اصطفى الحق تعالى ــــ أو القانون الالهي أو الطبيعي أو سمه سبحانه و تعالى ما شئت من التسميات التي تصف هيمنته على كل مخلوق و علوه فوق كل حادث ــــ الحمام الزاجل من أجل إرسال الرسائل بين بني البشر حين اكتشف الانسان قدرته على الرجوع الى موطنه، حيث تعتبر الباحثة مي مجدي أن الحمام الزاجل، سيد الحمام فى الدنيا بدون منازع لما لديه من غريزة حب لموطنه والعودة إليه مهما بعدت المسافات الشاسعة التى يقطعها فى إيصال الرسائل وما يؤديه من خدمات جليلة فى تاريخ الحروب ونقل أخبارها إلى العواصم والأمصار.
و تردف الباحثة أيضا أن الدراسات العلمية الحديثة كشفت عن أن الحمام الزاجل لديه القدرة الطبيعية على رسم خارطة المجال المغناطيسى للأرض يستعين بها فى معرفة طريق العودة إلى موطنه وهو ما ينفى القول عن استخدام حاسة الشم لديه لتحديد مساره أثناء الطيران 1.
اصطفى الله سبحانه و تعالى اينشتاين لينقل للبشرية قوانين رياضية مبثوثة في الكون استطاع بأبحاثه أن يفك شيفراتها و يبلغها للبشرية حيث أن علماء البشر مهما علت مستوياتهم إنما هم مفككين لرموز مبثوثة أصلا من طرف واضعها الذي هو العليم الحق و الذي هو بكل شيء محيط، وهو بذلك مبلغ عن الحق في مجاله حيث لا يخرج عن كونه ناقلا للرسالة الرياضية حسب مقامه في ذلك العلم.
اصطفى الله عز و جل بعض البشر من أجل الابداع الشعري ومن أراد أن يدخل ضمن خانة المصطفين من الشعراء ماعليه الا أن يسلك مسلكهم حيث سأل شاب طموح أبا تمام: كيف أصبح شاعراً؟ قال له: أحفظ ألف بيت من أجود شعر العرب ثم تعال، وحيث حفظها وقرأها عليه قال: انسها كلها الآن، فأبو تمام الموهوب يعرف أنه إذا عمل على نسيانها فقد هضمها في عقله الباطن وصارت جزءاً من ثقافته توسع مداركه ومعانيه وألفاظه، وأمره بنسيانها لكي تكون له (شخصية) وأسلوب متفرد وإن أثرت فيه النصوص التي قرأها لأنه يكون قد هضمها بوجدانه وتفرده كما يهضم الجسم السليم أنواع الطعام المختلفة فيبني بها صحته ونضارته 2، و هكذا فالنبوة الشعرية إن صح التعبير لا يمكن أن تتأتى لصاحبها الا أن زرع الشعر على مستوى عقله الباطن بعد رسوخ مئات الأبيات الشعرية ببحورها و قافياتها في ذهنه فأصبحت الكلمات تخضع له خضوعا.
أخرج البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” و قد ذكر المناوي في كتابه فيض القدير نقلا عن الرافعي قوله: وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منه ما لا تتغير صفته فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها”، و هكذا فمما يفهم من هذا الحديث و من شرح المناوي له أن الله سبحانه و تعالى قد اصطفى لكل تخصص أناسه فكل ميسر لما خلق له و قال تعالى “إنَّ سعيكم لشتّى”.
ان الاصطفاء في نظرنا ليس اصطفاء واحدا بل اصطفاءات متعددة و اجتباء متنوع و انتقاء مبني على علم و ليس عبثيا كما قد يظن البعض ” وكل شيء عنده بمقدار” فالرسول صلى الله عليه و سلم و غيره من الأنبياء و المرسلين إنما اصطفاهم الحق لطهارة في قلوبهم لم تأت من عبث بل أتت انطلاقا من زهدهم في الملاهي و الآثام و من صدقهم في معاملاتهم ناهيك عن اصطفاء جسدي جيني يمكن أن يتصبر على تحمل القول الثقيل ” إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا”
و لهذا فلا ينبغي الاستغراب إن أتانا هؤلاء الرسل و الأنبياء بما هو غيبي غريب عنا فذاك لأن أرواحهم طهرت من كثرة التفكر في آلاء الله فاستعدت لتلقي الوحي فكما أن الطائرة لا يمكن أن تحط الا في الأرضية المهيئة للهبوط فكذلك وحي الله الذي هو أشرف تنزل على مخلوق في هاته الأرض، لذلك كان لا بد من الاستعداد الباطني و الجسماني يقول تعالى”الله أعلم حيث يجعل رسالاته”.
و إذا كانت النبوة قد انقضت فالاصطفاء لا زال مستمرا في الأرض الى أن يرث الله الأرض و من عليها، فالابداع المنبثق من الوحي الفكري أو الشعري أو الرياضي أو الروحي الصادر من تعليم الحق للإنسان الأسماء كلها لا زال حاضرا ، بل وعليه أن يتكاثر في كل أنواع العلوم الشرعية منها الشعرية و الحقة و التجريبية بل و حتى الروحية ف”الرؤيا الصالحة جزء من ست و أربعين جزءا من النبوة” حديث أخرجه البخاري و مسلم.
منذ أن أتى الاسلام نبه الى هاته الحقيقة و جعلها من آكد ما يجب أن يستحضره المسلم في يومه حتى يكون من المصطفين الأخيار في مجاله الذي يتقنه حيث جعلها كلمة باقية في عقب الرسول صلى الله عليه و سلم الشبحيين كما الروحيين “و نقصد بهم أبناء الاسلام” حيث يردد كل مسلم في صلاته الصلاة الابراهيمية المعروفة، لكن و يا كل الأسف أن معظم المسلمين يرددها حتى دون التدبر فيها عسى أن يحصل له في يوم من الأيام ذاك التدبر الذي قد يكون مفتاح نجاحه حيث يسأل المسلمون في هاته الصلاة أن يجعل من آل محمد ـــ” و هم كل تقي في الاسلام” فكل مسلم هو من آل محمد أي من أبناءه الروحيين ـــ كآل إبراهيم في صلاة الحق عليهم و مباركته إياهم حتى كانوا أنبياء في صلاحهم و تقواهم، ذاك كان من أهم مقاصد الرسول في جعل الصلاة الابراهيمية متكررة في كل صلاة أكثر من خمس مرات في اليوم بين فرض و نفل.
لا غرو أن الوحي ليس خاصا بالكائن البشري”وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا” و يبقى التساؤل هل يبلغ النحل الرسالة كما يبلغها الانسان” نشرت صحيفة التايمز البريطانية الشهيرة مقالا في عددها الصادر بتاريخ 6 فبراير 2009 تحت عنوان(Hills are alive with the sound of ants – talking to each other) ( التلال حية بأصوات النمل تتحدث مع بعضها البعض،. يتحدث المقال عن اكتشافات علمية جديدة تتعلق بخاصية التخاطب وتبادل الحديث في مملكة النمل.. ويذكر المقال أن الاكتشافات الحديثة قد بينت أن لغة التخاطب عند النمل متطورة ومتقدمة على نحو كبير أكبر مما كان يعتقد قبل ذلك.
وأشار المقال إلى أن التطور الحديث في مجال التكنولوجيا الصوتية قد مكن العلماء من اكتشاف أن النمل يتحدث مع بعضه البعض بصورة دورية.. وأوضح المقال أنه من خلال وضع ميكروفونات وسماعات دقيقة في أعشاش النمل تمكن الباحثين من إثبات أن الملكة تصدر الأوامر للعمال).3
و مما يستشف من النظرة المتفحصة في مفهوم الرسول أن خلق الصدق هو عماد تبليغ الرسالة و أن الكذب لا يتناغم و مفهوم التبليغ هذا، و أتذكر في هذا السياق قصة النملة التي أرادت سحب رجل جرادة ميتة فلم تستطع فذهبت لإخطار غيرها من النمل لمساعدتها في حين كان د سعود بن عيد العنزي جالسا يراقب فأخفى رجل الجرادة فلما أتى فيلق النمل للمساعدة لم يجد شيئا بعد بحث شديد للمكان ، فرجعوا من حيث أتو و بعد أن أرجع سعود الرجل لمكانها رجعت النملة فعاودت حملها دون جدوى لتذهب من جديد لطلب العون و في هاته المرة لما أتى النمل و لم يجد شيئا لان الدكتور سعود كان قد عاود الكرة ثانية، تأكد النمل من كذب النملة زميلتهم فقطعوها إربا.4
رسالة أخرى بلغها عن الحق سبحانه و تعالى غراب يبحث في الأرض لقابيل قاتل هابيل ليريه كيف يواري سوءة أخيه ، و قد استفاد علماء الغرب من مثل هاته الحقائق التي بثها الحق سبحانه في الوجود واضحة للمتفكرين فطوروا تخصصا جديدا هو التكنولوجيا الحيوية او التقانة الحيوية او التقنية الحيوية (بالإنجليزية: Biotechnologies) و تعريفها حسب موسوعة ويكيبيديا هو تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحية بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوناتها في الأغراض الصناعية. أي أنها تقانة مستندة على علم الأحياء بمعنى ملاحظة مدققة للقوانين التي تقوم عليها الطبيعة، و هي تستعملَ اليوم في جميع مناحي الحياة من الزراعة، وعلم الغذاء، والطب و صناعة السيارات …الخ 5.
و من غريب ما قرأت في هذا السياق على صفحات جريدة الحياة اللندنية أعلنت “نيسان” عن بدء تجاربها لنوع من الطلاء يمكنه أن يغسل نفسه بنفسه من دون الحاجة للماء أو الصابون. وبحسب الشركة فإن الاختراع المسمى Superhydrophobic يقوم على فكرة عدم التصاق الأوساخ بجسم السيارة ابتداءً عن طريق جعل القطرات تبدو مكورة أكثر من كونها مفلطحة كما هو السائد. ومن ثم تسقط الأوساخ تلقائياً لأنها لا تتمكن من الالتصاق. كما أن من الملاحظ أن المادة التي بدأت “نيسان” في اختبارها على أسطح السيارات لا تجعل أجسام السيارات مضادة الاتساخ فوراً لكنها تبدو وكأن الأوساخ تزول تلقائياً خلال ثوان من التصاقها بجسم السيارة. 6.
هذا النوع من الطلاء تم اكتشافه مؤخرا من طرف عالم ألماني يدعى “و. بارثلوت ” يعتبر رائد علم المواد ذاتية التنظيف التي يعتمد بعضها على تأثير زهرة اللوتس.
ذكرت في مقال سابق بعنوان “الحكمة: تحديد مجهر البصيرة”7 أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عرج الى السماء فرأى من خلال اطلاع الحق له للوح المحفوظ أهل النار في النار يعذبون و أهل الجنة في هاته الأخيرة يتنعمون فهبط ليخبرنا عن الأمر و شبه ذلك برَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا, فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا, فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا, فَرسول الله آخُذ بِحُجَزِنا عَنْ النَّارِ و نحن نأبى الا أن نقحم فيها حيث “روى الإمام البخاري بسنده عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: (مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ, كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا, فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ, وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي ” أخرجه مسلم,
لا يمكن لأحد أن يحصل على هذا التشبيه الدقيق بين حال البشر في انجذابهم لغرائزهم لحال الحشرات المنجذبة للنار الا من عرج بفكره و خرج بتأمله الفكري عن دراسة البشر الى دراسة الكائنات الأخرى و عقد مقارنات و استنتاج النتائج لذلك أطرى الحق على من ينسلخ عن هذا العالم المادي إما روحيا أو فكريا أو قل هما معا عبر التوسل بالذكر و الفكر من أجل تفكيك رموز هذا الكون الناطق بكل ما كتبه الحق بقلم القدرة من أجل أن يتعرف القارئ على الكاتب الذي ليس هو الا الحق جل و علا.
يمكن أن يكون العروج أفقيا أيضا و له أهميته البالغة أيضا في فهم السياق الانساني في هذا الوجود حيث يركز الأمر الالهي على أهمية العروج الأفقي في الأرض قائلا ” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” العنكبوت20، و لذلك شبه الرسول صلى الله عليه و سلم نفسه في هذا السياق برجل ساح في الأرض و خرج مكانيا عن دائرة قومه فأطلعه الله على خطر داهم يهدد بلده فرجع لمكانه الأول منذرا لقومه فمن صدقه نجا و إلا فالهلاك و العياذ بالله ، أخرج مسلم عن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ».
لقد كان للمعراج البصري الذي حصل لكاليليو الفضل في تحديد مجهر البصر من أجل الحصول على نظرة شمولية للظاهرة موضوع البحث التي كانت آنذاك هي “الأرض” وهل هي كروية الشكل أم أنها مجرد مساحة مسطحة كبيرة؟ فأثبت أن الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب8.
من خلال ما سبق يمكن الخروج بمجموعة من الخلاصات:
° أن الاصطفاء أنواع فهناك النبوة الروحية و الفيزيائية و الرياضية وهو مبنى على قواعد علمية كلما توفرت كلما لحق صاحبها بركبه.
°أن من مقاصد الشرع تحقيق هذا الاصطفاء و دليل ذلك الكلمة المبثوثة في روح صلاة كل مسلم متمثلة في الصلاة الابراهيمية.
°أن الناس معادن و كل ميسر لما خلق له و ما عليه الا الاتقان ليترقى في درجات العلا في تخصصه.
°أن عماد خلق النبوة الصدق.
°أن تبليغ الرسالة يأتي انطلاقا من القدرة على استيعاب الرسالة التي يتوصل اليها العبد انطلاقا من استعداده المكتسب و الموهوب و استقباله لها يكون إما فكريا كما يحصل للعلماء أو قلبيا روحيا كما يحصل للأنبياء و الأولياء.
°أن الوصول الى محتوى الرسالة المراد تبليغها ياتي بعد معراج روحي أو فكري أو زماني أو مكاني يغيب عن الآخرين الذين لم يحصل ذلك المعراج بعد في حقهم فمن صدق منهم نجا و الا فالعكس بالعكس.
الهوامش
1، مي مجدي الحمام الزاجل تاريخ من نقل الرسائل عبر العالم، مجلة كايرودار الالكترونية.
2، عبد الله الجعيثن ، التضمين والاقتباس (التناصّ) في الشعر الفصيح والشعبي (١-٢)
3، فراس نور الحق ، عندما تتحدث جلالة الملكة ـ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
4،سعود بن عيد العنزي ، عقوبة الكذب عند النمل
5، مجلة ويكي بيديا الالكترونية
6، الحياة اللندنية ، 29 أبريل 2014
7، المقال منشور على جريدة قريش اللندنية و موقع إسلام مغربي و موقع ذوات الذي يصدرعن مؤسسة مؤمنون بلا حدود
8، هيثم سلامة، جاليليو جاليلى .. مكتشف كروية الأرض، كيرو دار.
اترك رد