_الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف
_بعض القواعد النفيسة في القياس
بسم الله الرحمان الرحيم:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وصلى الله على محمد العدنان وعلى آله وصحبه بإحسان .
أتقدم بداية بكلمة شكر وتقدير إلى كل من أسهم من قريب أو بعيد في إنجاح هذه الندوة العلمية القيمة، وأخص بالذكر جامعة سيدي محمد بن عبد الله، رئاسة وعمادة وأساتذة وطلبة.
والشكر والتقدير موصول إلى الأستاذة الفاضلة الدكتورة سعيدة العلمي، رئيسة مركز الدراسات الأندلسية المغربية، على سعة صدرها وقوة صبرها على ما تستوجبه مثل هذه المناسبات من إجراءات وتنظيمات.
أما بعد:
اشترط الشاطبي الأصولي، كغيره من العلماء، في المجتهد التمكن من اللغة العربية المعتمد عليها في استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية، لكنه اجتهد في طبيعة هذه العلاقة حيث يقول :”… أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط، ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة ، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة” (1).
فهذا قياس بديع بين مستويات التمكن من اللغة العربية والتمكن من الشريعة، ينبئ بأن الرجل بلغ درجة في اللغة ، مكنته من بلوغ مثيلتها في الشريعة ، ليجمع بين الاجتهادين الأصولي الفقهي، والنحوي واللساني، فما مظاهر ذلك من خلال القياس الذي اعتمده في الانتصار لابن مالك أو الرد عليه، انطلاقا من مؤلفه:” المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية” وما موقفه من الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف، باعتباره مصدرا رئيسا للسماع عند صاحب الخلاصة المراد توضيح مشكلاتها. وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من الإشارة إلى أهمية المنظومات التعليمية _ما دامت هذه الخلاصة واحدة منها.
حظيت المنظومات التعليمية باهتمام كبير في التراث العربي، وكانت عمدا لكثير من العلوم والفنون، يرتكز عليها العلماء في حلقاتهم وإجازاتهم ؛ لأنها أكثر سهولة في حفظ المعلومة وعُلوقها في الذهن . ومن أشهرها “الشاطبية” أو”حرزُ الأماني ووجه التهاني”للإمام أبي محمد القاسم بن فِيرُّه الشاطبي المتوفى سنة 590 هـ، وألفيةُ العراقي في علوم الحديث للعلامة الحافظ زين الدين أبي الفضل العراقي المتوفى سنة 806هـ، والخلاصة في النحو، لجمال الدين ابن مالك الأندلسي المتوفى672 هـ .وهي تلخيص للكافية الشافية، لكنها كانت واحة باسقة حجبت الأنظار عن الأصل الذي لُخصتْ منه وعما قبلها وبعدها من المنظومات النحوية. وقامت عليها شروح عديدة لتوضيح إشاراتها وفك رموزها نذكر منها:
1ـ شرح ابن الناظم (ت 686هـ)
2- كاشف الخصاصة عن ألفاظ الخلاصة لشمس الدين الجزري (ت 711هـ).
3- توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك .للمرادي (ت 749هـ )
4- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام الأنصاري ( ت 761هـ):
5-شرح ابن عقيل (ت 769هـ).
6- منهج السالك إلى الكلام حيان النحوي (ت 745هـ)
7- المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790هـ) ، محور هذا العرض, والذي قال عنه احمد بابا التنبكتي( ت 1036):”شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثا وتحقيقا على ألفية ابن مالك لأبي فيما أعلم” (2)
عرف هذا المؤلف النور وصدر عن معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي جامعة أم القرى بمكة المكرمة.في عشر مجلدات بعد طول أمد وانتظار قارب ربع قرن.
موضوع الكتاب ومصادره :
يقول الشاطبي: “وأنا أرجو أن ينفع الله به المفيد والمستفيد، إنه حميد مجيد، وأن يكون هذا المجموع مستقلا بإبداء معاني الخلاصة غنيا عن المزيد , منهضا إلى أوج الاستبصار عن حضيض التقليد. ولذلك وسمته بالمقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية. ولعَمْرِي إن مُطالعه ليطَّلِع منه على كثير من أسرار علم اللسان، ودفائن سيبويه وغيره من علماء هذا الشأن ، التي من قصُر إدراكه دونها لم يَحْلَ في هذا العلم بطائل، ومن ضاق فهمه عنها فَاسْمُ الإمامة عنه زائلٌ إلى ما تضمنه من حل كثير من عقد كتابه” التسهيل” ومشكلاته وفك مُعَمَّيَاتِهِ وفتح مقفلاته . على أني بكلامه استدللت على كلامه، وبنوره اهتديت في بيداء استبهامه إلى رفع أعلاه” (3).
عرض الشاطبي لآراء النحاة منذ نشأة هذا العلم حتى عصره، ووازن بينها وساق العلل وعرف بمصطلحات ابن مالك و أورد آراء كثير من النحاة الأندلسيين الذين ضاعت مؤلفاتهم.
أما مصادره النحوية فكثيرة وأهمها الكتاب لسيبويه(ت 180هـ ) وشرحه للسيرافي( ت 368هـ ) وكتب الفراء( ت 207هـ) والمبرد (ت 286هـ)والزجاج(ت 311هـ) وابن السراج(ت 316هـ) وأبي علي الفارسي (377 هـ)
والرماني ( ت 384هـ)وابن جني(ت 392) والسهيلي(ت 571هـ) والجزولي(ت 606هـ) وابن خروف(ت 607هـ) والشلوبين(ت 645هـ) وابن مالك(672هـ) وأبي حيان(ت 745هـ) وابن هشام ( ت 761هـ)
منهج الكتاب:
يقول الشاطبي: ” أما بعد فإن بعض من يجب علي إسعافه ، ولا يسعني خلافه كان قد أشار علي أن أقيد على أرجوزة الإمام العلامة ابي عبد الله بن مالك الصغرى وهي المسماة بالخلاصة، شرحا يوضح مشكلها، ويفتح ويرفع عن منصة البيان فوائدها، ويجلو في محك الاختيار فرائدها، ويشرح ما استبهم من مقاصدها ويقف الناظر فيها على أغراضها من مراصدها من غير تعرض إلى ما سوى هذا الغرض ولا اشتغال عن الجوهر بالعرض” (4 )
ويضيف في موقع آخر:”وقد سلكت فيه مسلك شيوخي ـرضي الله عنهم ـ في البحث وتحقيق المسائل , والتأنيس بالتنظير والتنقير عن دفائن اللفظ، وبتتبعه بقدر الإمكان، والاعتراض وإيراد الإشكال، والاعتذار عن اللفظ المشروح على حسب ما أعطاه الوقت والحال، وأوجبه تحسين الظن بالمؤلف، وعدم الوقوف وراء اللفظ تقليدا دون أن يتحرر معنى الكلام او يظهر وجهه، والاحتجاج لمذهب المؤلف وترجيحه لما أمكن له وجه ترجيح، وتنشيط القارئ في بعض المواطن بالحكايات عن أهل العلم في المسائل المتكلم فيها” (5).
من أبرز شيوخه في النحو واللغة : أبو عبد الله محمد بن علي بن الفخار، سيويه العصر(ت 754هـ) والشريف الحسني (ت 760هـ) وأبو عبد الله البلنسي.(ت 782هـ)
و الكتاب شرح مستفيض لم يركب صاحبه الاختصار بل فضل التعمق والتفصيل فقد بسط الشرح وأنشأ موسوعة حول الألفية خالفت المعهود من شروح الألفية التي اعتمدت الإيجاز، يقول صاحب مقدمة التحقيق محمد بن إبراهيم البناء: “ولقد عرفنا بعض هذه الشروح فلما قدر لنا أن نعايش منهج الشاطبي هنا بدا لنا أنه قد فاتنا كثير من مرامي الألفية وأنه قد مررنا بكثير من مشكلاتها مر الكرام كما يقولون” (6).
وعلل هذا البسط بقوله:”لم اقصد فيه قصد الاختصار الذي قصده غيري ممن شرح هذا النظم لأمور أكيدة “(7).
وقد حصر هذه الأمور في أربعة دوافع وهي:
1ـ أن واضعه لم يقصد به الصائم أي المبتدئ في هذا العلم.
2ـان الناظم لم يكن مجرد ناقل بل لجأ إلى التعليل والترجيح والأخذ بالدليل .
3ـ في الكتاب قواعد كلية تحتاج إلى البسط ولا يسعها الاختصار .
4ـ فيه إشارة وغموض واكتفاء بالمفهوم مما يوحي أن صاحبه يود إشراك الشادي والمنتهي.
والشاطبي الأصولي يرفض إلا أن يخوض في أصول النحو خاصة أنه صاحب كتاب في هذا العلم ” الأصول العربية ” والذي أشار إليه بكثرة في هذا الشرح كقوله:” وقد بينت هذه المسألة بما هو أوسع من هذا وأشفى للصدر في باب الضرائر من “أصول العربية “(8) .
وسنختصر في هذا العرض على مسألتين تتعلقان بأصول النحو_ مما تناوله الشاطبي في كتابه”المقاصد الشافية ” _ الأولى تهم السماع وهي قضية الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف، والثانية تخص القياس الذي قال بشأنه واضع مقدمة التحقيق:” ولا أعتقد أن في نحو العربية كتابا حوى مقالات وتحقيقات حول القياس مثل هذا الشرح”(9).
1) الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف
اختلف العلماء حول الاحتجاج بالحديث النبوي في الدراسات النحوية فمنهم من منع ذلك كابن الصائغ وأبي حيان الأندلسي، ومنهم من ذهب إلى صحة هذا الاحتجاج مطلقا كابن مالك وابن هشام، ومنهم من ذهب مذهبا وسطا بينهما وهذا رأي أبي إسحاق الشاطبي. إذ يقول :” واعلم أن جميع ما استدل به الناظم، أو استُدِلَّ له به مبناه على السماع, فان القياس عند أهل اللسان تابع غير متبوع أي تابع للسماع من أهل العرب,فالسماع هو الحاكم على القياس وليس السماع تابعا للقياس ، ولذلك قال الإمام “قف حيث وقفوا ثم فَسِّرْ” ، فأخذ الناس هذا منه أصلا يرجعون إليه، والسماع الذي اعتمده الناظم أمران :
احدهما الشعر والآخر الحديث، أما الحديث فانه خالف في الاستشهاد به جميع المتقدمين، إذ لا تجد في كتاب نحوي استدلالا بحديث منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على وجه أذكره بحول الله . وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم وبأشعارهم التي فيها ذكر الخنا والفحش …ويتركون الأحاديث الصحيحة, كما ترى ,ووجه تركهم للحديث أن يستشهدوا به ما ثبت عندهم من نقله على المعنى وجواز ذلك عند الأئمة إذ المقصود الأعظم عندهم فيه إنما هو المعنى لتلقي الأحكام الشرعية لا اللفظ ، ولذلك تجد في الأحاديث اختلاف الألفاظ كثيرا، فترى الحديث الواحد، في القصة الواحدة والمقالة الفذة التي لا ثانية لها، قد اختلفت فيه العبارات اختلافا متفاوتا ما بين جار على عرف من كلام العرب ، وما لم يعرف وليس ذلك إلا لما ساغ لهم أعني الرواة من نقله بالمعنى… خلاف ما عليه الأمر في نقل الشعر وكلام العرب، فإنهم اعني رواته ، لم ينقلوه أخذا لمعناه، بل فقط المعتنى به عندهم كان اللفظ، لما ينبني على ذلك من الأحكام اللسانية ، فاعتنى النحويون بالاستنباط مما نُقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من الأحاديث لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي,فيكون قد بنى على غير أصل، وذلك من جملة تحريهم في الحلافظة على القواعد اللسانية.ولو رأيت اجتهادهم في الأخذ عن العرب ، وكيفية التلقي منهم لقضيت العجب، فليس بمنكر تركهم للاستشهاد بالحديث والاستنباط منه ن كيف وهم قد بنوا على ما نقل أهل القراءات من الروايات في ألفاظ القرآن، فبنوا عليها لما كان اعتناؤهم بنقل الألفاظ، وإذا فرض في الحديث ما نقل بلفظه وعرف بذلك، بنص أو بقرينة تدل على ااعتناء باللفظ صار ذلك المنقول أولى ما يحتج به النحويون،
واللغويون ، والبيانيون ويبنون عليه علومهم.” (10).
ويخلص بعد ذلك إلى تقسيم الحديث من حيث النقل إلى قسمين:
أحدهما : ما عرف أن المعتنى به فيه نقل معانيه لا نق ألفاظه، فهذا لم يقع به استشهاد من أهل اللسان.
والثاني ما عرف أن المعتنى به فيه نقل ألفاظه لمقصود خاص به، فهذا يصح الاستشهاد به في أحكام اللسان العربي. وهذا ما ذهب إليه مجمع اللغة العربية بالقاهرة أيضا (11).
2) قواعد نفيسة في القياس
يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله:”غير أن هاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها في الكلام على هذا النظم، وما ارتكب صاحبه فيه وفي غيره، وذلك أن المعتمد في القياس عند واضعيه الأولين، إنما هو اتباع صلب كلام العرب، وما هو الأكثر فيه؛ فنظروا إلى ما كثر مثلا كثرة مسترسلة الاستعمال فضبطوه ضبطا ينقاس ويُتَكَلَّم بمثله، لأنه من صريح كلامهم، وما وجدوه من ذلك لم يكثر كثرة توازي تلك الكثرة، ولم يشع في الاستعمال نظروا: هل له من معارض في قياس كلامهم أم لا؟ فما لم يكن له معارض أجْرَوْا فيه القياس أيضا، لأنهم علموا أن العرب لو استعملت مثله لكان على هذا القياس، كما قالوا في النسب إلى فعولة: فَعَليّ، ولم يذكروا منه في السماع إلا شَنَئِيًّا فِي شَنُوءَة، فقاسوا عليه أمثاله لعدم المعارض له، فصار بمثابة الكلي الذي لم يوجد من جزئياته إلا واحد كشمس وقمر، وكذلك إذا تكافأ السماعان في الكثرة بحيث يصح القياس على كل واحد منهما وإن كانا متعارضين في الظاهر, لأن ذلك راجع إلى جواز الوجهين كلغة الحجازيين وبني تميم في إعمال (ما) وإهمالها، والتقديم والتأخير في المبتدأ مع الخبر، والفاعل مع المفعول، وغير ذلك، فليس في الحقيقة بتعارض، لا سيما إن كانا في لغتين مفترقتين، فإن اللغات المفترقة ألسنة متباينة، وقياسات مستقلة، فلا تعارض فيها البتة، وإن قلَّت إحداهما بالإضافة إلى الأخرى، إلا أن تضعف جدا فلها حكمها، وأما الوجهان في اللغة الواحدة فحكمهما ما ذكر، وما كان له معارض توقفوا في القياس عليه، ووقفوه على محله، إذا كان المعارض له مقيسا، وذلك كدخول (أن) في خبر (كاد) تشبيها بعسى، لو أعملنا نحن القياس في إدخالها لانحرفت لنا قاعدة عدم إدخالها، مع أنه الشائع في السماع. وهذا كله مبين في الأصول”(12 ).
وسنأخذ نموذجا موضحا لمنهج الشاطبي في تناول قول ابن مالك وتوظيف القياس في الاحتجاج له أو ضده ، حيث الاعتراض والاستدراك والتساؤلات على ابن مالك دون أن يكون طالب عثرة، بل كان متأدبا بأدب العلماء ،ساعيا إلى الترجيح القائم على البرهنة والاستدلال ويتعلق الأمر بسبق الحال إذا كان صاحب الحال مجرورا بحرف جر.
يقول الشاطبي: “ثم قال[ يقصد ابن مالك] [رجز]
وَسَبْقَ حَالِ مَا بِحَرْفٍ جُرَّ قَدْ أَبَوْا وَلَا أَمْنَعُهُ فَقَدْ وَرَدْ
هذا الفصل يتكلم فيه على الحال من المجرور بحرف هل يجوز تقديمه عليه أم لا يجوز.
والتقدير: قد أبوا (يعني النحويين_ سبق حال الاسم الذي جر بحرف، ويعني أن النحويين منعوا إذا كان كان صاحب الحال مجرورا بحرف أن يتقدم الحال عليه، وإنما يكون عندهم متأخرا عنه لزوما بحيث لا يجوز في القياس غيره، فإذا قلت : مررت بزينب ضاحكة، فهو اللازم، وكذلك إذا قلت مررت بالزيديْنِ قائمَيْنِ، لا يجوز أن تقول : مررت ضاحكةً بزينب، ولا مررت قائمَيْنِ بالزَّيْدَيْنِ والا يجوز تقديمه على متعلق الجار وهو الفعل ونحوه أولى، فلا يقال ضاحكة مررت بزينب ولا قائمين مررت بالزيدين، هذا ما حكاه على النحويين .
ولم يذكر المسبوق ما هو إذ هو مفهوم أن المراد سبقُ الحال على صاحبه، وسبقه على صاحبه تارة يكون مع سبق العامل عليهما، وتارة مع سبق الحال على صاحبه والعامل معا، ثم ذكر ما اختاره مذهبا ورجحه على غيره، وهو الجواز، فقال ” ولا أمنعه فقد ورد” يريد: لا أمنع ذلك السبق الذي منعتم بل أجيز سبق الحال لصاحبه المجرور بحرف، وسبقه لصاحبه وللعامل معا، وبين سبب هذه الإجازة ، والمخالفة وأنه السماع المقتضي للجواز بقوله: “فقد ورد” يعني أنه ورد من كلام العرب فهو موجود ، وإذا كان مسموعا فلا سبيل إلى المنع جملة، إذ السماع هو الإمام المتبع، فمن ذلك قول الله تعالى:”وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا” (13) فالظاهر في كافة أنه حال من الناس كما لو قال: للناس كافة.والعرب لا تستعمل كافة قط إلا حالا…..
ومن المنظوم قول الشاعر من أبيات الحماسة (14):
إذا المرءُ أَعْيَتْهُ الرياسةُ ناشِئًا فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُ (15)
يقول الشاطبي :”والصواب _والله أعلم_ مع النحويين دون ابن مالك، لأنهم لم يأتوا بوجه المنع القياسي إلا بعد استقراء كلام العرب، وأنهم لم يجدوا التقديم إلا في شعر لا يُجْعَل وحده مأخذَ قياس، أو في الآية الكريمة مع احتمالها وعدم نظير لها في ظاهرها، ومعارضة الاستقراء للقياس في المسألة ، فحينئذ جزموا بمنع المسألة ، وأولوا الآية الكريمة حين لم يجدوا لها في الكلام نظيرا ، ولم يثبت عندهم جواز التقديم في لغة من اللغات، فالحق ما ذهبوا إليه .ومن عادة ابن مالك التعويل على اللفظة الواحدة تأتي في القرآن ظاهرُها جوازُ ما يمنعه النحويون ، فيعول عليها في الجواز ، ومخالفة الأئمة ، وربما رشح ذلك بأبيات مشهورة أو غير مشهورة , ومثل ذلك ليس بإنصاف ، فإن القرآن الكريم قد يأتي بما لا يقاس مثله،
وإن كان فصيحا وموجَّها في القياس لقلته…[ف]ليس كل ما تكلم به العرب يقاس عليه،
وربما يظن من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم “شاذ” أو “لا يقاس عليه” أو “بعيد في النظر القياسي” أو ما أشبه ذلك ضعيف في نفسه وغير فصيح، وقد يقع مثل ذلك في القرآن؛ فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك، وهم أولى لعمر الله أن يشنع عليهم، ويمال نحوهم بالتجهيل والتقبيح، فإن النحويين إنما قالوا ذلك لأنهم لما استقروا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يُحْذَى حَذْوُها وجدوه على قسمين:
قسم سَهُلَ عليهم فيه وجه القياس ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال وكثرة النظائر فيه فأعملوه بإطلاق؛ علما بأن العرب كذلك كانت تفعل في قياسه.
وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس، أو عارضه معارض لقلته وكثرة ما خالفه. فهنا قالوا إنه “شاذ” أو “موقوف على السماع” أو نحو ذلك؛ بمعنى أنا نتبع العرب فيما تكلموا به من ذلك ولا نقيس غيره عليه، لا لأنه غيرُ فصيح، بل لأنا نعلم أنها لم تقصد في ذلك القليل أن يُقاس عليه، أو يَغْلِب على الظن ذلك، وترى المعارض له أقوى وأشهرَ وأكثرَ في الاستعمال، هذا الذي يعنون لا أنهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين ، حاش لله، وهم الذين قاموا بفرض الذَّبِّ عن ألفاظ الكتاب، وعبارات الشريعة، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم أشد توقيرا لكلام العرب، وأشد احتياطا عليه ممن يَغْمِزُ عليهم بما هم منه برآء.اللهم إلا أن يكون في العرب من بَعُدَ عن جمهرتهم، وباين بحبوحة أوطانهم، وقارب مساكن العجم، أو ما أشبه ذلك ممن يخالف العرب في بعض كلامها وأنحاء عباراتها فيقولون: هذه لغة ضعيفة، أو ما أشبه ذلك من العبارات الدالة على مرتبة تلك اللغة في اللغات، فهذا واجب أن يُعَرَّفَ به، وهو من جملة حفظ الشريعة والاحتياط لها. وإذا كان هذا قصدهم وعليه مدارهم فهم أحق أن ينسب إليهم المعرفة بكلام العرب ومراتبه في الفصاحة، وما من ذلك الفصيح قياس، وما ليس بقياس، ولا تضر العبارات إذا عرف الاصطلاح فيها ولا تضر العبارات إذا عرف الاصطلاح فيها، وعلى هذا الْمَهْيَعِ جرى النحويون في منع هذه المسألة، فلم يُغفلو ا السماع أصلا ثم مالوا إلى المنع بالقياس ، وإنما قالوا بالقياس عضدا لما حصل لهم بالاستقراء من امتناع العرب من التقديم، ولكن للكوفيين هنا قاعدة يبنون عليها القياس _مخالفة لما تقدم، وهي أنهم قد يعتبرون اللفظ الشاذ فيقيسون عليه، ويبنون على الشعر الكلام من غير نظر إلى مقاصد العرب، ولا اعتبار لما كثر أو قل فمن ههنا وقع الخلاف بينهم في مسائل كثيرة. والناظم قد ينحو نحوهم في مائل كثيرة وهذه المسألة منها ، وكذلك مسألة تقديم التمييز على عامله ” (16).
ثم ينتقل إلى الاعتراض والتساؤلات وإبداء الملاحظات على مذهب ابن مالك هذا قبل الخوض في الاعتذار. فيقول: “ثم على الناظم في هذا الموضع سؤالان :
أحدهما أنه نسب إلى جملة النحويين المنع في المسألة بقوله:” قد أبوا” فظاهر هذا انه متفق على المنع فيه، وهذا غير صحيح…فإذا ليس جميع النحويين بقائلين بالمنع، فكان إطلاق ذلك اللفظ عنهم غير لائق من جهتين: من جهة إيهام الاتفاق في المسألة، ومن جهة مخالفته لهم بعد ذلك الإطلاق حتى يتوهم أنه صرح بمخالفة الإجماع، وفي ذلك ما فيه.
والثاني : أنه أظهر حجة على ما ذهب إليه ليس فيها متعلق لقوله” فقد ورد” وهذا لا ينجيه، لأن المخالفين مقرون بأنه قد ورد، فهم الذين أنشدوا أكثر الأبيات المتقدمة ، وأتوا بالآية الكريمة، وتكلموا عليها، وأولوا ظاهرها، وحملوا الأبيات على الاضطرار الشعري، وأولوا منها ما أمكن، وإذا كان كذلك، فأي حجة في قوله: “فقد ورد”فإن الوارد في كلام العرب على قسمين: قسم يقاس عليه وقسم لا يقاس عليه ، فالذي لا يقاس عليه ، لا اعتبار به في القياس، وإنما الاعتبار بالآخر فهو الذي كان الحق أن يعنيه فيقول:”فقد ورد كثيرا في الكلام” أو نحو ذلك ، مما يعطي أنه حجة، أما إذا لم يفعل ذلك، فكلامه كالعبث الذي لا يليق بمثله.
والعذر له عن الأول أنه لم يجهل أن المسألة مختلف فيها، كيف وقد ذكر الخلاف في التسهيل وشرحه(17)، ولكنه أطلق لفظ الجميع على الأكثر، وهذا سائغ في كلام العرب، شهير الاستعمال، فيقال : جاءني أهل غرناطة إذا جاءك جمهورهم، بل تقول ذلك وإنما جاء كبراؤهم، وهم قليل بالإضافة إلى جميعهم، فلا محذور فيه.
وعن الثاني: أن مقصوده إنما هو ورود يعتد بمثله في القياس، لا مطلق الورود بدليل عدم اعتباره للشذوذات في هذا النظام كثيرا، فعرف الاستعمال يعين له ما أراد، وهذا ظاهر . والله أعلم” (18).
الهوامش:
(1) الموافقات:5/53. لإبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ/1997م.
( 2)نيل الابتهاج بتطريز الديباج : 49.تحقيق طلاب من كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس، تقديم وإشراف عبد الحميد عبد الله الهرامة، منشورات الكلية نفسها.
(3 ) المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية: 9/494. تحقيق محمد إبراهيم البنا، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعة الأولى:1428ه/2007م.
(4) المقاصد الشافية :1/1-2.
(5 ) المقاصد الشافية :9/487.
(6) مقدمة التحقيق:19.
(7 ) المقاصد الشافية : 9/485.
( 8)لمقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية: 1/499.تحقيق عبد الرحمان بن سليمان العثيمين، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعة الأولى:1428ه/2007م.
(9 )مقدمة التحقيق: 21.
(10 )لمقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية: 3/401_402. تحقيق عياد بن عيد الثبيتي، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعةالأولى:1428ه/2007م.
( 11)مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما:5.
(12 )لمقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية:4 / 180 – 181، تحقيق محمد إبراهيم وعبد المجيد قطامش. معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الطبعةالأولى:1428ه/2007م.
( 13)اسبأ:28.
( 14) انظر شرح الحماسة: 1148، القطعة:415.للمرزوقي،نشر أحمد أمين، وعبد السلام هارون ، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى: 1411ه،1991م
( 15)المقاصد الشافية : 3 / 451-453.
( 16)المقاصد الشافية: 3 / 455.
( 17)حيث يقول:”وإذا كان صاحب الحال مجرورا بحرف لم يجز عند أكثر النحويين، نحو:مررت بهند قائمة، فيخطئون من يقول :مررت قائمة بهند”: شرح التسهيل: 2/252.تحقيق: محمد عبد القادر عطا، طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، بيروت ،لبنان.
( 18)المقاصد الشافية: 3/458.
لائحة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم برواية ورش.
1- شرح التسهيل، لا بن مالك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، بيروت ،لبنان.
2- شرح الحماسة، للمرزوقي، نشر أحمد أمين، وعبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى: 1411ه،1991م
3- مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما 1934م-1984م، أخرجها وراجعها: محمد شوقي أمين و إبراهيم التوزي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1404 هـ/1984م.
4- المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية:الجزء الأول، تحقيق عبد الرحمان بن سليمان العثيمين، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعة الأولى:1428ه/2007م.
5- المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية:الجزء الثالث. تحقيق عياد بن عيد الثبيتي، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعةالأولى:1428ه/2007م.
6- المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، الجزء الرابع، تحقيق محمد إبراهيم وعبد المجيد قطامش. معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الطبعةالأولى:1428ه/2007م.
7- المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، الجزء التاسع، تحقيق محمد إبراهيم البنا، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .الطبعة الأولى:1428ه/2007م.
8- الموافقات، لإبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ/1997م.
9- نيل الابتهاج بتطريز الديباج ،لأحمد بابا التنبكتي، تحقيق: طلاب من كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس، تقديم وإشراف عبد الحميد عبد الله الهرامة، منشورات الكلية نفسها.
اترك رد