سبابة الجسد الكوني المشيرة الى الحق

لكل جسد أعضاؤه التي تكونه، و له عمره وأجله و تغذيته التي تجعله على قيد الحياة. تأمل معي أيها القارئ الكريم الآية الكريمة التي تقول ” تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ” 1
إذا رجعنا الى كتب التفسير نجد أن المراد بالتسبيح عند أغلب المفسرين تسبيح دلالة علي عظمة التكوين‏,‏ وهندسة البناء‏,‏ وحكمة الخلق‏,‏ وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى منزه ومتعال وقادر‏,‏ ولكن بعض المفسرين فهموا التمجيد على أنه تسبيح دلالة فقط‏;‏ لأنهم لم يسمعوا هذا التبجيل ولم يفهموه‏,‏لكن الامام الشعراوي في تفسيره يرى أن الحق سبحانه وتعالي أخرجنا من هذه المسألة بقوله‏‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم فيستنتج المراد من التسبيح قائلا ‏:‏ إذن‏:‏ يوجد تسبيح دلالة فعلا‏,‏ لكن ليس هو المقصود‏,‏ فالمقصود هنا هو التسبيح الحقيقي كل بلغته فقوله تعالي‏‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏،‏ يدل علي أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الـذي آمن بمقتضاه المؤمنون‏,‏ إنه تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس‏,‏ وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح‏,‏ فقد قال تعالى‏:‏‏” كل قد علم صلاته وتسبيحه”2
لكن التساؤل الكبير الذي يبقى مطروحا ــــ بعد قراءة تفسير الشعراوي السابق و شرح ابن كثير لنفس الآية : “تقدسه السماوات السبع والأرض ومـن فيهن‏”,‏ أي‏:‏ من المخلوقات‏,‏ وتنزهه وتعظمه وتجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون‏,‏ وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته ـــــ هو : كيف نسلم بأن المشركين و هم من ضمن مخلوقات الله يسبحون و هم لا يؤمنون بالله عز وجل.
إن الكون في نظرنا كله جسد واحد ساجد للحق سبحانه و تعالى اضطرارا و السجود هنا سجود القهرية بمعنى الخضوع لله سبحانه خضوع قهرية للنظام الذي وضعه، حيث لخص الامام الشاطبي مقاصد الشارع في قوله : المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .
إن الفرق بين المؤمن و غير المؤمن في نظرنا هو أن كلاهما داخل في المنظومة الكونية خاضع لقهريته مسبح له التسبيح الاضطراري الذي قصدناه في هذا المقال بمعنى الدخول القهري في النظام الكوني المحدد من طرف الحق من ولادة فرضاعة فتغذية فطفولة و شباب ثم كهولة و شيخوخة و كذا من مرض و صحة و غير ذلك من الأحوال التي يضطر لها الانسان شاء أم أبى بغض النظر عن عقيدته و هو في ذلك يستوي مع سائر مخلوقات الله المكلفة منها كالجن أو غير المكلفة كالليل و النهار “لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار” 3 و “كالكواكب و الشموس حيث يقول الحق عن دوران الافلاك “وكل في فلك يسبحون” 4 بمعنى بنظام معين لا يتغير فكل كوكب أو نجم له مداره لا يحيد عنه و لا يصطدم بآخر.
أما الانسان المؤمن فهو متميز عن سائر المخلوقات بكونه ممتحن و مختبر في هاته الحياة الدنيا و من هنا جاء تكريم الحق له و تفضيله بمنحه خلافته في الأرض بنسبة إرادة و بصر و سمع و عقل و علم و غيرها من الصفات البشرية النسبية التي تستمد من إطلاقية صفات الحق و بذلك نال الانسان خلافة الحق في هاته الأرض حتى يعمرها خير إعمار.
يقول تعالى ” فلن تجد لسنة الله تبديلا ، و لن تجد لسنة الله تحويلا ” فكل مخلوقات الله سبحانه و تعالى بمثابة ذرات مكونة للجسد الكوني و هي خاضعة لتحركاته الداخلية التي تكون نظامه الذي يجعله على قيد الحياة كما هو عليه أمر الكريات البيضاء و الكريات الحمراء و غيرها من مكونات الجسد الإنساني من نبضات القلب و جريان الدم و حركة الرئتين و أي خلل ظاهري في جسد الكون كثقب الازون أو الزلازل أو البراكين هي بمثابة ما يعتري الجسد الانساني من أمراض عارضة كالرعاف و الحمى و الزكام و غيرها.
و إذا كان هذا الجسد الكوني معترفا للحق بالربوبية بالفطرة متوجها بتسبيحه و صلاته من أعماق جوهره و ذاتيته فسيدنا محمد حبيب الله و صفيه صلوات الله و سلامه عليه و على آله و صحبه بمثابة سبابة هذا الجسد تشير الى الله عز وجل أثناء تشهد هذا الجسد الكوني في صلاته و تسبيحه للحق عز و جل.

الهوامش:

1ـ الاسراء ، 44
2ـ النور ، 41 ، و انظر تفسير الشعراوي للآية 44 من سورة الإسراء.
3ـ يس، 40
4ـ يس، 40


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد