سرديّات الانهزام: "موت الفوات" لمحمد الهجابي نموذجا

” لن يرحمك سوى انطفاؤك (كذا) وسط المفازة. بينك و بين البين هياكل روح تأبى الاتساع لك. فارحل و لا تساوم “. الرواية : 179.

” كنت أسمع هاتفا نابعا من بئر روحي يهمس لي. ألا عجّل بالرحيل. فهو دواء جسدك المثخن و علاج حوبائك المكلومة”. الرواية 181.

ليس الرحيل في هذين المقتبسين دافعه اكتشاف القارات، و التبشير للاستيلاء على مستعمرات شأن ما كان مع روبنسون كروزو بطل الرواية الأنكليزية الفاتحة، وفق ما ارتآه إدوارد سعيد(1)، ولكنّها الهزيمة تنخر بطل رواية »موت الفوات«¬(2) وشخصياتها، فتدفع إلى الرحيل. وهو بعض ممّا حدا بنا إلى أن ندرج هذه الرواية ضمن دائرة سرديّات الانهزام في محاولة لقراءة ثقافيّة(3) تسعى لفهم الرواية مندرجة في سياقها الثقافي الذي أحدثها، في إطار وعي ملازم بضرورة توسيع المقام السرديّ، فلا نحصره فيما أقرّته المناهج البنيويّة، و إنّما نمطّ في أطرافه ليشمل الرّوائيّ وما يتّصل به من أعوان، ومن أطر تمثّل السياق الحافّ بعمليّة الكتابة.

وكيفما قلّبنا وجوه تناول رواية “موت الفوات” لمحمّد الهجّابي، وجدنا الانهزاميّة مدارا جامعا لمختلف أوجه الحضور فيها، على مستوى عناصر المرويّ، و على مستوى فعل الكتابة الرّوائيّة ذاته. فقد تضافرت لتأثيث المعنى في الرواية أربع تيمات أساسيّة هي المطاردة و الرحيل و الجنس والخيبة.

تبدّت تيمة المطاردة في هذه الرواية من خلال سمتين اثنتين، مضمرة خفيّة لم يصرّح بها الراوي ولا الشخصيّات، و ندركها ممّا يؤول أليه مآل الشخصيّات (نعيمة، الخال مصطفى، سعاد، …). إذ أنّها كلّها تترك الوطن و تنسلخ عنه، لأنّها لم تجد مكانا يتّسع لحضورها فيه، فأكرهت على اجتوائه واضطرت لمغادرته(5).

و أمّا السمة الثانية للمطاردة في هذا النصّ الرّوائي، و هي الأهمّ فيه و الأبرز، فأن تكون صريحة معلنة. تبدو انطلاقا من وجود عنصر البوليس، و السيارة “الفاركونيت” الزرقاء. و إن اكتفى فيها الراوي بحدود المراقبة دون تصعيدها إلى مواجهة مباشرة بين البطل و رجال الأمن، فإنّها أفضت إلى أن تشكّل هاجسا ما ينفك يستبدّ به في يقظته و هجعته. يتجسّد في كائنات غرويّة و زئبقيّة عديمة الشكل تترصده في كلّ منعطفات تحركاته، و تنبق له من كلّ الفرجات(6)، في حالة أقرب ما تكون إلى المرض و الهوس.

و ضمانا لفسحة أمل تخوّل الاستمراريّة، أوكل الراوي إلى إحدى الجرائد نشر خبر اختفائه في لعبة إذ تؤجّل عنه ضغط المطاردة الكابس، فإنّها تشرخه ذاتين، ذاتا تبحث عن ذاتها. يقول : »حررت خبرا، ووجّهته إلى برنامج إذاعيّ يعنى بأخبار المتغيّبين أبحث عنّي، بعد أن فقدتني منذ ما ينيف على العقدين من السنين«¬. الرواية 15.

إنّ شخصيات هذه الرواية أغلبه تطارده الأشباح. وجميعها يبحث عن ملاذ. تداوى بعضها منه بالجنس. و هو تيمة لها حضور قويّ في هذه الرواية. و لم يكن فيها لتقصده الشخصيّات لذاته، و لكنّها كانت به تزجي فشلها و تدفعه، و به تغالب راهنها و تجترح ما يمكّن من مواصلة الوجود و يسكّن مشاعر الخوف، و تباعد به واقع القمع و التعذيب، و تملأ به فراغها، و به تستعين لنسيان الهزائم وتجاوزها، و تفرّغ عبره مكبوتاتها المختلفة السياسيّة منها و الاجتماعيّة(7).

وقد شكّل الرحيل هو الآخر محورا ثابتا في رواية “موت الفوات”، هفت إليه الشخصيّات جميعها. فكان حقيقة عاشها أغلبها، هاجر الخال مصطفى إلى كندا مع عائلته، وهاجرت نعيمة إلى الإمارات، و سعاد إلى باريس و نعمان إلى أوربّا. ومثله سعاد ورقية، وإذا لم يكن الرحيل واقعا تعيشه الشخصيّة و تحقّقه، فإنّه يكون حلما مبتغى، تروده الشخصيّة و لا تدركه. سواء أكان رحيلا عن الوطن، أم رحيلا إلى الزمن الماضي زمن الفعل و النضال، أم رحيلا إلى أزمنة البدء، أم رحيلا في الأمكنة التاريخية هروبا من قيد اللحظة و المكان، و خلاصا من قيودهما(8).

وإذا ما نظرنا إلى أنّ النصّ هو وطن المبدع، و أنّ الرواية هي وطن الروائي و جغرافيته الحميمة، فإنّ الرحيل في نصّ “موت الفوات” يمكن أن يفهم من جهة الكتابة ذاتها في إطار ما يمكن إدراجه في وعي الرواية بذاتها. فالروائي بعد أن أنهى مشروعه و اطمأنّ إلى أنّ “عمارته” على صورة مخصوصة يرتضيها غادرها إلى مجهول جديد. يقول : »صرت أتلّهى في تزجية الوقت بالتأكد من الترتيبات النهائية لاكتمال الحكاية، و انسجام خيطها الناظم. وما إن جُنّ الليل وأمعن، واستراح سكان العمارة إلى دورهم ومطارحهم ]…[ حتى انسللت وانحدرت أبغي الشارع ]…[ . سرت مسافة ثمّ إنّني استدرت أختلس النظر إلى العمارة لبرهات استرجع هيأة شقتي و حال أثاثها. و مختلف التوظيبات التي أجريتها لكي تصدق الحكاية«¬(9).

لقد أفضت تجارب الشخصيّات كلّها إلى الفشل. فكانت الخيبة من الخواتيم الثابتة في مساراتها. فالبطل أحمد الهلالي فشل مناضلا و صحافيّا، كما فشل مع كلّ من كانت له بهنّ علاقات عاطفيّة. هجرته سعاد. و من قبل كانت قد فارقته ليلى ورقيّة. و استطاعت نعيمة أن تجعل منه كرها هزأة(10). و مريم انتحرت. و نعيمة خانها زوجها و مات عشيقها. و مصطفى أفضى به النضال إلى الاعتقال والتعذيب. وعبد الصمد انتهت مسيرته النضاليّة كذلك إلى التعذيب ثمّ إلى الخبل و الخرف انتهاء بالانتحار. والراوي فشل في مشروعه »تعقّب أخبار المتغيّبين«، بل إنّه غادر الراوية و هو لم يبدأ بعد في إنجازه. و كانت بينه وبين القارئ ،كذلك، أزمة ثقة و تصديق. يقول : »صحيح أنّني اكتفيت في الغالب الأعم بالترميز دون الإفصاح لكن حتى في هذا المقام كنت أخاف من أن أنعت بالخبل والخرف. ومن يصدق أنّ سيارة تتعقبني من دون سائر البشر« (11).

وسوف لن نذهب بعيدا في استجلاء تيمة الخيبة في هذه الرواية. فهي واحدة من الدلالات التي يفصح عنها عنوانها “موت الفوات”. فإذا لم يكن هذا العنوان دالاّ على موت مضاعف، فإنّه في درجة من درجاته الدلاليّة الموت فجأة. إذن هو موت مجّانيّ أبيض، ليس له دافع و لا غاية، سواء أكان موتا يصيب الشخصيّات، أم يصيب المؤلف ذاته فيما أتت به النّظريّة الأدبيّة.

إلى ما تقدّم يمكن أن تضاف إليه تيمات غيره، كالاغتراب و القهر…، و هي تيمات كما ترى تتآلف جميعها فيما بينها و تتصادى لما يجمع بينها من أمشاج قربى دلاليّة. فإنّ لم تكن من بعضها تتوالد، فإنّ بعضها نتائج لبعض ومآلات.

انبنى المرويّ في هذه الرواية وفقا لطريقة الحبك المتوخّاة في الرواية البوليسيّة. إلاّ أنّ الراوي لم يبق على نظامها قائما كما عهدناه فيها، و إنّما أخرجه إخراجا جديدا. أبقى على عنصر الأمن والمبحوث عنه، وألغى ما هو دون ذلك(12) سوى إشارات ظنينة إلى ما يشبه “الجريمة” ممثّلة في البحث عن أخبار المغيّبين !(13). فقد أوقف الراوي مسار البحث والمطاردة في حدود البداية، ولم يتجاوزها ليدرك رواية تفاصيلها وما تسفر عنه. وضيّع خيوط هذه الحكاية الأساسيّة: البحث عن أ.هـ. . ودُفع إلى التلهّي عنها بسرد حكايات فرعيّة. فمثلا، يروي ما قاله الفنّان، ثمّ ما قاله له صديقه، ثمّ يعرض موقفه من سعاد، وما روته لهما، ثمّ يصل إلى الحديث عن السيارة والبحث عن أ.هـ. ويعلّق الحكاية لينتقل إلى أخرى فرعيّة جديدة. فيروي ذهابه و سعادَ إلى الشقة، ثمّ حكايةَ الزوج(14). كما انشغل الراوي عن رواية الحكاية الأساسيّة كذلك بنقل مشاهد وصيفة أو حواريّة (15) تمنعها جميعها التنامي و الاكتمال، وتعطّلها في حدث واحد يبرز فجأة مجسّدا من خلال حضور السيارة الفاركونيت الزرقاء فيما يشبه اللازمة التي تتكرّر في الرواية(16).

وقد توخّى الراوي كذلك، لتهميش الحكاية الأساسية في هذه الرواية تقنية التكرار، وهو فيه إمّا أن يكرّر الزمن الرّاوي والمرويّ معا فيما اُصطُلح عليه بالسرد التكراريّ، وإمّا أنّ يعيد فيه الأحداث ذاتها مخالفّا بين أزمنة وقوعها فيما اُصطلح عليه بالسرد الإعادي. فأفعال البطل والشخصيّات تنحصر في حدود الأكل والشرب والمضاجعة والنوم والجلوس في المقاهي والبارات والمراقصة. وجميعها يغرق في الهامشيّ من الأفعال ممّا يمكن أن يعكف عليه مجتمع الهزيمة و ينحبس في مداره و يسلم معه من الرقابة الضاربة أطنابها عليه. و إذا ما فارقت ذلك إلى ما هو نموذجيّ فيكون على قلّته في هذه الرواية على سبيل الاستذكار و المسارّة.

إنّ الراوي في رواية “موت الفوات” إذ يهتمّ بالحكاية، فإنّه لا يلتزم بروايتها بالمعنى المفهوم : حكاية لها بداية تفضي إلى وسط ونهاية، ذات ترابط وثيق و منسجم، وإنّما كان في نصّه هذا يراصف بين مشاهد ينتزعها من الذاكرة و يقتطعها من سيرته مرتهنا بحدود لم يتجاوزها : عمله في الجريدة، وعلاقاته بسعاد و نعيمة وبسيارة الفاركونيت، دون أن يوغل في تقليب صفحات عمره الماضيات لينهي روايته برحيله إلى المحطة و اقتفائه أثر شيخ كان قد التقاه دون سابق اتفاق.

والشخصيّات في “موت الفوات” أغلبها ينبثق من واقع الطبقة المثقّفة. منها الصّحافيّ، والطالب، والمدرّس. وإذا لم تكن وثيقة الصلة بالمؤلف (أ.هـ = مـ . هـ)، فإنّها قريبة جدّا منه. كلّ من هذه الشخصيّات مفصول عن انتمائه الأسريّ، ينشد العزلة والعيش المنفرد. تربطه علاقات عابرة مفكّكة مهزوزة تصنعها اللحظة المرهّنة بهذا اللقاء أو ذاك في المقاهي أو المشارب و الملاهي. حياتها موزّعة بين ماض متجاوز عنه لا يظهر إلاّ لماما، و حاضر موسوم بالتسطّح والانشراخ والخضوع لسلطان الجسد والقلق العاجز والانهزاميّة والسقوط المنزوي حيث لا مساعد ولا معين. ولم تستطع بمجموعها أن تشكّل نواة مقاومة لتيّار جارف. ولا بعضها استطاع أن يكون لبعض ظهيرا. يقول الراوي : »إن البئر التي حفرناها بالأسنان والأظافر والدم والأسياخ ما عادت قادرة على مدّنا بأساطير مغايرة تكون لنا المتاع والعون والحافز. نضبت البئر فتشذّر القوم. وها آنذا أساكن وحدانيتيّ وأنعكف في اغترابي«(17).

لقد خضعت العلاقات بين الشخصيّات في هذه الرواية لبنية مشوّهة انشدّ فيها البطل إلى قطبين اثنين: قطب مثلته المرأة وكانت هي ذاتها في حاجة إلى من يسندها، وقطب مثلته السلطة بمختلف تجلّياتها وتلويناتها. والشخصيّات في هذا الأثر مدفوعة بعوامل ذاتيّة ترغّب في الصفح عن الآنيّ، بل في مجابهته بالانغماس في الجنس والسكر والنكت الداعرة تروغ بها عن المطالب الكبرى، وتزهّدها في الصراع والمواجهة والمكاشفة، لتظلّ شخصيّات مجوّفة لا تقوى على تجاوز ضعفها. حتى إنّ هذا الصنف يدفعنا إلى ننفي عنه سمة الشخصيّات الإشكالية. فقد تجاوزتها إلى نموذج لا يسعى إلى تغيير الواقع و لا إلى التصالح معه أو البحث عن صيغة تعايش معه. ولكنّها تحاول دائما الفرار حفاظا على وجود في درجته الدنيا.

والراوي في رواية “موت الفوات” هو راو داخليّ قرينُ المؤلّف أو شبيه به. يغرق روايته في سرد استعاديّ. يعكف فيه على الغوص في ثنايا ماضيه الخاص على غير مألوف السير. يكتفي فيه- إذ ينحبس في دائرة الذكرى – بالتركيز على زمن العجز و الهزيمة و الضياع، متحاشيا ما أمكن الحديث عن فترات النضال التي خاضها أيام كان كحمار الطاحونة يجوب المداشر و المدن ينشر الدعوة ويحشد الجماهير لصالح القضيّة(18).

وقد كان لهذا الضرب من حضور الراوي في الحكاية، أن يكون إدراكه فيها شموليّا، تؤسّسه وجهات نظر وإن بدت داخليّة فإنّها لا محالة تنفصل عن وعي الشخصيّات بما فيها تلك كانها. فقد ذُوبت خطاباتها في خطاب الراوي وأُجهضت حواراتها، فتلاشت في مزق من الأقوال غير المباشرة، توزّع هنا و هناك طيّ الحكاية في هذه الرواية.

إنّ تيمات كالمطاردة والجنس والرحيل والخيبة، وحكاية علّق مسارها الرئيسيّ، واُلتفت فيها إلى حكايات جانبيّة، وأغرقت في الهامشيّ العارض، وشخصيّات ركبها الخوف و الهواجس فانزوت تطلب العزلة وأعرضت عن راهنها تلوذ منه بالفرار و الهجرة، وراو يعكف على استذكار ماض كابس تولّى، هي رواية هزيمة تتواءم و السياق الذي فيه تندرج بما أنّ الرواية شكل ثقافي(19) هو شكل المجتمع ذاته بما يختمر فيه من سلوكات و أنماط وعي، و ما ارتكز في لا شعوره الجمعيّ و الفرديّ من متصورات و ما أحدثته فيه الوقائع المتتاليات من هزائم ممضّة كانت من عوامل وجود الرواية العربيّة الحديثة و وجودها كتابة روائيّة مخالفة، من هزيمة سبع و ستين و تسعمئة و ألف إلى حرب الخليج الثانية، إلى سقوط المعسكر الاشتراكيّ إلى تداعيات أحداث ما بعد الألفية الثانية إلى حرب الخليج الثانية و ما يخلّل هذه الهزّات من خيبات قطريّة و ظواهر عالميّة كانت شقاء للمثقف، والروائيُّ وجهٌ من وجوه تجسّده. ففي كلّ هزّة كان دوره ينحسر إلى أن عزف عن تمثّل الواقعيّ و مال إلى تشخيص الذاتيّ في محاولة منه لخلق عوالم غرائبيّة، و لمحاورة الكتابة ذاتها(20)، وصولا إلى الانكماش على الذات رصدا لخيباتها و حالاتها فيما يشبه الرجوع إلى تذويت الرواية فتحجمُ عن أن تناكف الواقع أو تحتجّ عليه.

إنّ كثيرا من الأسئلة و الإشكالات تَبتدرُنا فيما نحن نحاول قراءة رواية موت الفوات لمحمّد الهجابي.

فهل أنّ هاجس التجريب ضمُر و حدّته خبت لتراجع الرواية العربيّة التجريبيّة بصفة عامة، والرواية التجريبيّة المغربيّة بصفة خاصة، تجربتها بعد أن ثبت أنّ رواية التجريب ليست هي رواية الحرّية(21) بقدر ما هي رواية الهشاشة، فتعود إلى إيلاء الحكاية مكانة في الرواية و إلى عدم التعويل كثيرا في بنائها على المفارقات والتقطيع، و إلى إكساب الشخصيّات تمايزها وبعضا من عمقها، وتحجيم التجريب اللّغويّ بتقليص وعي الرواية بذاتها إلى درجاته الدنيا، فيتسنّى القول إنّ رواية التجريب عجزت عن تجاوز ثوابت الرواية الكلاسيكيّة في ظلّ مجتمع لمّا تزل بناه و هياكله موسومة بالتقليديّة.

هل أنّ الهزيمة باتت إحدى مكوّنات الوعي الباطنيّ للروائيّ المغربيّ و العربيّ بصفة عامّة حتى تكون الكتابة – قبل أن تكون محكومة بالرقيب الخارجيّ- محكومة بالرقيب الداخليّ يضطره إلى أن يدور في فلك الهامشيّ العارض.

كيف يمكن أن نفهم قول أحدهم : »إنّ أدب الشعوب الفتيّة في العالم الثالث الذي يُنتظر منه أن يساهم في بناء هويّة قوميّة و ثقافية لا يمكن أن يكون دون قيمة«(20)؟.

هذه هي بعض ملامح سرديّة الانهزام كما قدرنا على مقاربتها في رواية “موت الفوات” من حيث تيماتها، و طريقة الحبك فيها، ومن حيث شخصيّاتها وطبائع العلائق فيما بينها ونوعية الرواية وطبيعة الإدراك المتحكم في مروياته وهي تحديدا سمات غالبة على الرواية العربيّة ما بعد التسعينيّات. أسماها بعضهم بكتابة الانزواء أو رواية الحالات(21)، و أطلقنا عليها سرديّات الانهزام. وليست أجزم بأنّ هذه هي الملامح الجامعة لهذا النهج الرّوائي قثمّة دائما ما يمكن أن يوسّع من دائرة إنشائيّتها و يضيف إليها.

الهوامش:

1- انظر : سعيد، إدوارد : الثقافة الامبريالية. تر : كمال أبو ديب. ط . 2. دار الآداب. بيروت. 1988. ص : 138. حيث يقول : »إنّ الرواية الانكليزية دشنت برواية روبنسون كروزو. بطلها مؤسس لعالم جديد و هو مرتبط بسرديات الرحلات الاستكشافية في القرنين السادس و السابع عشر التي وضعت أسس الامبراطوريات الاستعمارية العظيمة«.

2- الهجابي، محمد : موت الفوات. إفريقيا الشرق. المغرب. 2005.

3- القراءة الثقافية هي »القراءة التي تفسّر النصّ في ضوء الثقافة التي أنتجته …] [ و هذه القراءة تسعى إلى رصد التفاعل بين مرجعيّة النصّ الثقافي و الوعي الفرديّ للمبدع فتنطلق من الخلفية الثقافية للنص، مرورا بتأويل مقاصد المبدع ووعيه وانتهاء بدور القارئ الناقد حيث ينفتح المجال أمامه لتأويل العلاقة بين المفهوم دلاليّا و جماليّا داخل النصّ : يوسف، عبد الفتاح أحمد : استراتيجيات القراءة في النقد الثقافي. نحو وعي نقدي بقراءة ثقافية للنص. عالم الفكر.ع.1. سبتمبر. 2007 ص : 160. «.

4- توجّه كثير من النقاد الغربيّين مثل هذا التوجه. للتوسع انظر : يقطين، سعيد : انفتاح النص الروائي النص والسياق. ط.1. المركز الثقافي العربي. بيروت. الدار البيضاء 2001. ص : 29.

5- تقول نعيمة إحدى شخصيات الرواية : »كلّ شيء أصبح مقرفا. و لا يستحق حتى الرثاء. و الحل أن نغادر قبل فوات الأوان […] إمّا الهجرة و إمّا الجنون«. الرواية : 105. و تقول مريم : » أصبح ]الفنان[ مجبرا على ارتياد أفاق الهجرة لئلا ينتحر«. الرواية : 120. و يقول الراوي عن نعيمة : » إنّها اجتوت البلد« مص.ن 176.

6- يقول الراوي عن نفسه : »بينما كنت ممدّدا في الفراش على جنبي الأيمن ما بين النائم و اليقظان[…] إذ بفرضية تراودني و تستبد بجماع تفكيري قلت إن قوّة ما قد تكون أمنيّة أو مخابراتية أو سياسيّة أو دولاتية محلية أو أجنبية لا فرق، وضعت خطة محبوكة تريد النيل من مواطنين بعينهم […] و قدرت أنّني أحد هؤلاء المستهدفين و أحسست أنّني إنما أخضع الساعة لقوانين مرحلة البداية […] فما الفاركونيت الزرقاء […] سوى عناصر البدأة«. الرواية : 36. و يقول : » فقد أضحت تتوارد في ذهني شوارد حلمية مثيرة لكائنات غروية و رغوية و زئبقية. لا شكل لها تترصّدني عند كلّ منعطف زقاق أو شارع. أحيانا أحس بها كما لو تسمّرت في مواضع بعينها، داخل الشقة، تسفني بنظرات صادرة لا تزيغ و أشعر بها في أحايين أخرى و قد اتخذت هيأة عين لا تطرف تتفرس فيّ من وراء زجاج مرآة الحمّام و من قلب زجاج جهاز التلفاز و من بؤبؤ مصباح السقف و من داخل أكرة الباب و لعلها تشخص من بالوعة حوض الماء، و من رسم بالجدار، و أحسها تقيم في برواز المنبه أو تثوي في قاع فنجان القهوة« مص.ن : 34.

7- انظر الرواية : 43، 49، 54، 58، 88، 103، 174، 176.

8- انظر الرواية : 61.

9- الرواية : 180.

10- انظر الرواية : 124، 152.

11- الرواية : 157.

12- للتوسع انظر : Paris 1971. P : 16 T.Todorov ; Poétique de la prose, Seuil,

13- انظر الرواية : 157.

14- انظر الرواية : 25-27.

15- انظر مثلا الرواية : 15 .

16- انظر الرواية : 27، 33، 106، 108.

17- الرواية : 169.

18- انظر الرواية : 146-168.

19- انظر : سعيد، إدوارد. مر. مذكور. ص : 139

20- تقول دينا دريفوس عن الرواية الحديثة : » إنّ الرواية المعاصرة تنحو لأن تصير رواية عن الرواية« نقلا عن مدخل إلى نظريات الرواية. لبيير شارتيه. تر. عبد الكريم الشرقاوي. دار توبقال للنشر. ط1. 2001 ص : 210. ويواصل بيير شارتيه فيقول : »حصل أحيان انطباع بأنّ النظرية توشك أن تلتهم الممارسة« مر. ص. 212.

21- يقول محمد الباردي مستندا إلى ما ذهب إليه آلان روب غرييه :”إن الرواية التجريبية هي رواية الحرية إذ تؤسس قوانينها الذاتية وتنظر لسلطة الخيال وتتبنى قانون التجاوز المستمر.”انظر كتابه إنشائية الخطاب الواقعي في الرواية العربية.ص 242.

22- Jurt, Joseph : La réception de la littérature par la critique Journalistique. Lecteurs de Bernanas. Ed. Jean. Michel place. 1980 P.33.

23- انظر : الكيلاني، مصطفى : زمن الرواية العربيّة. كتابة التجريب. دار المعارف سوسة. تونس. ط.1. 2003. ص : 218-219.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد