برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان المولى سليمان، تمت مناقشة أطروحة الباحث أحمد الفراك لنيل درجة الدكتوراه في الفكر الإسلامي يوم الجمعة 27 دجنبر 2013. وكانت تلك الأطروحة في موضوع: علاقة المسلمين بالغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني. وقد تألفت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: الأستاذ المشرف الدكتور سعيد شبار، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن العضراوي رئيسا والأستاذ الدكتور بنسالم الساهل عضوا، والأستاذ الدكتور ابراهيم رضا عضوا ، والأستاذ الدكتور عبد الناصر أوقسو عضوا.
وفي ختام المناقشة حصل الباحث على درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
نص التقرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى على جميع نعمه وفضائله
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى جميع أنبيائه ورسله ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد.
السيد العميد، السادة أعضاء لجنة المناقشة، الإخوة الطلبة والطالبات الباحثين..
الحضور الكرام جميعا من الأسرة والعائلة والأصدقاء والضيوف.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بداية أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذنا المشرف الدكتور سعيد شبار على قَبوله الإشراف على هذا البحث وتتبع مراحله لـمَّا كان إشكالا وتساؤلا إلى أن استوى أطروحة قابلة للمناقشة، وأشهد بالمناسبة أنه أسرني بتواضعه وحُسن توجيهه فجزاه الله عني وعن باقي الباحثين خير الجزاء. وأشكر جميع أساتذة وحدة التكوين والبحث في “الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية” إذ استفدتُ من محاضراتهم ومقالاتهم ومؤلفاتهم جميعا، فضلا عن توجيهاتهم في اللقاءات التكوينية التي تنظمها الكلية مشكورة في شخص السيد العميد ومن يشتغل معه في تجويد الخدمات العلمية التي تقدمها للطلبة والباحثين، وأشكر اللجنة التي تحملت أعباء القراءة لهذا البحث وتقويم اعوجاجه وتصحيح أخطائه، في منهجه ومضمونه. وأشكر جميع الأصدقاء الذين ساندوني في إنجاز هذا البحث وخاصة أولئك الذين جمعني بهم همُّ العكوف على القراءة والمذاكرة والمحاورة في سبيل المعرفة طيلة أعوام الإعداد في سلك الدكتوراه. ولا أنسى أهل بيتي من السيد الوالد حفظه الله والزوجة والإخوة والأخوات والأبناء والعائلة وجميع من له علي حق الشكر.
أما عن موضوع الأطروحة فقد رسا بعد تصحيح وتصويب على العنوان التالي: “علاقة المسلمين بالغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني”، وهو يختزل إشكالا كبيرا يحمل تساؤلات شتى تساوي في تشعُّبها تاريخ هذه العلاقة وواقعها ومستقبلها، فالمسلمون والغرب كتلتان حضاريتان مختلفتان تنوعت العلاقة بينهما تاريخيا بين الخصام والتفاهم، فوقع بينهما التناكر والتحارب مثلما وقع التعارف والتآلف. وإن لم تبرز العلاقة مع الغرب بمعناه المعاصر إلا بعد الاحتكاك العسكري والثقافي في القرن التاسع عشر نتيجة الصدمة التي أحدثـها اتصال المسلمين بالغرب الصناعي والمسلح، حيث عُرف الغرب بوجهين متناقضين: وجه الديمقراطية والتقنية والرفاهية، ووجه الاحتلال والهيمنة والامبريالية، كما نُظر إلى المسلمين نظرتين: نظرة الموقع الاستراتيجي المغري، ونظرة العدو المنافس “منافسة العبد للسيد، إذا تمرد انهارت السيادة”[1].
ولا شك أن علاقة المسلمين بالغرب بقدر ما هي مثقلة بآثار الصدام التاريخي بينهما، فهي تجر معها أزمة فكرية مركبةً تنبئ عن عمق التفاعل سلبا وإيجابا بين الحضارتين، وعن كون المشكلات بينهما ناجمة حينا عن وجود التلاقي والتشابه في الأصل، وحينا آخر عن الاختلاف والتباين الواقع في التاريخ. لذا يفرض هذا المعطى على كل من المسلمين والغرب تجديد النظر في طبيعة هاته العلاقة القائمة، وبحث إمكانات تجاوز العوائق التي كرست الأزمة وأبَّدت المشاكل وأشعلت فتيل الصراع وشجعت فلسفة الصدام، انطلاقا من استلهام العناصر الجامعة أو المشتركات الكبرى التي تنجذب إليها الأطراف وتنتظم وفقها القيم الإنسانية الكلية.
هذا الواقع يثير الفكر لتحليله والإسهام في تغييره، ولا شك أن عقلاء العالم مقتنعون بضرورة الإعداد لمستقبلٍ تلتقي فيه مصالح الناس وتتقارب ثقافاتهم وتتعايش حضاراتهم، والبحث عن مشترك تلتقي فيه الإنسانية وتتخلص من تبعات عصور الفتن والكراهية والظلم. وتتجاوز الخطاب التحريضي السلبي الصدامي الذي يجتال الناس ويؤبد الصراع الديني والعرقي والقومي والاقتصادي والعسكري والسياسي، من هنا ينبع الإشكال: كيف تنصلح العلاقة بين المسلمين المؤمنين بالقرآن رسالة عالمية خاتمة ومنهاجا معرفيا وسلوكيا للفرد والجماعة والأمة والإنسانية، وهم يجرون معهم تراثا ثقيلا ومختلطا، وبين الغرب المشبع إلى جانب تفوقه التقني والعسكري والسياسي بقيم الوضعية والعقلانية والبراغماتية؟ كيف ننتقل من فلسفة الصراع إلى فلسفة المشترك؟ وما هي الأسس والأصول الكبرى لهذا المشترك الإنساني؟
من خلال هذا الإشكال المركزي تطرح جملة من التساؤلات من قبيل:
1. ما هي أسس المشترك بين “المسلمين” و”الغرب” على المستويين الديني والعلمي؟ وكيف تُسهم الأديان باعتبار وحدةِ أصلِها ووحدة غاياتها في بناء مشترك إنساني عالمي؟ وما هي خصائص الرؤية القرآنية لوحدة الدين بين الناس؟
2. بماذا تتحدد منطقة المشترك العلمي والمعرفي بين المسلمين والغرب؟ وكيف تُحمى المشتركات العلمية والمعرفية من التوظيفات غير العلمية التي تتهددها باستمرار؟
3. كيف يتأسس مشروع العمران الإنساني المشترك، الذي يتعارف فيه الجميع ويتعايشون إخوة مكرمين في الإنسانية من غير تعصب للون أو العرق أو اللغة أو القومية أو المذهب؟ وما هي خصائص هذا العمران المشترك في معمعان “الأزمنة الحديثة”؟ وما مقاصده الكلية؟
4. أليس من المشترك بين الناس قاطبة وضمنهم المسلمون والغرب وجودهم على الأرض واقتياتهم مما حولها من فضاء وعطاء كونيين، حتى إذا وقع ضرر بالبيئة في مكانٍ ما فإنه يؤثر على باقي الأمكنة وباقي الناس، فهل يقود الوعي بعالمية الأزمة إلى الوعي بعالمية الحل المشترك الذي يقترحه القرآن على الإنسان؟
5. أليست قيم العدل والإنصاف والحرية والسّلم وتكافؤ الفرص قيما ومطالب إنسانية مشتركة ومُلحة -دينا وعمرانا ومعرفة وبيئة-؟ وبالتالي كيف تسود هذه القيم بين الحضارات والثقافات ليُسهم كل بما فيه وما عنده في إغناء المشترك الإنساني وتطويره لصالح النفع البشري العام؟
6. إذا كانت الرسالات الـمُـنزلة مجمعة على الأساس الديني التوحيدي في أصل انبثاقها، وتتغيأ إسعاد الإنسان -فردا وجماعة- سعادة ممتدة في الدنيا والآخرة، فما هي العوائق الذاتية والغيرية التي تعطل هذه الوظيفة وتحرم العالم من خيرٍ ساقته العناية الإلهية من غير تكلف مِن أحد؟
7. كيف تُعالَج العوائق الذاتية عند المسلمين لتنطلق طاقاتهم نحو عالم جديد يستوعب الإكراهات الموضوعية ويستعمل الإمكانات المتاحة لإنجاز المهمات الحضارية المستقبلية؟ وكيف يبرأ المسلمون من أدوائهم الفكرية والحضارية ويشيدون نموذجهم المعرفي المنبثق من مرجعيتهم الخالدة (الوحي الكريم)، وفي مقابل ذلك كيف يرشد خطاب الغرب وسلوكه ليُسهم من جهته في بناء الثقة بين الشعوب والتكامل بين الحضارات؟
عمق هذا الإشكال وتشعب أسئلته فرض على البحث أن يتجه صوب إعداد جواب شامل يوازي حجمه ويجمع شتات أسئلته، وفي ثنايا معاناة البحث لم أجد فرضية لهذا الجواب انقدحت في ذهني وأنا أحاول تدبر القرآن الكريم وأزاول الاحتكاك المعرفي بالعديد من الأبحاث والنظريات التي تناولت الموضوع سوى فكرة المشترك الإنساني، آنذاك تساءلتُ عن إمكانات بناء هذه النظرية في مبادئها وتطبيقاتها واختباراتها والتحقق من صدقيتها، وهو ما حاولت معالجته من خلال أبواب وفصول هذا البحث.
وجاء هذا العمل ليكون إسهاما متواضعا في الحوار الدائر حول إشكال العلاقة المركبة بين الطرفين، ومحاولة اكتشاف تلك الأسس والأصول المشتركة من خلال تدبر القرآن الكريم والتفكر في الواقع الذي يعيشه الإنسان. وهي الأسس التي يمكنها أن تكون مدخلا لإعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة وتقويم القراءات المقدَّمة بصددها. استجابة للدواعي التالية:
– الدواعي الدينية العقدية: وتتجلى في وحدة الدين الأصلية، أو قل “الدين المشترك” الذي أرسل الله من أجله جميع الأنبياء والمرسلين أسوة للناس أجمعين، وبالتالي فهو دين الإنسانية، الذي يحمل نداء الله إلى الإنسان وتكليفه الشرعي ومنهاج تمثلِ ذلك التكليف، كما حذره من الوقوع في دروب الضلال والظلم والغفلةذك
– الدواعي التاريخية: وعيا بقضايا الحاضر ومتطلبات المستقبل، وما نحمله معنا من إرث تاريخي مختلط، واستحضارا لما تمر به الإنسانية اليوم من محنٍ فكرية وواقعية تراكمت عبر الزمن وأنتجت مقولات مغلقة، نشعر بالحاجة إلى تصحيح المنطلق وتجديد الرؤية واستشراف المستقبل الذي تتجاوز فيه الإنسانية أنانياتها وتحيزاتها إلى أفق أرحب يحتضن الإنسان احتضانا مستوعبا للاختلاف والتنوع.
– الدواعي المعرفية العلمية: تتلخص في أهمية البحث في موضوع العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإبراز وجوه التكامل والتقارب والتعارف بين بني الإنسان في مختلف الأماكن والأزمان. ونقد التصورات الإديولوجية التي تختزن نظرة نفعانية أحادية تلغي الآخر وتستصغره، وكشف العوائق المنهجية والمعرفية التي تعطل تحسين هذه العلاقات، خاصة في عصرنا هذا الموسوم بالتقدم التقني والعلمي والمعلوماتي وطغيان النزعات المادية التي تستغفل روحانية الإنسان، وإبراز معالم المنهاج القرآني في حل جملة من المشاكل البشرية المحلية والعالمية، ومعالجة جملة من الإشكالات النظرية والتساؤلات الفلسفية التي يطرحها العقل البشري.
– الدواعي الحضارية: ذلك أن البحث في المشترك العمراني والمشترك البيئي من شأنه أن يظهر المسؤولية المشتركة للإنسانية أفرادا ومؤسسات عما تتعرض له الطبيعة من تدمير وتلوث واستفساد لم تقوى شعارات الهيئات والمنظمات والدول على إيقافه، بل يزن ادعاءاتها بميزان الواقعية والنجاعة العملية التي تعود على الإنسانية جميعا بالخير المشترك.
أما بخصوص المنهج فقد اقتضت طبيعة البحث وموضوعه الجمع بين عدة مناهج:
1- منهج تحليلي تفكيكي: يعطي الأولوية للأنساق المعرفية، ويعمل على تحليل وتفكيك النصوص والمعطيات العلمية والمواقف الفكرية والاجتهادات التاريخية، وإعادة تركيب عناصرها بشكل يخدم أطروحة البحث ويجيب عن أسئلتها.
2- منهج تاريخي: يستحضر السياقات التاريخية لإنتاج المعرفة وتطورها، سواء في تاريخ المسلمين أو في تاريخ الغرب، ذك أن المعرفة تبنى عبر مراحل زمنية مختلفة يؤثر السابق فيها في اللاحق، وهو ما يُسعفنا في استيعاب إشكالات الواقع الحالي عبر إرجاعها إلى جذورها وأسبابها التاريخية، وتوقع اتجاهاتها في استشراف المستقبل. فالمنهج التاريخي عموما يساعد على حل مشكلات معاصرة على ضوء خبرات الماضي.
3- منهج نقدي : يروم النقد المنهجي والمعرفي للمعرفة الشائعة في الفكر الإسلامي من جهة وفي الفكر الغربي من جهة ثانية، سواء كانت معرفة علمية أو فلسفية مادامت لا تمثل في النهاية سوى اجتهادات بشرية حول النص أو حول النفس أو حول الكون.
4- منهج مقارن: يعمل على تتبع المجالين الثقافيين (المسلمون والغرب)، ورصد القيم المشتركة نظريا في النصوص المؤسسة للرؤيتين المعرفيتين، وعمليا في حياة الناس وتصرفاتهم، وكشف علاقة السلوك التاريخي بالمبادئ الموجهة، وكذا العوائق التي حالت دون تجسيد تلك الأصول في الواقع التاريخي.
وقد فرض الإشكال وأسئلته الفرعية على البحث أن يُوزع إلى مدخل وثلاثة أبواب:
تناولت في المدخل تحديد دلالات عناصر العنوان الذي تحمله الأطروحة، وهي: المسلمون، الغرب، علاقة المسلمين بالغرب، المشترك الإنساني، وركزتُ فيه على أهمية المرجعية القرآنية بوصفها المرجعية التي تملك من الإمكانات ما يؤهلها لتكون مرجعية نموذجا في بناء حضارة المشترك الإنساني. حتى يكون مبدأ المشترك هو القاعدة التي تستند إليها فلسفة التقريب بين الأمم، على نقيض ما انتشر في العقدين الأخيرين من مقولات تذكي الصراع والمواجهة والعِداء.
أما الباب الأول فخصصته لرصد أسس المشترك الفكري بين المسلين والغرب، في فصلين، ينظر أولهما في المشترك الديني والأصل الاعتقادي بين الرسالات السماوية الثلاث، وفي وحدة القيم الإنسانية الكبرى: العدل والسلم والحرية والحوار، إضافة إلى الفطرة التي فُطر عليها الإنسان ابتداء. ويختص الثاني ببيان المشتركات العلمية والمعرفية على مستوى المناهج والموضوعات، ثم حاولت أن أستنبط معالم التصور القرآني للمشترك العلمي المعرفي.
في الباب الثاني، انتقلت إلى معالجة أسس المشترك الحضاري بين المسلمين والغرب في مجالين هما: العمران البشري والبيئة الطبيعية. ووزعته إلى فصلين؛ يختص أولهما بالأساس العمراني لوحدة الجنس البشري وبيان مقاصد العمران وخصائصه الكلية المشتركة، بينما يختص الفصل الثاني بمعالجة المشكلة البيئية والمظاهر العالمية للأزمة، وفلسفة البيئة ومعالم الحل القرآني في أفق التأسيس للمشترك الإنساني.
وأخيرا انفرد الباب الثالث بتتبع عوائق استثمار أسس المشترك الإنساني، وذلك في فصلين، يتعلق أولهما بـ: العوائق الذاتية وأقصد بها أزمة الفكر الإسلامي المنهجية والمعرفية، ثم بيان معالم المنهاج القرآني في تخطي هذه العوائق وتجاوز تداعياتها على العقل المسلم، وانصرفتُ في الفصل الثاني من هذا الباب إلى معالجة العوائق الغيرية أي عوائق الفكر الغربي ونماذجه الفلسفية والعلمية والإعلامية المتحيزة.
وقد اعترضتني كأي باحث جملة من الصعوبات -وإن كنتُ أعدها مُساعِدة على تعميق النظر في أسئلة البحث- أذكر منها:
– شساعة المساحة المعرفية التي يتحرك فيها البحث، فطبيعة الموضوع فرضت عليَّ الاشتغال في حقول معرفية مختلفة: الدين، الفلسفة، القيم، الأخلاق، نظرية المعرفة، علم الاجتماع، علم العمران، فلسفة البيئة، علوم الطبيعة، مما وفر لي الحافز على الجمع بين هذه الحقول واكتشاف التداخل والتكامل الذي يطبعها.
– ندرة المراجع والبحوث المتخصصة في الموضوع: حيث لم يفرد (حسب اطلاعي) لموضوع “التأسيس القرآني للمشترك الإنساني” أي بحث أكاديمي تخصصي، وإن عثرت على بعض المقالات والإشارات والتنبيهات فهي محدودة ولا تفي بغرض البحث إلا جزئيا.
وحيث لم نعثر على دراسة جامعة ومفصلة لموضوع المشترك الإنساني بأبعاده الدينية والعلمية والعمرانية والبيئية، نأمل أن يكون بحثنا هذا إسهاما متواضعا في سبيل التأسيس المنهجي والمعرفي العميق لهاته النظرية، والتقعيد العلمي لها. إلى جانب الجهود التي يبذلها العديد من الباحثين ومراكز البحث.
الخلاصات:
1
المسلمون بالمعنى القرآني هم مجموع الناس الذين يدينون بدين الإسلام، ودين الإسلام في القرآن هو دين العالمين، لأنه دين جميع الأنبياء والمرسلين. لذا يكون المسلم حقيقة هو من يؤمن بجميع الرسالات السماوية، إذ النبوات متتابعة ومتوافقة، وتنبع من مشكاةٍ واحدةٍ، إذ يخاطب القرآنُ الناسَ جميعا، بمختلف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وثقافاتهم وجغرافياتهم، {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}([2])
أما مفهوم “الغرب” كواقع معاصر لا تحمله المعاجم اللغوية والاصطلاحية، لكونها تقتصر على الدلالات الجغرافية والاجتماعية المتداولة في الماضي، ونحن نقصد به الغرب المعاصر لنا اليوم بوصفه نظاما معرفيا تتداخل فيه العقيدة والفكر والثقافة بالفلسفة والقانون والجغرافيا. وهو مفهوم تطور بشكل ملحوظ تبعا لتغير موازين القوى في العالم، وتبدُّل النماذج الحضارية.
2
طبيعة العلاقة بين المسلمين والغرب اليوم في حاجة إلى تجاوز فلسفة الصراع وتداعياتها المعرفية والتربوية والاقتصادية والسياسية، والتي تقسم العالم إلى دار الغرب وفيها جميع القيم الإيجابية ودار المسلمين وتُنسب لها جميع القيم السلبية، إلى فلسفة المشترك الإنساني التي يمكن أن تُنقذ العالم من رؤية فكرية وحضارية صماء، وتنتشل الإنسانية المعذبة من فتن الاستكبار والاستفساد. وليس من حلٍّ -في نظرنا- يفيد التجاوز سوى مقترح المشترك الإنساني الجامع بين الكليات التي لا تختلف فيها المـِلل والشعوب.
3
التمسك بـ”الدين المشترك” يحمي الإنسانية من السقوط فيالنزعةالإلحادية ومن الافتتان بالنماذج المادية المتحيزةالتي تصرف الناس عن دينهم وتستغفل فيهم نداء الفطرة وحكمة العقل،مثلما يعالج نقائص النزعة الماديةالوضعية،التيتنكرالألوهيةوالآخرةوالنبواتوالقيمالدينية، ولا ترى في الإنسان الـمُكرَّم سوى كائنا تطور في الطبيعة وتفوق على باقي الكائنات وغزا الفضاء. وغير خافٍ ما وصلت إليه هذه الرؤية من تذويبٍ لإنسانية الإنسان وترذيلٍ لقيمته وتشييئٍ لهويته.
4
المعرفة العلمية بمناهجها وموضوعاتها وقضاياها وما يتعلق بها من إنجازات ونتائج تقنية وعلمية مشتركاتٌ إنسانية، فهي ثمرة إجهاد الإنسان لقواه الإدراكية والبدنية في فهم واستثمار الأشياء المسخرة له وفق السنن الكلية الناظمة لوجودها. سواء منها المعرفة التي تتخذ من أشياء الطبيعة وظواهرها وخصائصها موضوعا لها، أو تلك التي تتخذ من موضوعات هوية الإنسان وقيمته وحريته والغاية من وجوده محور بحثها، أي العلوم الإنسانية والاجتماعية.
5
العلم والعقل والتجربة مشتركات إنسانية، وهي مسخرات إلهية للإنسان المستأمن كي يتذكر ويتعلم ويعمل ويعتبر، والعلوم سواء منها علوم التيسير التي تستمد من الوحي، أو علوم التسخير التي تستمد من الكون، أو علوم الاستبصار التي تستمد من دراسة الإنسان، هي علوم متكاملة ومتداخلة، وهي التي تستحق تسمية “العلم الجامع”، الذي يشمل النظر في النص والنظر في الكون والنظر في الإنسان في اتساق وانسجام. وبهذه القراءة الجامعة تفتح أمام الإنسانية المعاصرة إمكانات هائلة لنقد وتجديد أسس المعرفة الإنسانية وإعادة بنائها استشرافا لعالمية المشترك الإنساني.
6
غاية توجه الأنبياء والمصلحين إلى أقوامهم هي إصلاح مجموع أوضاعهم حتى يتحقق العمران في الأرض وما يتعلق به من قيم الخير والحق والعدل والرحمة، وهذه هي مقومات العمران الإنساني وهي تراعي البعد الروحي الإيماني، والبعد المادي الأرضي، والبعد الزمني التاريخي. ومن خلال استقرائنا لمادة “العمران” في القرآن يتبدى لنا أن مجال العمران يشمل عمران الإنسان وعمران الأرض وعمران الحياة، وهو مجال مشترك بين جميع الناس على اختلاف الثقافات والحضارات.
7
لا ينفصل المشترك الإنساني العام عن المشترك الطبيعي البيئي، مثلما لا ينفصل الكل عن مجموع أجزائه، حيث إن الكون هو الوعاء والحاضن للمشترك بين الناس أجمعين، فالإنسان مستخلف مؤتمن على البيئة التي يعيش فيها وينمي فيها معايشه الاقتصادية والعلمية والتقنية والسياسية. وتكون البيئة مُسخرة له حاملة لمشروعه العمراني في الوجود. لذلك تطرح اليوم المشاكل البيئية أو المشاكل المرتبطة بالبيئة الطبيعية على مستوى عالمي، نظراً لارتباطها بالإنسان من جهةٍ لاعتباره الفاعل المؤتمن في الكون، وبالأرض من جهة ثانية لاعتبارها محل هذا الائتمان ومجاله، وهي التي لا سعي للإنسان إلا عليها.
8
إصلاح واقعنا وتشييد “حالة السواء” التي يدعو إليها القرآن الكريم لا يتم إلا من خلال إصلاح جذري للنظام الفكري للعقل المسلم الذي يعاني من جملة اختلالات أقعدته عن إقامة نموذج معرفي يستقيم فيه النظر على جادة المنهاج القرآني النبوي بخصائصه العالمية والشمولية والغائية والتكاميلة والاستيعابية والوسطية، والتخلص من آفات التقليد والاستتباع والجمود والقعود. وبإصلاح الفكر يُسهم المسلمون من جهة خيريتهم في تأسيس حضارة المشترك الإنساني، باعتبارها الحضارة الوارثة. وليست حضارات الصراع التي تؤججها فلسفات الكراهية الآيلة إلى زوال. وهذا يتطلب اجتهادا تجديديا وجماعيا وشاملا، عبر عملية نقدية بنائية ضرورية لكل ما وَصَلَنا مِن تراثنا أو من تراث غيرنا، وفق المقاصد القرآنية الكلية.
9
من معيقات المشترك الإنساني بين المسلمين والغرب، عائق ادعاء التفرد من طرف الفلسفة الغربية في عمومها، وهذه الدعوى مفادها أن الغرب سليل حضارة متفوقة على باقي الحضارات، ومستقلة بذاتها عن بقية العالم، مما يكرس استكبار العنصر الغربي ذي الأصول اليونانية على باقي العناصر المشَكِّلة للوجود الإنساني المتنوع والمتعدد. حتى قيل أن الغرب المتقدم ماديا هو النموذج القياسي الوحيد الممكن لأن حضارته المعاصرة أوجدت نفسها بنفسها عن طريقة التوالد الذاتي، وأن مرجعيته المادية الوضعية هي المرجعة المطلقة.
10
بإفلاس المرجعيات والإديولوجيات وبداية الحديث عن النهايات تظهر الحاجة المعرفية والأخلاقية لعلم القرآن الكريم وعمرانه ومنهاجه، فيكون المستقبل تمكين للدين الحق، في عالمية جديدة، عالمية رحمة وعدل، والأمة تملك –لا تزال- قدرات هائلة على مراجعة ذاتها وتجديد رؤيتها وبناء نموذجها وتجويد علاقتها بغيرها. إن هي استرشدت بنور القرآن وهدايته في معرفة الحق والعمل بمقتضاه في الأنفس والآفاق، حتى يتحقق العمران الإنساني الأخوي الذي يعز فيه الإنسان المستخلف بالعلم والعمل والإيمان.
وأخيرا لا يفوتني التذكير بأن هذا البحث لا يدعي الإحاطة بموضوعه من جميع جوانبه، كما لا يزعم الإجابة عن كل أسئلته، بقدر ما هو محاولة تأسيسية -يطالها التقصير- لنظرية المشترك الإنساني في معالمها الكبرى من خلال المرجعية القرآنية، وهي تسعى (المحاولة) لتقدم إسهاما ينضاف إلى إسهامات كثيرة تفتل في حبل تصورٍ تجديديٍ لقضايا الحوار الديني والثقافي بين المسلمين وغيرهم، وحسبي أن يُعرض هذا الجهد العلمي للتقويم والمراجعة والتصحيح على أساتذتي: الأستاذ المشرف الدكتور سعيد شبار على قبوله الإشراف ابتداء وتواضعه المستمر في تتبع وتوجيه الباحثين، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن العضراوي الذي طالما انتفعنا بتشجيعه وتحرضه والأستاذ الدكتور بنسالم الساهل، والأستاذ الدكتور ابراهيم رضا، والأستاذ الدكتور عبد الناصر أوقسو على قراءتهم للبحث المتواضع وتقويمهم وتوجيههم. لعلهم يهدون إليَّ عيوبي عساي أستفيد منها في تحسين جودة هذا البحث وغيره من البحوث -إن شاء الله- منهجا ومعرفة. أسأل الله أن يجزيهم عني وعن سائر أعمالهم برضاه. كما أسأله جل في علاه أن يتقبل مني جُهد المـُقِل، وأن يتجاوز عن تقصيري وخطئي، وأن يوفقني لتدارك ما فاتني.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1]– الجابري محمد عابد، الغرب والإسلام، مجلة فكر ونقد، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، عدد:3، 1997م، ص:14.
[2]– سورة البقرة، الآية: 136
اترك رد