رمز رابعة: قراءة سوسيولوجية

يعتبر عالم الاجتماع الكبير “ليفي ستراوس 1908/2009 Claude Lévi-Strauss” من أهم من اشتغل حول حقل الرمزيات فبحسبه ” أن المجتمع يعبر عن حركيته بصورة رمزية أكثر منها مادية، وذلك عن طريق العادات والطقوس والمؤسسات”. أما هيجل فيرى أن الرمز” ليس مجرد علامة اعتباطية ولا يستعمل كيفما اتفق بل هو علامة تتضمن في خارجيتها بالذات مضمون التمثل الذي تظهره”، عموما وضمن الحقل الأنتربولوجي والسوسيولوجي نستعير كلمة للدكتور عبدالرحيم العطري حيث يقول أن الرمز يتحدد “كأس للتفاعلات الإجتماعية للأفراد والجماعات، بل إن تاريخ الإنسان وفي مختلف المجتمعات هو تاريخ رموزه وإشاراته ومعانيه”.

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم سنجد أن الرموز تحتل مساحات كبرى بشكل مكثف وجلي ناهيك عن الخفي منها، فقد ورد في التنزيل العزيز في قصة زكرياء عليه السلام “ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا” آل عمران:41، حيث جاء في معظم التفاسير أن زكرياء عليه السلام عوقب بعد أن بشرته الملائكة بالغلام شفاهة فسأل الآية وهو ما جعله كليل اللسان ثلاثة أيام لجأ فيها إلى لغة الإشارة والرموز.

أما لغة فقد كتب بن منظور في اللسان أن الرمز: تصويت خفي باللسان كالهمس ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بالصوت، ورجل رميز الرأي ورزينه أي جيد الرأي أصيله. وأَشار إِليه وشَوَّر: أَومَأَ، يكون ذلك بالكفِّ والعين والحاجب؛ أَنشد ثعلب: نُسِرُّ الهَوَى إِلاَّإِشارَة حاجِبٍ هُناك، وإِلاَّ أَن تُشِير الأَصابِعُ وشَوَّر إِليه بيده أَي أَشارَ؛ عن ابن السكيت، وفي الحديث: كان يُشِير في الصلاة؛ أَي يُومِئ باليد والرأْس أَي يأْمُرُ ويَنْهَى بالإِشارة؛ ومنه قوله لِلَّذى كان يُشير بأُصبعه في الدُّعاء: أَحِّدْ أَحِّدْ؛ ومنه الحديث: كان إِذا أَشار بكفِّه أَشارَ بها كلِّها؛ أَراد أَنَّ إِشارَاتِه كلَّها مختلِفة، فما كان منها في ذِكْر التوحيد والتشهُّد فإِنه كان يُشِير بالمُسبِّحَة وحْدها، وما كان في غير ذلك كان يُشِير بكفِّه كلها ليكون بين الإِشارَتَيْن فرْق، ومنه: وإِذا تحَدَّث اتَّصل بها أَي وصَلَ حَدِيثَه بإِشارة تؤكِّده.

لقد كان موضوع “الفعل الاجتماعي” أساس التفكير عند (ماكس فيبرmax weber 1864/1920) ، ووفقاً لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي لابد من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين،”المستوى الأول: أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني: فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي بين جماعات الأفراد. ولكي نفهم عمل الفرد وأفعاله أو سلوكه الاجتماعي على مستوى المعنى لابد من النظر إلى دوافع الفرد ونواياه واهتماماته والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي تكمن خلف سلوكه، أي أنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضواً فيها. أي أنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. إذن لابد لنا من أخذ هذين المستويين في الإعتبار عند دراستنا وتحليلنا لفهم وتفسير الفعل الاجتماعي الإنساني للفرد سواء من خلال مواجهته للظواهر الاجتماعية بنفسه أو من خلال مشاركته للجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها. من هذا يتضح أن فيبر أعطى لمفهوم الفعل الاجتماعي معنى واسعاً كل السعة بوصفه الموضوع الأساسي للبحث السوسيولوجي من وجهة نظره، فلقد ضمنه كافة أنواع السلوك ما دام الفاعل يخلع عليه معنى”.

ستجرنا هذه السطور جرا إلى سوسيولوجيا الثقافة باعتبارها الحقل الماكروسوسيولوجي الذي تنطوي تحته هذه المواضيع. فقد كان (ألفريد كروبر وكلايد كلاكهون) على ثقة بأن الثقافة بمعناها العلمي هي فكرة علمية واعدة على نحو هائل لاحدود له وأنها حجر أساس للعلوم الاجتماعية. وبعد عملية فحص واستقصاء مفصل للأدبيات عثرا على ما يقصد بكلمة ثقافة، ” واتفقا في آخر الأمر على أن بارسونز وقع على التعريف الصحيح للثقافة حيث الغرض العلمي ، وكان رمزيا جامعا. فقد بني على المعرفة والمعتقدات والقيم…”. فالبشر عند بارسونز لايبنون عالما من الرموز بل يعيشون فيه هو مستخلص من الأفكار المتلقاة وتفرض تلك الأفكار على عالمهم الواقعي، وللعودة إلى أصل الرموز والجذور الثقافية لابد من استبعاد المنطق والعقل الصارم، وقد فاجأ ( ليفي ستراوس ) المشاركين في أحدى المؤتمرات التي تعنى بنفس الموضوع قائلا:”أن هناك ضيفا غير مدعو وهو جالس بجوارنا في المؤتمر، وهو العقل البشري”.

يكون الرمز أو الإشارة وسيلة التعبير بعد تعذر ذلك بالكلام، وقد تكون الغاية من الرمز والإشارة رسالة آنية ظرفية كأن تطلب من أحد شربة ماء أو تعبيرا عن رفض أمر ما، وقد تكون الإشارة أو الرمز يحمل وراءه معنى أو دلالة اكبر مما هو ظرفي أو آني كإشارة النصر (v) أو تحية قائد او زعيم ، وقد تصبح الرموز أو الإشارات تعابير عن عمق انتماء تاريخي أو ولاء طائفي مذهبي فردي أو جماعي (كحرص المغاربة “المالكيون” على السدل في الصلاة رغم أن السنة واضحة في هذا الباب) ، ولسنا بحاجة للتدليل على ماتعج به المجتمعات “الشرقية” بمكثف من الرموز قد تتخذ لها أشكالا يمر عليها الجاهل بمعناها كأنها شيء من الأشياء وهي حمالة معاني وتاريخ عميق، (انظر مثلا إلى طائفة الدروز وحرصهم على ترك شواربهم بذلك الشكل وفي ذلك تاريخ ليس هاهنا مكان للتفصيل فيه).

لقد ظلت “يد لالة فاطمة” المباركة المعلقة على الأبواب والتي تحمي وتقي من العين والحسد متجذرة في المخيال الشعبي الإسلامي عموما سواءا الشيعي أو السني “الغير الرسمي” . لقد انسحبت تلك اليد إلى تفاصيل العادات والتقاليد الاجتماعية “الخميسة” في الحلويات وحلي الذهب ببلاد المغارب وحتى مصر، والزهراء تحضر في الوجدان حضورا ملفتا بسرّها وقدسيتها الخاصة. فلقد حلف المغاربة ودعوا على أعدائهم كما أقسموا بجاه لالة فاطمة الزهراء. وفي الأمداح المغربية نحفظ بذوق صوفي رقيق كلمات من قبيل:

اسعدي يا ربي.. بولاد للاّ فاطم الزهرا .. هما عنايتي

لسنا بصدد الحديث عن إحدى المكونات والعناصر الثقافية بالمجتمع المغربي”المركب” حسب التعبير الشهير لبول باسكون، ولا نحن بصدد الحفر في الأعماق لندلل على وجود تشيع شعبي للمغاربة عبر طقوس ورموز ضاربة في التاريخ، وقد يتساءل البعض: هل صحيح فعلا ما تنقله الروايات شبه الأسطورية؟ فمنها ما يذكر أن فاطمة عليها السلام ضربت يدها على باب بيتها بقوة حتى سال الدم الشريف من يدها بعدما غضبت إثر منع أبي بكر رضي الله عنه ميراث أبيها عليه الصلاة والسلام عنها! ، ومن تم أخذ التضامن الشعبي مع الزهراء في ظل جو سياسي مشحون واضطهاد لآل البيت شديد من طرف عصابة الحكم الأمويين. فعندما ضربت الكلمة الحرة ومنع الناس من الكلام تم اللجوء إلى الرموز.

مايهمنا في هذا المقال المتواضع جدا هو انبعاث حقل الرموز من جديد، وسيتساءل البعض: وهل أفلت الرموز من حياتنا يوما ما حتى تنبعث من جديد؟

في كتابه “بركة النساء” يعتبر د رحال بوبريك أن الفهم الأعمق لمسألة الولاية النسائية يجب أن يتأسس منذ بداية الدعوة المحمدية عبر نسائه صلى الله عليه وسلم وابنته النموذج المثالي في المخيال الشعبي الإسلامي، ويستأنف د بوبريك قائلا :أن رابعة العدوية ( 185-105) هي الشخصية المؤسسة للتصوف وصلاح النساء بعشقها الإلهي وتجربتها الصوفية العميقة وأقوالها البليغة ….

حكايات كثيرة تروى عن رابعة “أم الخير” كلها تنم عن امرأة أبت الأقدار إلا ان تجعل لها مكانا بارزا في التاريخ وذاكرة المسلمين علمائهم وعوامهم، ودع عنك ما ذهبت إليه السينما المصرية بغاية وسم “فلم رابعة” بشيء من الإثارة فوصمت المرأة بأكاذيب وبهتان رابعة منهه براء ولم تشهد لهم ولو وثيقة واحدة من التاريخ بصدق ماقالوه، فكل مايرويه المؤرخون بشتى طوائفهم يفتل في حبل واحد هو امرأة طاهرة من المهد إلى اللحد. كان بعض النقاد إبان ظهور “فلم رابعة” يعتبر رسالة الفلم للجمهور هي: ارقص وتفسخ وتحلل وافعل مايحلو لك وبعدها يمكن أن تصبح كرابعة !

لم يتوقع أحد من الباحثين في العلوم الإنسانية أن رابعة العدوية كشخصية بارزة في المخيال الجماعي للمسلمين كامرأة عابدة زاهدة سيطفو “إسمها” على سطح الأحداث التي يعيشها العالم العربي، رابعة النموذج للتصوف والصلاح النسائي ستنهض من أعماق تاريخ التصوف الخمولي كرمز للعشق الإلهي إلى رمز للصمود والاستشهاد في الميادين وصخب الإعتصامات والإحتجاجات..ورمز لرفض الظلم والتقتيل والاضطهاد.

لم يكن قصدنا في هذا المقال التوقف عند حياة رابعة ولا فاطمة الزهراء، فقد عجت الكتب بسيل من الأخبار عن “الطاهرة” “البتول” عند الفريقين شيعة وسنة، وبرابعة كهف الصالحين ومأوى العشاق والمحبين للذات الإلهية. بل كنا نود فقط “الإشارة” إلى كيف هي مندغمة المعاني كلها من رمزيات وتاريخ وثقافة وأحداث وراء “كف رابعة” الذي أصبح علامة تجارية في بعض البلدان بعد أن تسابق لرفعه مشاهير السياسة والرياضة والفن وبدأ يزحف على المواقع الاجتماعية وأخذ حصة الأسد من الشهرة على الأقل في أيامنا هذه.

يحكي فريد الدين العطار في كتابه المناقبي :” أنه في تلك الليلة التي ولدت فيها رابعة لم يكن هناك شيء في بيت والدها، فقد كان فقيرا جدا ولايملك زيتا يدهن بها موضع خلاصها، ولاقنديل ولا خرقة يلفها بها !، وكان له ثلاث بنات وجاءت البنت الرابعة وبهذا سميت رابعة، فنادت الزوجة عليه ليذهب إلى فلان “الجار” واطلب منه زيتا كي نشعل القنديل، وقد كان الرجل قد أخذ على نفسه أن لايطلب شيئا من مخلوق، فخرج ووضع يده على باب جاره ثم عاد وقال لزوجه إنه لايفتح الباب، فبكت المرأة كثيرا وأطرق زوجها يبكي الليل كله فأخذته سنة من النوم فرأى النبي عليه السلام يقول له: لاتحزن إن هذه البنت التي ولدت هي سيدة سوف يرجو سبعون ألفا من أمتي شفاعتها…”.

يبدو أن تاريخ المسلمين دائما تكون وراء حركية عجلته امرأة، ويقال أنها امرأة وراء الحجاب ! الغريب أنها الآن من وراء التاريخ وتحت الثرى تلهم الثوار من جديد!


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ زهير الحسناوي
    زهير الحسناوي

    موفق أخي نور الدين في هذه القراءة السوسيولوجية..
    نعم “الرمزي” يجب أن يؤجج فينا لهيب السؤال..!!

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: