لقد تطورت النظرة إلى القانون الجنائي الدولي فاتسع نطاقه و مجاله العلمي و بدى ذلك واضحا في محاولة محكمة نورمبرج ، بسبب توسع مجال مدلول الجرائم ضد الإنسانية و محكمة طوكيو و ما أصدرته من أحكام ضد مجرمي الحرب لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية و ضد السلام ،اظافة إلى اتفاقية الأمم المتحدة و التي أصدرتها لجنة القانون الدولي مثل جرائم إبادة الجنس البشري ، بحيث أن العالم شعر بحاجته إلى محكمة جنائية دولية تحاكم مجرمي الحرب و تردي الحقوق المنتهكة لذوي الحقوق ، حتى كان ميلاد المحكمة الجنائية الدولية و مقرها روما سنة 1998 و أرفق لها نظامها الأساسي و الذي يشمل 128 مادة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة صنفا جديدا من الجرائم تسللت ضمن فعاليات ثورات الربيع العربي، فراحت تحصد أرواح أبرياء بالقتل في صفوف المتظاهرين، و بالتحرش جنسيا في تجمع الاعتصام، و خربت مؤسسات و أحرقت هياكل مجتمعية أساسية في هيكلة المجتمع العربي.
فحتى لو اختلفت الرؤى للقانون الجنائي الدولي في أن الفقهاء يختلفون في تأصيله و تحديد جذور امتداده ، إذ منهم من يرى أنه قانون مستقل بذاته و منهم من يرى انه فرع من فروع القانون الدولي.
و لكن تنوع الجريمة سواء الوطنية أو الدولية مثل الاتجار بالأشخاص و ترويج المخدرات و الجريمة المنظمة و القرصنة الجوية و اختطاف الطائرات و اختطاف الشخصيات الديبلوماسية جعل فقهاء القانون يكثفون مجهوداتهم في أن يحتوي القانون الدولي و يساير نماذج هذه الجرائم بتقنين قوانين تفي بغرض التكييف و من ثم إصدار العقوبات اللازمة.
و من منطلق مبدأ السيادة ، فالمتعارف عليه أن القانون الدولي الجنائي فرض قيودا على ممارسة السيادة و ليس على مبدأ السيادة في حد ذاته ، لأن هذا المبدأ محاط بالعناية القانونية منذ وجدت الدول.
و من منطلق مفهوم الشرعية و المشروعية ، كلاهما يدخل في علم السياسة و القانون الدستوري ، و كلى المصطلحين يدلان على ضرورة احترام القواعد القانونية بأن تكون جميع تصرفات السلطات العامة في الدولة متفقة و أحكام القانون بمدلوله العام ، فان وجدت سلطة لا تعتمد على المرجعية الدستورية فهي لا تتمتع بصفة الشرعية.
و لعل ما يلاحظ من خلال التجربة الإنسانية و كيفية مواجهتها للصعاب المربكة للأمن و الاستقرار الدوليين يوجد هناك زيادة في الوعي الإنساني لمكامن الخلل في عدم توازن القوى خاصة أن الحياة الدولية أثرت على حياة الملايين.
فالمعروف لدى القانونيين على اختلاف تخصصهم أنه بالإمكان على كل من ينتهك النظام العام الدولي أن يكيف هذا الخرق على انه جريمة دولية ، و أي تصرف يمس المصالح الدولية يعد انتهاكها جريمة دولية و تهدد المجتمع الدولي ، على الرغم من أن المصالح المشتركة بين الدول ليس لها معيار دقيق.
يتبين لنا أن من فكرة مبدأ السيادة تجعل القانون الدولي الجنائي في نماء في حقيقة الأمر.
و ما يدعم فكرة النماء مبدأ عالمية الحق في العقاب و الذي يفترض تنوع الاختصاص القضائي و التشريعي ،فمجال اختصاص القاضي مقارنة بالمجال التشريعي هو مجال ضيق ،إذ أن القاضي باختصاصه له هدف واحد هو الوصول إلى فرض عدالة سريعة و ناجعة و لذلك فقضاة المجتمع الدولي لهم الحق في الفصل في الدعاوى و لا دخل لهم في مبدأ السيادة الخاصة.
غير أن التشريع يصدر قانونا منظما للجريمة الدولية و لابد من مراعاة وحدة الأنظمة القانونية الجنائية.
و لكن السؤال الذي يطرح نفسه : هل ستلتزم الدول مراعاة القانون الدولي الذي يحتوي على العقوبات الجنائية ، أم أن فيه تحفظات بحيث تبقى التشريعات الوطنية بخصائصها؟
هنا لا بد من التفرقة بين قاعدة من قواعد القانون الجنائي(1) التي يمكن أن تتموج و تصبح قاعدة للسلوك ،فكل من يحصل على شيء بطريق التدليس أو الغش آو يتهم بالسرقة تطبق عليه قاعدة الردع ، لكن هذا الفصل غير واضح فقد يحدث أن يكون قاعدة لسلوك ضمنيا و تستنبط منه قاعدة الردع التي تكفي بالإشارة إلى أن التصرف محظور.
في حين القانون الجنائي يبدو ناقصا ، إذ يكتفي القانون الدولي العام بالنص على أنواع السلوك ليترك أمر وضع قواعد للردع للتشريعات الوطنية مثل ما هو في جريمة إبادة الغش.
فهذا التملص من تمام آداء المسؤولية من شأنه أن يخلق التناقض و الاختلاف في الرأي، فمن يكيف الجريمة له أن يسن العقوبة المقررة لها في نفس الوقت حتى يتحقق ما يسمى أحادية الدور.
عودة إلى ما يسمى بثورات الربيع العربي ، فالتكييف الدولي سنها أنها ثورات ربيع و لكن لم يكن الاسترسال في بنود هذه الظاهرة و تكييفها التكييف القانوني اللائق بها ،بأكثر تخصيص بمعنى أي وجهة إجرامية تتجه إليها هذه الثورات ؟، ثم هل احتوتها الأجهزة الدولية كهيئة الأمم المتحدة و الهيئة الدولية لحماية حقوق الإنسان و كذا محكمة العدل الدولية فيما إذا كان دورها هو نفسه في تقصي الحقيقة و معاقبة المجرمين ككل مناسبة دولية من المفروض أن تكون ؟.
فالحرب في نظر القانون الدولي لم تكن مذمومة في الماضي و إنما نتائجها هي التي رسمت أصلها ، و منها أن القانون الدولي رسم حدودا بالنص على بنود بمقتضاها تمتثل الدول لقواعد تلتزم بها أثناء الحرب ، و بذلك ظهرت ما يسمى ملامح الإنسانية في تحكيم العقل و توظيف الضمير في عدم تجاوز القواعد المسطرة أثناء الحرب منها حماية الأسرى و المصابين و المدنيين و بعض الهياكل المؤسساتية التي يقوم عليها نبض الحياة في الدولة.
صحيح أن الثورات العربية هي انتقال ديمقراطي و إعادة بناء الدولة و لكن لابد للقانون الجنائي الدولي أن يبرز وسط الضباب المعتم ليلعب الدور الأهم و ليس المهم في متابعة المجرمين و تكييف الجرائم التي يقومون بها مستغلين لهيب الثورات و دخانها و كذا توقيع العقوبات اللازمة حتى يأخذ الانتقال الديمقراطي المنحى الصحيح من التغيير الشرعي تحت لواء الشرعية في احترام القانون الدولي و لا شيء يعلو فوق سيادة القانون إحقاقا للعدالة و حماية لحقوق الإنسان من الضياع و من الانتهاكات المستمرة و ذلك بتفعيل الآليات القانونية في مكافحة الجريمة الدولية..بدل أن تغيب الحقائق الحقيقية وسط كوم من الأكاذيب و التلفيقات الغير مبررة قانونا و بذلك تغيب الرؤيا الصحيحة و يغيب التطبيق الفعلي للقانون الجنائي الدولي حاميا للحقوق و راعيا للممتلكات و الثروات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد العزيز العشاوي: أبحاث في القانون الدولي الجنائي ،دار هومة ، الجزائر، طبع في سنة 2006 ، ص 128.
اترك رد