نظم فريق البحث في التراث الشرعي والفكري لسجلماسة وتافيلالت وامتداداته بالغرب الإسلامي بتعاون مع فريق البحث في اللغة والفنون والآداب بمنطقة تافيلالت ندوة علمية دولية في موضوع ” المذهب المالكي بتافيلالت الكبرى : الجذور التاريخية ، والامتدادات العلمية والحضارية ” ، يومي الأربعاء والخميس 7 و 8 ماي 2014 بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية ، وقد حصل لي شرف المشاركة بمداخلة بعنوان : ” تفاعل المذهب المالكي مع بعض القضايا السياسية و بعض المسائل الاجتماعية والعقدية التي استجدت في منطقة تافيلالت إبان مرحلة الاستعمار الفرنسي من خلال كتاب ” نعت الغطريس ” لصاحبه المهدي الناصري ” ، وهذا تقرير مختصر يضم أهم المحاور والنقط التي تناولتها بالمناقشة والدرس والتحليل:
تقديم :
يبدو جليا من خلال عنوان هذه المداخلة أن موضوعَها محددٌ مكانا وزمانا ومحتوى :
_ فهو محدد مكانا بمنطقة تافيلالت ، وذلك تماشيا مع المحور العام للندوة ” المذهب المالكي بتافيلالت الكبرى” ، ويشير هذا التحديد الجغرافي ل ” الإقليمية ” كمنهج ينطلق من الخاص إلى العام ومن الجزء إلى الكل . ولهذا المنهج أصول عند المغاربة ذلك أنهم دأبوا على كتابة التواريخ والآداب الخاصة بالمدن والبوادي كأساس لما هو عام (1) . وهو المنهج نفسه الذي تبناه المختار السوسي في كل ما كتبه حول إقليم سوس ، ذلك أنه آمن بأن صياغة التاريخ العلمي الوطني العام , ” لايتم إلا عبر إنجاز الدراسات والأبحاث المونوغرفية للمدن والبوادي النشيطة علميا وفكريا وأدبيا ، وتوفير التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر ، ولكل بادية من تلك البوادي على أساس أن يتم دمجها فيما بعد ، مما يعزز التركيز مرحليا على إضاءة الأنشطة الثقافية المحلية دونما حرج أو تردد .”(2)
_ كما أنه محدد زمانا بمرحلة الاستعمار الفرنسي ، هذا الحدث الحاسم الذي شكل صدمة عنيفة خلخلت الكثير من البنيات الاجتماعية والفكرية ، وهزت مشاعر الغيرة الدينية والوطنية ، وكشفت الكثير من الأقنعة عن مجموعة من الحقائق والقضايا والتفاعلات والتصورات والخيارات والصراعات التي كانت تحبل بها المنطقة ، خاصة بعدما انطلقت شرارة المقاومة بقيادة مبارك بن الحسين التوزونيني وخليفته بلقاسم النكادي اللذين تصديا للتدخل الأجنبي بكل حزم وقوة ، ورفعا راية الجهاد ودعوا سكان المنطقة للانضمام إلى حركتهما الجهادية ، فاختلفت ردود الأفعال بين مؤيد مصدق انخرط في الحركة ، ومعارض رافض اعتبر كل ذلك مجرد فتنة لا تمت إلى الجهاد الشرعي بصلة ، وهو الموقف الذي تبناه المهدي الناصري ودافع عنه على امتداد صفحات كتابه ” نعت الغطريس “(3) مبررا موقفه بفتاوى فقهية ، و بحجج استمدها من التاريخ تارة ومن الواقع المعيش تارة أخرى .
إذا أضفنا لهذا التحديد حضور المذهب المالكي القوي وتفاعله المتميز مع المتغيرات والمستجدات التي عرفتها المنطقة إبان هذه المرحلة الحساسة ، اكتملت معالم وأبعاد المداخلة التي جعلت من كتاب “نعت الغطريس” مصدرا فقهيا وتاريخيا ثريا تغترف منه مادتها الأولية لتنطلق في آفاق استحضار ومناقشة أصول ومرجعيات ومسوغات مختلف الفتاوى المضمنة فيه والتي كانت عبارة عن أجوبة قدمت عن أسئلة أفرزها صراع شرس احتدم بين موقفين سياسيين متعارضين .
نستطيع انطلاقا من ذلك استجلاء أهمية الموضوع المتمثلة أساسا في رصد أبعاد ومرجعيات وخلفيات الحضور الحاسم والوازن للمذهب المالكي بمنطقة تافيلالت التي كانت سباقة إلى خدمة ونشر هذا المذهب ، كما كانت رائدة في تثبيت قواعده وأصوله ومناهجه ، ولا غرابة في ذلك فقد تمسك المغاربة قاطبة بهذا المذهب ودافعوا عنه ” بكل قواهم على امتداد تاريخهم الحافل استمساكا منهم بالعروة الوثقى ، واتباعا لدار الهجرة ، ومعدن السنة ، ومتبوإ خيار هذه الأمة ، ويعدون ذلك توفيقا ربانيا ، وتصديقا من الله ، وتحقيقا لما بشر به نبيه الصادق الأمين من استمرار أهل المغرب ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة .”(4)
وبناء عليه فإن أهداف المداخلة تتمثل أساسا في إبراز بعض مشاهد وصور تفاعل المذهب المالكي مع الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بمنطقة تافيلالت إبان مرحلة التدخل الفرنسي ، وهذا ما جعلني أتبنى منهجا استقرائيا تتبعت من خلاله مختلف الفتاوى والنوزال والمسائل والقضايا الفقهية التي يزخر بها كتاب “نعت الغطريس” ، ثم عمدت إلى جردها وتصنيفها ، وقراءتها على ضوء بعض أصول وقواعد وبعض خصائص المذهب المالكي ، لأتوصل أخيرا إلى خلاصات عامة تَأَكَّدَ لي من خلالها الحضور القوي والوازن والفعال للفقه المالكي في التفاعل مع الواقع ، وقد استعنت أيضا بالمنهج الوصفي التحليلي ، لأن الخاصية المميزة للمقاربة الوصفية ” تكمن في قدرتها على تزويد الباحث بصورة دقيقة عن ظاهرة أو وضعية معينة يهتم بدراستها .”(5)
تقع المداخلة في ست وثلاثين صفحة ، تناولت من خلالها المحاور الآتية :
أولا _ التعريف بالمؤلف المهدي الناصري :
ثانيا _ التعريف بكتاب ” نعت الغطريس ” ، وتحليل مختصر لمضمونه :
ثالثا _ أبعاد ودلالات شخصية ” الفقيه ” في الثقافة المغربية :
رابعا _ روح المذهب المالكي تسري في كيان الكتاب ككل :
خامسا _ جرد وتصنيف المسائل الفقهية والفتاوى الواردة في الكتاب :
سادسا _ المذهب المالكي مرجعا معتمدا في كافة المسائل والفتاوى :
سابعا _ الفتوى ودورها في تحريك الأحداث :
و من خلال هذه القراءة الفقهية/الأصولية _ إن صح التعبير _ لكتاب ” نعت الغطريس ” تمكنت من الخروج بمجموعة من الخلاصات والاستنتاجات :
_ حرص الناصري على التأطير الشرعي لكل القضايا والمسائل والأحداث والوقائع التي استحدثت في المنطقة إبان المرحلة الاستعمارية دليل قوي على نجاح المذهب المالكي في ” بناء الشخصية المسلمة ، وصياغتها على الحزم والعزم والصرامة ، وأخذ دين الله بقوة ، دون هوادة وضعف . ” (6)
_ لقد شكل الفقه المالكي بأصوله وقواعده المرجعية الشرعية/الفقهية التي أطرت الحياة بمنطقة تافيلالت الكبرى بمختلف شؤونها سياسا واجتماعيا واقتصاديا ، فدأب الفقهاء المغاربة على الاستناد إلى هذا الفقه للإجابة عن مختلف الإشكالات والأسئلة التي كانت تستجد ، ولإيجاد” الحلول الملائمة للحوادث التي تحل بالناس ، وتطرأ على المجتمع ، فكان الفقهاء يقيسون النظير على النظير ، والفرع على الأصل ، يعملون فكرهم في النصوص ويستنتجون منها الأحكام ، ويستنبطون القواعد ، يشهرون ويرجحون ، ويخلصون إلى رأي في كل قضية إما جريا مع المصلحة ، أودرأ لمفسدة ، أو جريا مع الضرورة …”(7)
_ اتضح جليا من خلال ما تقدم خطورة الفتوى ودورها في تبني المواقف السياسية وفي تحريك الأحداث وتوجيه الرأي العام ، والحقيقة أن جذور العلاقة بين الفتوى والسياسة تعود إلى عهد النبوة والخلافة الراشدة عندما كانت العلاقة بين الدعوة والدولة وثيقة متينة ، وكانتا وجهين لعملة واحدة ، وكانت الدولة في خدمة الدعوة ، ومنذ انتقاض عروة الحكم مبكرا على عهد بني أمية ، وعلى امتداد قرون الإسلام ، ومع دوران رحى الإسلام انفصل الكتاب عن السلطان ، ومع كل ذلك ظل كل صاحب طموح ونفوذ سياسي ، وكل صاحب سلطان يلتمس لحركته السياسية مرجعية شرعية روهن على العلماء لاستحداثها عبر إصدار فتاوى تحت الطلب و على المقاس .
_ إذا كان الناصري قد قاده اجتهاده الفقهي إلى تأييد موقف الكلاوي ، وعبر عن تأييده بشكل واضح وجلي ، فقد تأكد له عبر توالي الأحداث أنه أخطأ التقدير ، وأن موقفه ذلك لم يكن صائبا ، ذلك أن الكلاوي استدرجه ومكر به بخبث إلى أن أوقعه في شباكه ، وسخره ليحكم سيطرته على المنطقة ، وبعدما تم له ما كان يصبو إليه ، لم يتورع عن نفيه وإبعاده إلى منطقة تلوات حيث ظل يتجرع مرارة الحسرة والندم إلى أن وافته المنية ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان عام 1347 هـ الموافق لفاتح مارس سنة 1929 م .
أما التوصيات التي يمكن الخروج بها من خلال هذا البحث فهي :
_ “نعت الغطريس” هو المصدر الذي اعتمدت في استجلاء بعض مشاهد وصور تفاعل المذهب المالكي مع الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية بمنطقة تافيلالت إبان التدخل الفرنسي ، وهو كتاب مخطوط أقدمت على تحقيقه في إطار رسالة جامعية ، وفي ذلك رسالة قوية إلى كل الباحثين من أبناء المنطقة على وجه الخصوص إلى ضرورة تكثيف الجهود واستفراغ كل الوسع من أجل استخراج الكنوز العلمية التي تزخر بها المنطقة ، والتي ستساهم لا محالة في إعادة قراءة التاريخ المحلي أولا والتاريخ الوطني بعد ذلك .
لقد كان المختار السوسي سباقا إلى التنبيه إلى خطورة تهميش وإهمال التاريخ العلمي للبوادي المغربية “مثل تافيلالت ودرعة والريف وجبالة والأطلس الكبير وتادلة ودكالة وما إليها ، رغم أنها عرفت في الماضي بحركات علمية جيدة في مختلف ميادين المعارف العربية ، وزخرت بكثير من الأعلام الكبار والزوايا التنويرية المهمة . وعند هذه النقطة بالذات يعلن السوسي خوفه من إمكانية ضياع كل ذلك إلى الأبد ، إذا لم تتداركه أقلام الباحثين بجمع ما يمكن جمعه ، وتنسيق ما لايزال مبعثرا بين الآثار ومتداولا في جلسات السمر .”(8)
_ ضرورة تصحيح مفهوم ودلالات مصطلح ” فقيه ” في الثقافة المغربية المعاصرة ، وتنبيه الأجيال الصاعدة التي تعرضت وماتزال لشتى أشكال التضليل والتشويه والتلبيس والتنميط والتخريب والاستتباع ، إلى المعاني المشرقة التي يحبل بها المصطلح” النبوغ والتميز والفهم الثاقب والألمعية ” .
_ أرجو أن تكون هذه الندوة العلمية بداية مسيرة علمية موفقة تستنهض همم الباحثين ، وتشحذ عزائمهم لكشف الأقنعة عن حقائق علمية ماتزال طي الكتمان ، وسيطويها التهميش والنسيان إن لم تتداركها جهود التنقيب أولا ثم التحقيق والدراسة ثانيا ، لذلك أدعو إلى نشر أعمال هذه الندوة ضمن كتاب ، كما أدعو إلى عقد ندوات علمية مشابهة تناقش محاورها جوانب مختلفة من شؤون الحياة في منطقة تافيلالت عبر تاريخها الحافل بالعطاء والمشاركة والإبداع .
الهوامش:
(1) _ من ذلك مثلا : ( الإعلام بمن حل ومراكش وأغمات من الأعلام ) لعباس بن إبراهيم ، و (ا لاغتباط بتراجم أعلام الرباط ) لمحمد بوجندار، و(إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) لعبد الرحمن بن زيدان ، و ( تاريخ تطوان ) لمحمد داود .
(2) _ ( منجز محمد المختار السوسي بين الضرورة المحلية والعمق الوطني : محاولة في الفهم ) /مجلة ” المناهل “/ ص : 101 .
(3) _ كتاب ” نعت الغطريس ، الفسيس ، هيان بن بيان ، المنتمي إلى السوس ” لصاحبه محمد المهدي بن العباس الناصري (1275 هـ/1859 م _1347هـ/ 1929م) ، تتبع المؤلف من خلاله مختلف الأحداث التي عرفتها منطقتا تدغة وتافيلالت إبان مرحلة الاستعمار الفرنسي .
(4) _ ( تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي حتى نهاية العصر المرابطي ) 127 .
(5) _ ( منهجية البحث وتحليل المضمون ) 35 .
(6)_ ( فلسفة التشريع في المذهب المالكي ) / محمد الروكي / مجلة ” الفرقان ” / ص : 27 .
(7) _ ( محاضرات في تاريخ المذهب المالكي ) 105 .
(8) _ ( منجز محمد المختار السوسي بين الضرورة المحلية والعمق الوطني : محاولة في الفهم ) /مجلة “المناهل”/ ص : 101 .
اترك رد