يَحلو للطلبة وهم يفتتحون بُحوثهم الجامعية أن يكتبوا عبارات مسكوكة للشكر والثناء والإهداء لأمهاتهم، لعائلاتهم ولكل الذين ساندوهم في مشوارهم الدراسي. خاصة وأن ختام سنوات التحصيل في أغلب التخصصات الآداب والعلوم الإنسانية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية يكون بتقديم الطالب لــ” مؤلف” عبارة عن بحث جامعي.
لكن ما قيمة هذه ” الهدية ” وجدواها؟ وهل صحيح أن قيمة البحوث الجامعية قد تناقصت في السنوات الأخيرة أم هو فقط “نوستالجيا” وحنين لماضٍ لن يعود؟
بحوث مكرّرة ومنقولة..
لا أحد يُنكر وجود طلبة جادّين في كل الأجيال، بصموا مشوارهم العلمي ببحوث جامعية في غاية الأكاديمية والمنهجية، لكن العديد من الطلبة لا يسهرون ليلة واحدة في إعداد بحث نيل الإجازة، كل ما يفعلونه هو البحث في أرشيفات الجامعات القريبة، والحصول على بحث بنفس الموضوع وإعادة رقنه مع تغيير العنوان وتقديمه للأستاذ المؤطر والحصول على نقطة متميزة.
بعضهم لا يُكلّف نفسه عناء زيارة خزانات الجامعات الأخرى، بل إن البحث في الأنترنيت يفي بالغرض، فالعثور على بحث قديم على الشبكة العنكبوتية يعفي الطالب من تعب الرقن، وما عليه سوى توضيبه وتقديمه لنيل نقطة مُشرّفة .
فبحسب رأي سعيد موقوش، طالب دوكتوراه فقد “أصبح البحث الجامعي الذي يتم انجازه في أواخر سلك التكوين عبارة عن مادة من المواد الأخرى المُدَرسة، أضف إلى ذلك الطابع التنظيري الذي يطغى على أغلب الأبحاث، وكثرة النقول دون الإحالة على المراجع (السرقة العلمية)، إذ أضحت البحوث الجامعية سواء العلمية منها أو الأدبية عبارة إحالات تفتقد إلى رأي الباحث وذاتيته”.
أما جواد حنافي الأستاذ المهتم بعلوم التربية فيتحدث بشكل أكثر سوداوية عن واقع البحث الجامعي، فيورد في تصريح لهسبريس أن ” البحوث الجامعية تحولت إلى ظاهرة كمية في الغالب الأعم، الهدف منها شكلي، ولا يستثمر الجيد منها على قلته؛ ويكاد يغيب التجديد والإبداع في بحوث جامعاتنا، أخص الذكر مجال الآداب وعلومه. كلام مكرور، واجترار بائس، وقص ولصق لا علاقة له بالواقع ومشاكله، الهدف منه شكلي بالأساس إجراء إداري روتيني! فين حين إن الهدف من البحث ليس تعلم البحث وتقنياته فقط، بل إن القيمة العلمية للبحث مهمة أي أهمية؛ لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وبناء ما يمكن بناؤه، وتغيير ما يمكن تغييره. والظواهر الكمية لا تخطئها العين في بحوث وأطروحات جامعاتنا. مئات الصفحات والنتيجة كلام في كلام. “
وذاد حنافي متسائلا “لماذا لا تتحول بحوث الجامعات وأطروحاتها، من بحوث الاجترار والتكرار وحرث الأرض المحروثة، إلى بحوث عملية تعالج المشاكل اليومية الآنية، كالتشرميل والتشمكير والكريساج … وكذا معالجة ظواهر الرشوة والعنف والتحرش.. ومختلف الانحرافات الاقتصادية والاجتماعية معالجة إجرائية بحثا عن الحلول واقتراحا للإجراءَات العملية ذات الصبغة المغربية. وكل مسلك جامعي يعالج الظاهرة بناء على آلياته وأدواته العملية والفنية والتقنية (الجوانب الحقوقية – التربوية – الفلسفية – الأدبية. حسب التخصصات والمسالك ويستفيد من تلك البحوث والأطروحات مختلف المتدخلين في المجالات المعنية، تُضَمَّنُ في بنك معلوماتي يرجع إليه ويستفاد منه ؟” يتساءل ذات المتحدث.
الرداءة .. مسئولية يتقاسمها الطالب والأستاذ
استقت هسبريس آراء مجموعة من الطلبة والأساتذة والباحثين حول رداءة المنتوج الجامعي المغربي. ” البحث الجامعي مسؤولية الطالب و الأستاذ على حد سواء، الأول يبذل كل مجهوده لإنتاج عمل جديد ليس له من الوجود شيء شريطة أن يواكبه الأستاذ ويساعده لمجاوزة جل العوائق و الحواجز التي قد تقف في وجهه” يقول لحسن فريكس طالب علوم الاقتصاد بابن زهر في حديثه للجريدة.
ذات المتحدث يعزي رداءة بحوث الطلبة إلى “غياب مواكبة جدية من طرف الأستاذ، فرداءة بحث الطالب نتيجة لإهمال أستاذ يختار للطالب موضوع البحث ويودعه إلى أن يتمم الطالب بحثه، علما أن من واجب الأستاذ أن يسهر و يناقش كل محور في البحث وكل معلومة ذكرت ليرى نتيجة المجهودات التي يبذلها الطالب ومدى فهمه لما يبحث عنه” . ذات الطالب يُضيف أنه ” على إدارة الكلية سوى أن تضع معايير جودة البحث الجامعي و ألا تكتفي فقط بإدماج مادة “منهجية البحث” تدرس للفصل الخامس لسلك الإجازة، بل أن تكون صارمة مع الجميع سواء الطالب لأنه يأخذ نقطة مقابل بحثه و الأستاذ يستفيد من تعويض مادي و أن تحرص على يناقش كل بحث جامعي بالإضافة إلى أن تحدد عدد البحوث التي بإمكان الأستاذ أن يؤطرها، الكل يتجه نحو ذاك الأستاذ لأنه سخي في النقط أو ذاك لأنه لا يبالي لمضمون البحث”.
وهو نفس ما يؤكد الطالب في شعبة الإنجليزية يوسف دوي بقوله أن” الطلبة يخبر بعضهم البعض أن الأساتدة لا يقومون بتقويم وتصحيح البحوث ” غير كور و أعطي لعور ” فيحضر بعض الطلبة بحوث أسلافهم ” المجتهدين ” دون سابق إطلاع أو مراجعة ما يجعل الطلبة يتهافتون و يسألون عن ارقام هواتف و بريد الإلكتروني الأساتذة المشرفين لغرض التواصل حول البحث الجامعي أو لغرض أخر “.
البحث العلمي.. صعوبات ومُعيقات
ترى نجاة زوادي (أستاذة متدربة) أن سبب التناقص في قمية البحوث الجامعية يرجع أساسا إلى “الميزانية التي تخصصها الدولة للبحث العلمي ضئيلة بما فيها المنح التي تقدم للطالب الباحث، ضعف البنية التحتية بما فيها المعلوماتية وقلة المختبرات مع عدم ضخ المراجع الحديثة باستمرار في الخزانات الجامعية ومواكبة التطورات في الساحة المعرفية التي يشهدها العالم. “
زوادي تزيد أن ” الجسور بين الجامعة المغربية والقطاع الخاص تبدو باهتة في حين أن هذا القطاع بإمكانه أن يساهم بالحصة الأوفر مع تبني بعض الأبحاث للاستفادة منها وتسهيل التدريبات لفائدة الباحثين، ثم قلة البعثات الخارجية لفائدة الطلبة الباحثين الذين هم في حاجة ماسة إلى الاستفادة من خبرات بلدان أخرى خصوصا في كليات الآداب والعلوم الإنسانية”.
في حين يُحمّل طلبة جامعيون مسئولية “رداءة” البحوث الجامعية إلى صعوبات أخرى تقف في طريقهم أثناء البحث العلمي، فسمير صبري الطالب في شعبة العلوم الإقتصادية بابن زهر يلخص الصعوبات في “قلة المراجع و الكتب ذات صلة بالبحوث المختارة من معظم الطلبة إذ تقتصر الخزانة على كتب لها صلة بالمواد التي يتم تدريسها بالكلية ، وكذلك قلة ساعات التأطير من الأساتذة إلم نقل انعدامها، فمشروع البحث الذي أشتغل عليه gestion du risque de change أجد مشكل في الحصول على بعض النماذج و الدراسات المتعلقة بالموضوع بالمغرب ما يجعل البحوث تفقد قيمتها هو سهولة الحصول على المعلومة في الوقت الراهن بفضل التكنولوجية ، في القديم يسعى الطالب جاهدا للبحث عن الكتب و قراءتها وفهمها و تلخيصها لكي يحصل على فقرة لبحثه لعلى الأستاذ يقبلها منه أم سيعد المجهود من جديد ، أما الآن ف ضغطة زر تختزل كل الأتعاب”.
كما أن هناك من يعزي هذه الرداءة إلى قلة الإمكانيات المادية كما يقول بذلك الطالب لحسن فريكس “، أن تُنتج بحثا جيّدا وبمعايير أكاديمية معناه أن تتنقل كثيرا وتبحث هنا وهناك، وهذا يعني ميزانية كبيرة، فهل الطالب الفقير، الذي يحار هل يطبخ شعرية أم عدس هو من سيسافر ويقطع المسافات لينتج لنا بحثا جيدا؟ بالطبع لا. لذلك سيكتفي “بكوپي كولي” فهو معذور ليست لديه إمكانية و لا القدرة لتحمل مجموعة من المصاريف، لهذا فمن اللزوم أن تخصص الوزارة المعنية منحة تقدم للطلبة المقبلين على الحصول على الإجازة الهدف منها مساعدتهم لإنتاج بحث جامعي ذو قيمة ومعايير معتمدة” .بتعبير فريكس.
أما يوسف دوي الطالب في كلية الأداب و العلوم الانسانية شعبة الدراسات الانجليزية فيجمل الصعوبات في ” عدم وجود عدد مناسب من الأساتذة للإشراف على الكم الهائل من الطلبة و توجيههم في بحوتهم والحرص على تحصيلهم العلمي الذي ينسى العديد من الطلبة أنه هو أساس مشروع البحث الجامعي وليس النقطة التي يمنحها له المشرِف عليه”.
أساتذة جامعيون: ما يُنجز الآن هو “مشروع بحث” وليس “بحثا”
قال الدكتور عبد الكريم مَدُون أستاذ بكلية الآداب بجامعة ابن زهر في تصريحات لهسبريس أنه ” مُند اعتماد نظام lmd ( إجازة ماستر دكتوراه) وقد مر على هذا النظام 10 سنوات. وتم تقييم هذا النظام ثلات مرات، سنة 2007 و2009 و2013.
لكن للأسف هذا التقييم لم يأخد بعين الإعتبار التقييم العلمي، بل ارتكز على التقييم الميكانينكي وبالتالي بقينا نتخبط في نفس المشاكل. هذا النظام ذو أهمية كبيرة، إذ أن الطالب يشارك في العملية التكوينية، لكن على مستوى الواقع فالجامعة المغربية تعاني، خاصة الكليات ذات الاستقطاب المفتوح كالآداب والعلوم والحقوق. مع الأعداد الكثيرة لا يمكن أن نطبق هذا النظام بالشكل المطلوب. ومشروع نهاية السنة جزء من هذا النظام، وهو مشروع بحث عبارة عن تقرير عن موضوع معين وليس بحثا كما كان في السابق. أولا لأن الوقت الذي يمنح لهذا الطالب هو فقط دورة واحدة لإنجاز مشروع البحث هذا، رفقة ثلاث وحدات أخرى يُمتحن فيها الطالب.
وعن مواكبة الأستاذ لهذه البُحوث يقول أستاذ التاريخ بجامعة ابن زهر ” إن الأستاذ في هذا النظام يُشرف على 50 أو 60 مشروع بحث عكس النظام القديم حيث عدد الطلبة الذين يؤطرهم أستاذ واحد لا يتعدى 6 أو 10 على أبعد تقدير”.
وردّا على ما أورده الطلبة من أن الأساتذة لا يطّلعون بتاتا عن ما يكتبه طلبتهم يقول الدكتور مَدُون ” لا يجب أن ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية، ففي أروبا اليوم، لا ينجز الطالب البحث في السنة الثالثة، بل في الرابعة. ففي فرنسا، جميع الطلبة الذين يجتازون السنة الثالثة من سلك الإجازة، يتم تسجيلهم في السنة الأولى ماستر، وفي هذه السنة ينجزون مشروع البحث، فإن كان جيدا يتم تسجيلهم في السنة ثانية ماستر ، وإن كان غير جيد لا يتم تسجيلهم. فثلاث سنوات لا تكفي لأن ننتج مشروع باحث، مع كل هذه الضغوط والامتحانات والاكتظاظ. ومع ذلك فهناك طلبة متميزين في الماستر، وإن كانوا قلائل. فلا يجب أن نقول بأن هناك تناقص في قيمة هذه البحوث دون أن ننظر إلى الأمر في شمولية”.
من جهته لا ينكر الدكتور محمد احدى هذا “التناقص” الملحوظ مبرزا في تصريح لهسبريس أن ” السبب يكمن في المدة التي تعطى للطالب، ففي النظام القديم كان الطالب يختار موضوع البحث منذ نهاية السنة الثالثة وتكون أمامه سنة كاملة للبحث والتمحيص والتدقيق، أما الآن فليس أمام الطالب سوى أربعة أشهر تقريبا أو أقل، دون أن ننسى ضغط المواد والإمتحانات التي يجتازها الطالب إلى جانب هذا العمل. لذلك سماه المشرّع بمشروع بحث وليس بحثا كما هو الحال في النظام القديم ” يؤكد احدى.
اترك رد