة، لا تخضع لسلطان الحس والمنطق والسببية، فهي قدرة تتجاوز الوضعية البشرية وتخترق قوانين الأنظمة الطبيعية، وهي فوق كل هذا وذاك أثر للتجربة الصوفية – العجيبة في حد ذاتها- تسمو على الحواس لتبلغ درجات الخواص، أو خواص الخواص، في سياق التجاوز الصوفي والتراتب المقامي ذي النفس المتصاعد باستمرار. وقد وقف البحث على بعض جماليات العجيب في الكتابات الصوفية، ويتعلق الأمر بجماليات التحولات وجماليات التجليات.

– يرتبط العجيب بالسفر سواء المادي أو المعنوي؛ حيث وقف البحث على نماذج من الرحلات التي لم تكن خروجا عن المكان فحسب، وإنما كذلك خروجا عن المألوف، وهي عند الصوفية انتقال من مقام إلى مقام، نظرا لاجتماع سفر القلوب ورحلة الأبدان. وبذلك، يعلن أدب الرحلة عند الصوفية عن تأسيس العجيب واستثمار جمالياته في بناء الإنسان الكامل والارتقاء في صفات الإحسان والجود.

– إن حضور العجيب في رحلة “ماء الموائد”، سواء تحت عنوان: غريبة أو عجيبة أو لطيفة، أو ضمن المتن الرئيس، لا يعد انفصالا عن موضوع الرحلة، وإنما له صلة مباشرة بمحتوى الحكي وسياق السفر، فهو وإن كان مفسحا المجال أمام “استراحة مؤقتة”، إلا أنه يكشف عن تجدر العجيب في الرحلة، مما فتح المجال للحديث عن استراتيجية الكتابة العجيبة في “ماء الموائد”، والتي تقوم على التأليف بين موضوعات: المكان والماء والأولياء أو البركة، وما قد يقع بين هذه العناصر من أوجه التفاعلات الممكنة والمفضية إلى مزيد من التعجيب وخلق جماليات مبدعة.

– يتمظهر العجيب في رحلة “ماء الموائد” في نمطين مختلفين هما: البناء والهدم؛ حيث عجيب البناء الذي يرفع الهمم ويسهم في بناء الإنسان الكامل، والذي ينبغي تقليده لمن أراد الوصول. أما عجيب الهدم وتنشئة الوهم كخوارق أصحاب الحيل والسحر ومن لا علم له بالشريعة، فهو الذي ينبغي الحذر منه. والظاهر أن أبا سالم لم يخرج عن هذا الأسلوب أمام تعامله مع العجيب تفسيرا وتأويلا وإنتاجا، حيث يستحسن ما حَسَّنه الشرع والعرف، ويستنكر ما قَبَّحه الدين والذوق، فيضع العجيب في امتحان عسير، ليمحصه ويتحقق من هويته. وبفضل هذه المنهج، استطاع العياشي أن يؤسس لنوع من الثقة المتبادلة مع قارئ رحلته الضمني.

– للعجيب صلة وثيقة بالمتلقي، فهذا الأخير هو الذي يحكم على الشيء بالعجيب أو المألوف العادي. ومن ثم نسبية هذا العجيب؛ فما هو عجيب عند قوم، ليس بالضرورة كذلك عند آخرين. وهكذا، فإن بعض العجائب قد سقط موضع التعجب منها في نظر المتلقي المعاصر، بفعل ظهور ما هو أعجب منها، أو بفعل التقدم العلمي والتقني الذي قدّم تفسيرات جديدة لبعض ظواهر الكون. وتبعا لذلك، فإن موضوعات العجيب أي الظواهر والأشياء التي أثارت تعجب الرحالة المتصوف العياشي، إنما تعكس بنية تفكير إنسان القرن الحادي عشر الهجري، ولا يمكن قراءتها جماليا وفكريا إلا على ضوء معارف ذلك العصر وما شهده من أحداث وتطورات، أثَّرَت في نظرة الإنسان للوجود والكون. وهكذا، اهتم العياشي ببناء العجيب في رحلته وفق تصور خاص به عكس ثقافته ونمط تفكيره، ونقل أجواء الحياة في العالم الإسلامي خلال القرن الحادي عشر الهجري، كما أدَّت النزعة الصوفية لهذا الرحالة دورا فعالا في بناء الأحداث والوقائع، وفي بناء الشخصيات، بناء متزنا واعيا بجماليات العجيب وأثره في تغيير السلوك. وهكذا، لم تكن الرحلة سردا مألوفا لعجائب السفر وإنما كانت ممارسة للتجربة الصوفية كذلك.

– على الرغم مما قد يظهر في رحلة “ماء الموائد” من عجيب مبالغ، إلا أن كتب القوم تحفل بما هو أعجب مما ورد في هذه الرحلة، حيث إن الاطلاع على بعض كرامات الصوفية، يُبيِّن تميز عجيب العياشي بانتقائية وسطية، تؤطرها رؤية صوفية معتدلة، وعين راعية للشريعة مدركة لخطر الفتنة، واعية بما وراء الكرامة من أثر، حيث لم يطلق العياشي العنان لحشد الأعاجيب في الرحلة دون تفكر فيها أو دون سياق يبرر ذكرها، وإنما سعى الرجل إلى خلق توازن محمود بين “العلم” و “السمر”، مما أسهم في بناء نص عجيب وجميل. وهكذا، يمكن القول إن أبا سالم قد حَوَّل وظيفة العجيب من الإمتاع الحسي والمعنوي، إلى نوع من التلذذ الروحي والإيماني، يمتلك القدرة على تقديم النموذج الصوفي وفق رؤية العياشي.

تلكم إذن هي أهم الأفكار والخلاصات التي توصل إليها هذا البحث المتواضع، والتي يُشكل كل منها مجالا من مجالات البحث الممكن طرقها في مجموعة من الأعمال العلمية التي يمكن أن تكشف عن جماليات أخرى للعجيب في الكتابات الصوفية إن على مستوى اللغة، أو الفكر، أو السلوك أو غير ذلك من مجالات الإبداع والتجديد.

ختاما، أقف عبر هذا العمل المتواضع لأجدد امتناني للسادة الأساتذة الأجلاء أعضاء اللجنة الذين تحملوا مشاق قراءة هذا العمل وتقويمه. وأسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم جميعا يوم القيامة. مع أملي أن يحالفني بعض التوفيق إن شاء الله.

أسأل الله أن ينفع بهذا العمل ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لنا ما كان فيه من الزلل والتقصير، والحمد لله رب العالمين.


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ الدكتور رشيد مسرار
    الدكتور رشيد مسرار

    موفقون باذن الله تعالى اتمنى المشاركة في الاعمال القادمة

  2. الصورة الرمزية لـ الدكتور رشيد مسرار
    الدكتور رشيد مسرار

    موفقون باذن الله تعالى اتمنى المشاركة في الاعمال القادمة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: